الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن رحيل عبد الرحمان اليوسفي.. فلتتحقق الحقيقة حتى لو فني العالم!

عبد الرحيم التوراني
صحفي وكاتب

(Abderrahim Tourani)

2020 / 5 / 30
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


مات عبد الرحمان اليوسفي بعد عمر طويل، ظل خلاله متمسكا بالتزام الصمت. لم يرغب أبدا في تدوين مذكراته السياسية وسيرته الحياتية، هو الذي لا تعوزه العبارة، فخطبه -التي كان يحرص على كتابتها بنفسه- تتصف بكثير من جودة الصياغة وسلامة اللغة.

لا يمكن اعتبار ما نشره امبارك بودرقة في 2018 في عداد المذكرات والسيَر الذاتية، بل هي مجرد عملية تجميع لخطب ولحوارات ومداخلات حزبية ومحاضرات للكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وأخرى رسمية للوزير الأول، عبد الرحمان اليوسفي.

إن “أحاديث في ما جرى”، الذي صدر في ثلاثة أجزاء (دار النشر المغربية بالدار البيضاء) اثنان منهما وثائق منشورة وأرشيف جرائد متاح، والجزء الأول جاء بعد أن اطلع اليوسفي على ما جمعه بودرقة من أوراق، فخاطبه قائلا: “هل أنا قلت كل هذا الكلام؟!”..
ثم تنازل اليوسفي وقبل، عن طواعية، الإدلاء ببعض الشذرات من حياته. فكان الجزء الثالث (الأول في الترتيب).
واختار عبد الرحمان اليوسفي، عن عمد وإصرار، عدم تناول سيرته النضالية حين كان معارضا منفيا يخطط بوسائل الكفاح المسلح، مع رفيقه المرحوم محمد الفقيه البصري، لقلب نظام الحسن الثاني. وقد حدثني الراحل أحمد بنجلون يوما، وكان يقف أمام مجموعة من المناضلين الثوار المغاربة في معسكر الزبداني بضواحي دمشق في سوريا، يفسر لهم ما تعلمه عن حرب العصابات، حين وقف، فجأة، في باب مكان التدريب كل من الفقيه محمد البصري وعبد الرحمان اليوسفي، وقام هذا الأخير وأوقف أحمد بنجلون آخذا منه الكلمة. ويعلق “عبد المومن” (الاسم الحركي لأحمد بنجلون) أن عبد الرحمان كان أكثر تطرفا منه.

عبد الرحمان اليوسفي كان هو المسؤول الأول عن إذاعة “صوت التحرير”، التي كانت تبث من طرابلس ليبيا لمهاجمة نظام الحسن الثاني بشدة وقسوة، وكانت برامجها تحظى بمتابعة واسعة من المغاربة, هو من كان يكتب الافتتاحيات النارية ل"صوت التحرير". وكان المكلف بالإذاعة هو ابراهيم أوشلح، ومعه امحمد التوزاني والحسين المانوزي، وكان أيضا مناضل مغربي آخر يخاطب ساكنة الصحراء، يلقي برنامجه باللهجة الحسانية، ولم يكن غير مصطفى الوالي، الذي استفاد من نظام معمر القدافي بعد أن زكاه الفقيه البصري لدى قائد الثورة الليبية، وأسس تنظيم البوليزاريو.
كان الفقيه واليوسفي يخططان ل"البؤرة الثورية"، التي منها يبدأ "تحرير المغرب من نظام الدكتاتورية والاستبداد".

لكن الرسالة التي قام بتسريبها عمر السغروشني إلى مجلة “لوجورنال” سنة 2001، تحمل في كلماتها حقيقة تورط الاتحاديين بكل فصائلهم، في الداخل والخارج، في محاولة الانقلاب الثانية في 16 غشت 1972 التي قادها الجنرال محمد أوفقير، وتكشف بين سطورها أيضا ذلك الخلاف الذي نشأ بين اليوسفي والفقيه البصري، هذا الأخير الذي تم مسح كل “المحاولات الثورية” فيه، وخرج منها اليوسفي بريئا.

ورغم أن مذكرات (عباس) امبارك بودرقة التي جمعها عن اليوسفي ركزت على بدء التاريخ فيها بتولي عبد الرحمان اليوسفي لحكومة التناوب في 1998، فإنها لم تفلح في تقديم تفسير عن سر ومضمون القسم على المصحف، الذي أقسم به عبد الرحمان اليوسفي أمام الملك الحسن الثاني. وإن كان الكثيرون يعرفون اليوم أنه قسَم من أجل العمل على تمرير انتقال المُلك إلى ولي العهد، سيدي محمد، بالسلاسة والسلمية المبتغاتين، إذ لم يكن تعيين معارض قديم في رئاسة الحكومة “اعتذارا من الحسن الثاني عن انتهاكات حقوق الإنسان زمن سنوات الرصاص”، كما دوّن أحد الأصدقاء في فيسبوك.

***

عندما تم تقديم “أحاديث في ما جرى” في 8 مارس 2018 بالرباط، كان ذلك أمام حضور وازن لرفاق عبد الرحمان اليوسفي من المغرب والخارج (الإسباني فيليبي غونزاليز والجزائري الأخضر الإبراهيمي والمصري محمد الفايق). ولم يكن بين الحضور من يجلس على رأس الاتحاد الاشتراكي، إدريس لشكر. وحدث اللقاء في مكان حاول رفاق اليوسفي تفجيره في الشهر نفسه من 1973، وهو مسرح محمد الخامس، وكان بينهم عباس بودرقة، صاحب “ما جرى”!

وحين نظّم اليوسفي ذكرى مرور نصف قرن على اختطاف رفيقه المهدي بنبركة واغتياله، في احتفال سياسي بعنوان “مكانة الشهيد المهدي بن بركة في التاريخ المعاصر”، لم يوجه الدعوة لإدريس لشكر، الذي لم يكن بين المدعوين في المكتبة الوطنية في العاصمة، وحضر الملك محمد السادس من خلال رسالة تاريخية تُليت على الحاضرين.

ولعل محمد اليازغي وعبد الواحد الراضي يرددان ما جاء في تلك الرسالة الملكية “ليس هناك تاريخ سيء أو تاريخ جيد”، وينسج عليها إدريس لشكر معزيا نفسه “ليس هناك كاتب أول للاتحاد سيء، كل من ترأسوا الاتحاد جيدون”..

***

حين هاتف الملك الحسن الثاني عبد الرحمان اليوسفي في 1995، وكان اليوسفي غاضبا في منتجع “كان”، طالبه بأن يعود وقال له إنه هذه المرة لن يخلف وعده معه، كما فعل في 1993، عندما اضطر اليوسفي إلى الاستقالة من مهمته السياسية، احتجاجا على ما وقع من تزوير في الانتخابات التشريعية، وغادر إلى فرنسا، يحمل معه حقيبة صغيرة في اليد و”حزنا كبيرا في الرأس والقلب”، كما يقول إدريس الخوري.

عاد السي عبد الرحمان في أبريل 1995، ليمهد لما سيعرف لاحقا بـ”التناوب”، ومن شروطه تعديل الدستور (1996) وعودة المغتربين، الاتحاديين أساسا، يتقدمهم الفقيه محمد البصري، الذي أمضى في المنفى ما يناهز ثلاثة عقود، والذي عاد في أجواء احتفالية غير مسبوقة، عند استقباله التاريخي في مطار محمد الخامس يوم 10 يونيو من السنة نفسها.

كثيرون، وأنا واحد منهم، كنت أظنّ أن القائد هو الفقيه البصري، لكنْ سأكتشف أن الفقيه البصري كان يلتزم بأوامر اليوسفي، فمثلا منعه بعد عودته من الإدلاء بتصريحات وأحاديث للصحافة، بل حذره مرة من اللقاء بمصطفى العلوي، صاحب “الأسبوع الصحفي”. والحوار الوحيد الذي أنجزته مع الفقيه بعد رجوعه، ونُشر في مجلة “السؤال -الملف”، لم ينشر قبل إرساله بالفاكس إلى السي عبد الرحمان، الذي كان في أثينا عند عائلة زوجته اليونانية، وأرجعه لنا بالفاكس بعد “الحذف والتصويب”.

عمل الفقيه مع عبد الرحمان اليوسفي ومحمد عابد الجابري على إقناع الصحفي الكبير محمد الباهي بالعودة إلى المغرب والإمساك بجريدة الحزب، وهو القرار الذي استجاب له صاحب “رسالة باريس” وأدى إلى وفاته.. وسيكتب الاتحادي السابق حميد برادة في “جون أفريك” الباريسية: لقد رموا بالباهي إلى “عش العقارب”. والعش كان في “رقم 33، زنقة الأمير عبد القادر”، حيث مكاتب جريدة “الاتحاد الاشتراكي”. أما العقارب فهم من أرعبهم وصول الكاتب والصحافي الكبير، وهم من الصغار جدا ومن التافهين المرتزقة، وأذكر منهم هنا محمد بوعبيد من القسم الرياضي، الذي نشر الباهي قرار طرده في الصفحة الأولى من صحيفة “الاتحاد الاشتراكي”، لكنه أعيد في اليوم التالي، وكانت عودته من أسباب انتكاسة محمد الباهي صحيا ونقله إلى “مصحة الحكيم” في العاصمة الاقتصادية، ليغادر الحياة بعد ذلك بأيام قليلة.

ورغم أن اليوسفي استجاب لمطلب محمد عابد الجابري بإنشاء “لجنة تقصي الحقيقة” في موت رفيقه الباهي، فإن نتائج عمل تلك اللجنة لم تنشر ولم يطّلع عليها المناضلون والرأي العام.

وستبوء بالفشل فكرة تأسيس “مؤسسة محمد الباهي”، إذ لم يتحمس لها اليوسفي كثيرا، وكذا البصري، وبعض تفاصيل حقيقة الخبر عند ابنة درب غلّف، فاطمة أرسيم، أرملة الباهي.

***

لكنْ ما الذي حدث حتى تباعد الرفيقان البصري واليوسفي ونشأت بينهما فجوة؟!
لا أعرف مصير الرسالة الطويلة التي كتبها محمد الفقيه البصري إلى عبد الرحمان اليوسفي، يفسر له فيها عدم اتفاقه معه في كثير من الأمور، خاصة ذات الصلة بتسييره للحزب، علما بأن الفقيه البصري هو من دفع بقوة اليوسفي إلى تولي مهمته التاريخية لخلافة عبد الرحيم بوعبيد على رأس الاتحاد، إذ كان اليوسفي مترددا ومتهيبا، وكان محمد اليازغي كله استنفار للانقضاض على المهمة، مستندا إلى القانون الحزبي؛ كيف لا وهو من كان يصرّ على أن يوصف في إعلام الحزب دائما بـ“الكاتب الأول بالنيابة”. ولما ذهب اليوسفي غاضبا إلى منتجع “كان” قاد اليازغي الحزب وفاوض بحماسة من أجل التعجيل بتنصيب حكومة التناوب، قبل إفشالها من قبَل الزعيم النقابي محمد نوبير الأموي وتراجُع القصر.

***
هناك آخرون، منهم بعض الانتهازيين (معذرة، فلم أجد توصيفا أدق) من الراكبين على نضالات الاتحاد وتراثه وتاريخه المجيد ومن المتقلبين، سعوا إلى نشر صورهم اليوم مع الراحل اليوسفي وادّعاء قربهم منه، وهو الأمر الذي لم يكونوا ليجرؤوا عليه لو ظل عبد الرحمان اليوسفي على معارضته للنظام، ولو لم يحظ بالرضى الملكي التام.

***

يحضرني الآن أحدهم، ممن يجيدون الأكل من الأطباق الباردة، واحد من المستفيدين من مرحلة “التناوب”، كان قد أصدر كتابا أراده سبقا وزعما عن مذكرات لليوسفي، لكن المصداقية والحقيقة تحتاجان دائما إلى الصادقين الحقيقيين وليس إلى المتملقين الجوعى، متصيدي الولائم.

***

هناك مثل إفريقي يقول "كل عجوز يموت هو بمثابة مكتبه تحترق".. رائحة الحرائق تعمّ المغرب منذ رحيل عبد الرحيم بوعبيد وعلي يعتة والفقيه البصري، واليوم عبد الرحمان اليوسفي!...

الحقيقة في مكان آخر، فما نطالعه حاليا هو سلسلة مذهلة من الأكاذيب والأباطيل ودهس مروع للحقائق، ليس سهلا استيعابها وليس صعبا تفنيدها.
لطالما عُدّ الكذب أداة ضرورية لتمرير سياسة ما. والكذب هو صنعة وخدعة الدّيماغوجيين من السياسيين بامتياز.
إن الصراع بين الحقيقة والسياسة قديم ومعقد، ولن يفلح الراغبون في إدانته أخلاقيا فقط. إنه صراع لامتكافئ ومرير في أغلب الأحيان.
إن الوقائع التاريخية توضح لنا دائما مخاطر البحث عن الحقيقة، وكثير هم الشهود على الحقيقة ممن يربؤون بأنفسهم التقدم للإدلاء بها، وهم يرون تزييف الحقائق يمر أمام ناظرهم فيصمتون، ما دامت الحقيقة نيرانا ملتهبة حارقة. وخوفا من أن يُرموا بتهم الكذب والتضليل وليّ الحقيقة، إن لم يجدوا أنفسهم موضع سخرية وتنكيت وتحقير.

مرة قال الفيلسوف اليوناني أفلاطون إن العامة لا تحب الحقيقة، و”إذا وقعت أيدي الناس على قائل الحقيقة فإنهم سيقتلونه”.
الناس لن يقبلوا تكسير الثمثال الجميل الذي صُنع بإتقان ونُصب أمام أعينهم المنبهرة. بل يتشبثون به ويتمسحون بقاعدته الخراسانية، كما كان القدماء يعبدون الصنم ويبجّلون الأوثان.
لكن الحقيقة لا تُمحى وتزول، مهما امتد الباطل وطال الزمن، لا بد لها أن تظهر، كما قالت المنظرة السياسية والباحثة الألمانية حنّا أردنت.
“فلتتحقق الحقيقة حتى لو فني العالم!”...
عزاؤنا واحد في وفاة اليوسفي.

(بيروت)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية


.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس




.. إيران تحذر إسرائيل من استهداف المنشآت النووية وتؤكد أنها ستر


.. المنشآتُ النووية الإيرانية التي تعتبرها إسرائيل تهديدا وُجود




.. كأنه زلزال.. دمار كبير خلفه الاحتلال بعد انسحابه من مخيم الن