الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صديقي الفأر

ملهم جديد

2020 / 6 / 1
الادب والفن




بعد أن أغلقت المطاعم التي تنتشر في الشارع الذي أعيش فيه في نيويورك أبوابها بسبب الحجر الذي فرضه وباء الكورونا ، تكاثر عدد الفئران التي تغزوا البيوت بحثا عن الطعام ، و كان نصيبي منها فأر لمحته مرتين يركض تحت البراد ليختفي تحت الفرن ،
و في الليل ، كنت أحس بوجوده من خلال الخشخشة التي كنت أسمعها قادمة من جهة المطبخ ، و مثل أي إنسان معاصر يعيش في مدينة كبيرة و مكتظة ، فقد كنت أحتفظ بمصيدة فئران في مكان ما ، لكن نسيت أين وضعهتا ! بحثت عن المصيدة و وجدتها ، ثم نصبتها له مع قطعة جبنة مغرية و ثمينة في هذا الوقت من أوقات الحجر . و كإنسان مغرور يظن بأنه أذكى من غيره من المخلوقات ، اعتقدت بأني أعرف كيف يفكر الفأر ، لأكتشف من دون أن أتخلى عن غروري ، بأنني لست فقط لا أعرف كيف يفكر الفأر ، بل الفأر هو الذي يعرف كي أفكر ! ، فكان يتجنب المصيدة ، و يشيح بوجهه عن الإغراء الذي تمثله قطعة الجبن ، ليكتفي ببقايا الطعام المتناثر على الأرض . و حدث أكثر من مرة ، في منتصف الليل ، وبينما أنا مسترخ على الصوفا ، كنت أراه يتسلل بهدوء من غرفة التدفئة ، ثم يقترب من المصيدة ، يتأملها لبعض الوقت ، و أحيانا يدور حولها ، ثم يعود و يتأملها من زوايا مختلفة ، فأتأكد بأنه سوف يرتكب الحماقة التي ستودي به ، و يخالجني ذلك الشعور باقتراب النصر ، ثم لا يلبث الفأر أن يخيب أملي ، و يختار القليل المضمون بدل الشهي الذي قد يكلفه حياته . إلى الآن لم تكن المواجهة بيني و بينه قد أخذت الطابع الشخصي ، و احتفظت بالطابع التقليدي ، هو يريد ( و هذا حقه ) أن يأكل ، و أنا أقدِّر كفاحه ، بينما أريد أنا ( و هذا حقي ) ، أن لا يعتدي أي كان على حرمة منزلي ، و أشك في أنه كان يقدِّر حقي هذا !، لكن ، و كما يقولون في العلم العسكري ، لا توجد معركة تسير كما هو مخطط لها ، و بسرعة دراماتيكية حدث تحول مهم لتصبح المعركة شخصية و شخصية جدا ، فقد استيقظت في صباح كوروني كئيب ، وقبل أن أتجه إلى الحمام ، ألقيت نظرة على المصيدة لأكتشف بأن قطعة الجبن قد اختفت ، و لا أثر للفأر ، و لن أقول اللعين ( فمن تقاليد الفروسية احترام الأعداء لبعضهم البعض ) ، و للحقيقة ، ما خفف من طعم الهزيمة هو أنها كانت بلا شهود ، فعللت النفس بالأمل بالقبض عليه في المحاولة الثانية ، عدت و نصبت له الفخ ، وقد لاحظت بأنه طيلة مدة الحجر التي مضى عليها أسبوعان ، لم أشعر بمعنى لحياتي كما أشعر الآن ، فقد صرت أنام على أمل القبض على الفأر و أستيقظ نشطا للإحتفال بانتصاري على الفأر ، لأكتشف أن الفأر يراكم انتصاراته بينما أراكم أنا هزائمي . فجأة لا حظت اختفاء أي أثر للفأر ، المصيدة ما زالت منصوبة و قطعة الجبنة الشهية في مكانها ، لكن لا أثر للفأر . مرّ يومان و شعرت بالكآبة ، لقد نسيت ثأري معه ، كل ما أريده الآن أن يعود ، و ها أنا في اليوم الثالث أشعر بالقلق عليه ! ماذا يمكن أن يكون قد حدث له ! أنا متأكد بأنه لم يغادر المبنى ، و أخذت أفكر بالإحتمالات ، بعضها كان كئيبا و بعضها كان يحمل بعض الأمل بأنه ما زال على قيد الحياة . فكرت بجاري الهندي الذي يسكن في الشقة المقابلة لشقتي ، رجل خمسيني مهيب و مسالم ، عنده كشك لبيع الجرائد ، و كان قد أخبرني في أحاديث متفرقة بأنه من أتباع مذهب يؤمن بأن للحيوانات أرواح مقدسة مثل أرواح البشر ومن الحرام قتلها حتى لو لجأت إلى الإيذاء ، فاستبعدت أن يكون الفأر قد لقي حتفه على يديه ، و في الطابق السفلي كان يسكن جاري الصيني ، و هو الآخر رجل مسالم لا أعرف كيف أنجب أربعة أولاد ، فهو إما يعمل ، أو نائم من أجل أن يستيقظ نشيطا في اليوم التالي لمعاودة عمله ، في الحقيقة ، و مع أني كثيرا ما أحرص على عدم التفكير على أساس الأفكار المسبقة و الإتهامات التي تتقاذفها الأعراق البشرية بين بعضها البعض ، إلا أن فكرة أن يكون هذا الجار المسالم قد قبض عليه و أكله خالجت ذهني ، و تذكرت بأنه في أحدالأيام قال لي ممازحا ( مع أنه لم يكن مزوحا ) بأننا نحن الصينيين نأكل كل شي له أربعة أرجل ما عدا الطاولة ! . أما جاري العربي الذي يسكن مقابل الصيني ، فكان شخصا أميا عنده محل سمانة في الشارع الذي أعيش فيه ، و حتى بعد ثلاثين عاما من وجوده في أميركا فإنه ما زال يطلق على الأفارقة الأميركيين إسم العبيد ! ، لم تكن علاقتي به جيدة ، فمن حوالي السنة أوقفني عند مدخل البناية و بيده ورقة ، قال لي بعد أن ألقى السلام بأنه بعد أن كثر المسلمون في الحي ، فقد قرر هو و بعض الأخوة أن يجمعوا تبرعات لبناء مسجد صغير ، أتذكر بأني نظرت إليه و كنت نصف سكران و قلت : بأني لم أدخل المسجد في حياتي سوى ثلاث مرات و كان ذلك من أجل استخدام الحمام . امتعض الرجل و انقطعت علاقتي به كليا ، لكني التقيت به حديثا ، و بمحض الصدفة ، في صيدلية الحي منذ يومين ، كان برفقة عربي آخر ، تحاشينا أن تلتقي نظراتنا ببعضها البعض، لكن بدافع من الحشرية ، فقد أنصت لحديثه ، و سمعته يقول لصديقه بأن في شقته فأر لعين رَآه أكثر من مرة يخرج من سجادة الصلاة الملفوفة و المركونة في الزاوية و يخشى أن تبطل صلاته بسببه ! و في الطابق الثالث ، كانت هناك شقتان ، واحدة معروضة للإيجار، بينما كان يسكن في الشقة المقابلة لها رجل بولندي طويل و قوي البنية ، مرح و بشوش غير أنه في حالة سكر دائم ، ومع أني سكنت في البناية قبله ، فما زال إلى الآن و بعد سنة من انتقاله إليها ، مازال يعرِّفني على نفسه و كأنها المرة الأولى التي نلتقي فيها ، و يتمنى لي إقامة سعيدة في شقتي الجديدة ! و فكرت بأنه من المستبعد أن يكون الفأر قد لقي مصيره في شقته ، فإذا كان قد استطاع النجاة مني ، فإنه لم يكن من الصعب أن ينجو منه ، هذا إذا كان البولندي قد لاحظ وجوده أصلا ! .
الآن أجلس وحيدا ، لا أعرف ماذا حدث لفأري العزيز ، و ما يخفف من وحدتي هو صورة كنت قد التقطتها له بموبايلي بينما كان واقفا يتأمل قطعة الجبن في الفخ ، و إذا كنت في السابق أذهب إلى النوم آملا أن يكون قد علق في المصيدة ، فإنني الآن أذهب إلى النوم آملا أن أستيقظ و ألمحه حيّا يرزق ، بينما لا أكف طيلة يقظتي عن تفقد قطعة الجبن التي و ضعتها له قرب الفرن ، قطعة جبنة في صحن من الصحون التي كنت فيما مضى أقدم فيها الطعام لضيوفي الأعزاء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه