الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أطلال ذاكرة -8-

العياشي الدغمي

2020 / 5 / 28
الادب والفن


"خال عبد الغني القرقوري، عايشة قنديشة، الحصان.. ولمسطي بوخنشة" (الأحمق صاحب الكيس)
ابتلعت آلامي وأحزاني، وأكملت السير رفقة "الخونة" الذين تركوني أعاني مرارة وقساوة لكمات "لعسولي" وركلاته لجسدي شبه الإنساني النحيف .. كما التزمت الصمت في مواجهة تهكمهم وسخريتهم اللاذعة، بكل صراحة خوفا من تركهم لي وحيدا في طريق العودة إلى المنزل .. ذاك الطريق المتعرج والطويل جدا على قدرات طفل لازال يكتشف معنى ثمان كيلوميترات ذهابا وإيابا للتمدرس.. طريق حيكت حوله أساطير ومغامرات درامية وأخرى غرامية نسجها البشر مع الجن. وخاصة بين رجال آدميين، وجنيات عاشقات هائمات لم يرق لهن غير أولئك الرجال ذوي الشوارب الخشنة والأيادي الصخرية، وما بالك بصلابة المشاعر وقساوة القلوب..
لقد كنا ونحن عائدون من المدرسة، نتقاسم الأحاديث عن تلك المغامرات، بل وأصبحنا نحن الأطفال أكثر إبداعا في نسج أساطيرنا الخاصة، لكثرة ما تكررت على مسامعنا في مجامع الكبار.. لكن بالحفاظ على الشخصيات الرئيسية وعلى ألقابها وقدراتها الأسطورية على الإيذاء أو المساعدة اللذان كانا ينالهما البشري منها.
"شفتو هاذيك النخلة لي لهيه حدا لقرع ولد بندعيجو" (أرأيتم تلك النخلة هناك المحاذية لسكنى الأصلع ابن بندعيجو) قائلا نبيل الأشقر .. التفتنا جميعنا ووضعنا تلك النخلة نصب أعيننا .. ثم أخذ مسهبا في الحكي عن مغامرات الكثير من رجال القرية، قدمائهم ومعاصريهم، أحيائهم وأمواتهم.. الذين كانوا يرتادونها خفية، وفي عز الظلام، ليقابلوا حسناوات الجن القاطنات بها فيمارسون معهن الحب ويتبادلون العشق، حتى ظهور الخيط الأبيض من الخيط الأسود معلنا عن نهاية الليل، ليعودوا لمنازلهم وزوجاتهم الآدميات. بل حتى أن من بين هؤلاء الرجال من كان متزوجا من جنية اتخذته عبدا لها وفرقت بينه وبين زوجته الآدمية، وشتت شملهما وشردت أبنائهما.
إن الأمر يتجاوز ما يتبادر في ذهن أي قارئ الآن.. فمن خليل إلى حبيب هائم في حب الجنية، إلى متزوج بها، حتى أن من كان يختفي لأسباب مجهولة من رجال القرية، كان ينسب اختفاؤه لقدرات الجنيات الخارقة للعادة في التوغل والاستيلاء على البعض من هؤلاء الرجال وتملكهم. لقد كانت الجنيات "تسكن" الرجال حرفيا، وتتخذ منهم ملجأ لها، فتغير من نظرتهم لزوجاتهم أو حبيباتهم الآدميات، بل وتغشي أبصارهم حتى عن فلذات أكبادهم الصغار في بعض الحالات.
"كتعاود لينا فاطمة/لواليدة : كان عبد الله ولد لحاج بناصر، كيخرج في نص ليل، مكيعرفوه فين مشى حتى لصباح كينوضوا، كيلقاوه حداهم. امتى رجع الله اعلم.. كانت مربوطة1 فيه جنية في نخلة سميتها خدوج، كتعطيه لفلوس، وكتعاونوا على زمان، ولكن مكتخليهش ينعس مع مراتو، وحق الله العظيم يلا شحال من مرة كان أتكيغبر على ولادو2 ثلاث يام، ربعيام .. بلاما يعرفوه فين كيمشي" (تحكي لنا فاطمة أمي : كان عبد الله بن الحاج بناصر، يخرج في منتصف الليل، لا يعرف أهله أين ذهب حتى يستيقظوا صباحا ليجدوه بجانبهم. متى عاد؟ الله أعلم.. لقد كانت تربطه علاقة بجنية في تلك النخلة تسمى خدوج، كانت هذه الأخيرة تمنحه النقود، وتعينه على مواجهة مصاريف المعيشة، ولكنها لم تكن تسمح له بالنوم رفقة زوجته3، أقسم بالله العظيم، أنه في كثير من الأحيان، كان يغيب فجأة عن أبنائه لثلاث أو أربع أيام، دون أن يعرفوا أين كان يذهب) يحكي نبيل "الصفريط" نقلا عن أمه. وقبل حتى أن يترك لنا فسحة زمنية لتخيل شكل أو لون أو حتى طول هذه الجنية المحبة، يتدخل فجأة عبد الغني القرقوري (الأشعث)، هذا صاحبنا الذي كان يجيد نسج الحكايات الهوليودية الضاربة في الأسطرة والتهويل أفضل حتى من كبار روائيي الخيال العلمي الذين حالفني الحظ كي أقرأ لهم : "وأنا خالي راه كانت مزوجة بيه عايشة قنديشة، وكانت كتموت عليه، عطاتو عود كبير وصحيح رجليه قد لبوطة كاز صغيرة، كان كينقز بيه واد شراط4 من لقنت لقنت" (وأنا خالي كان متزوجا من "عائشة قنديشة"5 ، كانت تحبه كثيرا، منحته حصانا ضخما وقويا، حوافره بقياس قنينة الغاز الصغيرة، كان يقفز وادي الشراط من الضفة للضفة الأخرى وهو على صهوته". ساد صمت رهيب بعدما سمعته أذناي عن هذه الأسطورة، وسرحت بمخيلتي في محاولة لجمع الأوصاف الملائمة لهذا الحصان، ولمن يمتطيه، أي خال عبد الغني الأشعث. صراحة كانت مخيلتي حينها لا تزال طرية بما فيه الكفاية، ومرنة لتقبل هذه الأوصاف والخصائص (الخرافية بمعايير العياشي اليوم). إني أصبحت مدمنا على قصص وأحاديث عبد الغني القرقوري، وعن مغامرات خاله وعيشة قنديشة والحصان ذي الحوافر الضخمة.
كنا في كل يوم ونحن عائدون من الحصص الدراسية، نذكره بالحدث الذي توقف عنده في اليوم السابق، ليتابع المغامرة من حيث انتهى، ومن طرائف ما حكى لنا - وكأن ما قيل لم يكف - أنه ذات يوم وهو يمتطي صهوة حصانه ذاك "يقصد خاله" قطع المسافة بين محل سكنه، ومحل سكنهم، والتي كانت تقدر ب 14 عشر كيلومترا، في ظرف لم يتجاوز الدقيقتين... نعم صدق أو لا تصدق أربعة عشر كيلومترا وعلى صهوة الحصان في دقيقتين، نعم دقيقتين يؤكد عبد الغني.. لقد كان أسرع من المكوك الفضائي وهو في إحدى مهماته الاستكشافية، لقد كان لعبد الغني وخاله زمنهما الذي سبق زماننا بسنوات ضوئية وهو على صهوة الحصان القنديشي داك.
ونحن نصغي بشوق وخشوع لتلك الأسطورة، فإذا بأحدهم، أظنه "عبد الإله زليڭ---ة" يصيح : "بوخنشة ... بوخنشة ...وا لمصطي .. وا لمصطي ..." (صاحب الكيس .. صاحب الكيس .. إنه الأحمق .. إنه الأحمق) ... فإذا بكل من كان خاشعا، أصبح فجأة في عز يقظته، يطلق ساقيه للريح، دون أن يلتفت لمن حوله أو خلفه.. هربا من "بوخنشة هذا" ...
(يتبع .. عن العودة إلى المنزل وعدم الرغبة من جديد في العودة للمدرسة)
الهوامش
1- المقصود هنا : أنها كانت تحبه حبا جما.
2- ولادو : غالبا ما كان يعنى بها (الزوجة والأبناء معا)
3- والمقصود هنا : تمنعه من ممارسة الجنس معها.
4- وادي شراط هذا : عبارة عن وادي يوجد بين مدينتي بوزنيقة والصخيرات الصغيرتين، يصب في المحيط الأطلسي، ويمتد إلى داخل اليابسة بكليلومترات معدودة (حوالي 20 كلم) .. تمتد المسافة بين ضفتيه حوالي ال 500 متر في بعض النقاط.
5- عائشة قنديشة : شخصية أسطورية كانت بطلة للعديد من حكايات المغاربة، بل ومن أشهر الشخصيات الفلكلورية المغربية خاصة عندما يتعلق الأمر بعالم الجن والشياطين وغيرها .. هناك من يرى فيها شخصية نبيلة تساعد البشر في الشدائد والمحن، ولكن الصورة النمطية حولها تظل عن تلك الشخصية القبيحة الشريرة والقاسية ذات الأرجل الحيوانية (أرجل دجاجة، أو عنزة، أو ناقة) وما تبقى منها ذو هيأة بشرية، تقطن غالبا في المستنقعات والأودية (عايشة مولات لمرجة)، تخطف الرجال وتتزوجهم عنوة وتفرقهم عن زوجاتهم وحبيباتهم، .. وهناك رواية تقول أنها شخصية واقعية contessa قاومت الاستعمار البرتغالي ... إلخ.

مدينة الزمامرة - المغرب
بتاريخ 27 ماي 2020








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله