الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تيدي كاتس ومجزرة الطنطورة*

محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)

2020 / 6 / 1
القضية الفلسطينية


كثيراً ما كنت أُصدم, دون معرفة السبب, بردة الفعل المبهمة والخوف الذي أراه في عيون الأشخاص الذين كنت أحاورهم لدى سؤالي لهم عمّا إذا كانوا يعرفون أشخاصاً هجّروا من قرى سنديانة أو إجزم أو الطنطورة,و ما لفت نظري أكثر حجم القلق الذي كان يثار في نفوسهم عند ذكري اسم " الطنطورة" , ومن هنا قررت البحث في الأمر وكنت على قناعة أن البحث في مثل هذه الأمور لن يكون مرغوباً فيه ولا محبذاً لدى البعض إذ سوف أفقد صفتي كمؤرخ باحث, وكنت بالتالي أتوقع المزيد من الصعوبات والتشكيك في الكشف عن مجزرة مرّ عليها زمن ليس بقليل كان البعض يفضل موت ذكرها دون أي ضجة إعلامية حولها. وقد تعرضت شخصياً لمضايقات عديدة فكثيراً ما كانت تأتيني اتصالات تلقي باللوم عليّ, وتتهمني, بتهكم واضح, بالضجة التي أحدثتها وأنه سوف ينتهي بي المطاف مشاركة الفلسطينيين قبورهم, ناهيك عن التكلفة المادية الباهظة التي تكبدتها بسبب الشكاوي التي رفعت ضدي في المحاكم وما تسبب ذلك بتشتت ذهني واضح أثر على عملي وانعكس سلباً على مجريات حياتي.
أذكر أن الصدفة جمعتني برجل تسعيني** أخبرني عن المجزرة التي "حدثت هناك", وللتأكيد على صدق قوله, بدأت أدقق في قضية القرية إلى أن توصلت إلى نتيجة قاسية, فقد شهدت القرية أكبر مجزرة تعرض لها الفلسطينيون في العام 1948 حين قامت وحدة " ألكسندروني" بقتل 230 فلسطينياً بدم بارد***.
وبكل تأكيد لا يعد اكتشاف حقائق تاريخية كهذه أمراً يستهوي للسلطات الإسرائيلية أو يروق لدولة إسرائيل لأن مثل هذه الحقائق لو نشرت سوف تفضح بشاعة ما تم ارتكابه في العام 1948 و يبرن على أن ما جرى هناك كان محاولة تطهير عرقي وليست مجرد نكبة.
أرجع فأقول, الصدفة وحدها قادتني إلى هذا, فقد كنت قد تقدمت برسالة الماجستير في جامعة حيفا, و أنهيت ما يترتب علي من الوظائف و الأبحاث التي تؤهلني للحصول على درجة " مؤرخ" وكان عليّ أن أختار إحدى القرى أو المدن كموضوع للبحث, فاخترت مدينة حيفا باعتباري أصلاً من سكانها, لكن الجامعة رفضت اقتراحي, فما كان مني إلا أن توجهت نحو القرى المجاورة وهكذا تعرفت على الطنطورة و ما حصل فيها من مجزرة, لكن الجامعة رفضت-من جديد- بحثي و أسقطته و ألغت عني صفة حاصل على ماجستير بدرجة باحث فصرت أحمل درجة الماجستير دون صفة الباحث, و بسبب نتائج بحثي قامت مجموعة من وحدة ألكسندروني -وهي الكتيبة التي شاركت في المجزرة- برفع دعوى ضدي-بدعم من الجامعة وبضغوط سياسية- بتهمة تحريف أقوالهم, علماً أني أحتفظ بنسخة مسجلة من جميع حواراتي والتي تتضمن شهادة 150 شخص عربي و76 شخص يهودي, 7 منهم من كتيبة ألكسندروني ممن شاركوا في المجزرة, منهم شخص تقاعد من الجيش سنة 1972 برتبة جنرال قال لي بالحرف الواحد:" عندما رأيت ماذا كان يفعل أصدقائي في المقابر, لم أستطع تحمّل المشهد, فذهبت من المكان" .. وقد أكد لي مراراً و تكراراً أنه لم يكن قائد الكتيبة بل كانت مهمته تتمثل بوضع المتفجرات عند مدخل القرية, ولعل هذا ما جعله يتحدث معي بصراحة عن وقائع ما حصل في الطنطورة, نظراً لأنه لم يشارك بصورة مباشرة في قتال الفلسطينيين, بالإضافة إلى ذلك كان قد قال لي أنه كان أحد المشاركين في الكتائب اليهودية التي حاربت النازية في الحرب العالمية الثانية تحت أمرة أحد الألوية البريطانية, وأكثر ما استرعى انتباهي, قوله "أتعلم بأن النازيين لم يقتلوا أسرى الحرب؟!".
لا أنكر دهشتي من هذه المقارنة غير المتوقعة, حتى حين أردف يحدثني عن المقابر الفلسطينية و ما حدث في الحرب العالمية الثانية وهو يقصد بطبيعة الحال ما تعرض له اليهود من مجازر على يد النازيين و مقارنته بما تعرض له الفلسطينيون على يد اليهود.
صدقاً لقد اقشعرَّ بدني من هذه المقارنة, وقلت في نفسي " يا الله هل هناك ثمة مقارنة أبشع من هذه, لقد صدمي حديثه هذا بشدة لدرجة إني لم أتفوه بحرف واحد وبقيت صامتاً طوال حديثه, إلى أن فاجئيني بقوله مستغرباً " كيف وصلنا إلى هذه الحالة من البشاعة, ثم تابع مستدركاً – وكأنه يعي خطورة ما يقول-" كيف وصلنا إلى ما وصل إليه الألمان؟" وكأن ما علق بذهنه من صور ما اقترفته كتيبته في الفلسطينيين في الطنطورة أعاده إلى المقابر اليهودية في زمن النازية.
و الآن عندما يلتقي كبار الضباط الذين شاركوا بالمجازر التي ارتكبت سنة 1948 وعنما يدور الحديث فيما بينهم أو أحياناً في محاضرات و اجتماعات كنت أحضرها بحكم عملي كانوا يقولون ببساطة شديدة : " خسارة إننا لم ننه الأمر آنذاك" في إشارة منهم إلى أنه كان ينبغي عليهم قتل الجميع, ثم يستأنفون بحسرة, ما لم ننجح في تحقيقه آنذاك لن ننجح في تحقيقه اليوم فمن الصعب اليوم تكرار ما حدث سنة 1948 .
ما حدث في الطنطورة كان مختلفاً عن باقي القرى و البلدات الفلسطينية. في العادة كانت القوات الصهيونية تدخل إلى القرية أو المدينة فتقوم بتجميع بعض الرجال و يحاصرون المداخل باستثناء جهة واحدة يتركونها مفتوحة للسماح لبقية السكان بالهرب. لكنهم في الطنطورة أغلقوا المداخل من الجهات الثلاث ومن البحر أيضاً, وجمعوا الرجال وبدؤوا يسألوهم عن السلاح ومن كان ينكر أو يجيب بالنفي كانوا يقتلوه فوراً ومن كان يعترف كانوا يقتادوه إلى حيث مكان السلاح فيتم إخراجه ومن ثم يعدموه في المكان****. و لعل " الغضب اليهودي" على الطنطورة وسكانها يعود لغضب اليهود سكان زخرون يعقوب المجاورة الذين كانوا ينظرون بحسد إلى سكان القرية بسبب غناهم الظاهر فقد كان جزء كبير منهم يملكون أراضٍ خاصة بهم وبعضهم كان يعمل في حيفا القريبة, والبعض الآخر اشتغل " مع " اليهود و" ليس عندهم" خلافاً لسكان العديد من القرى المحيطة الذين عملوا "أجراء" في المزارع اليهودية. وقد انعكست الحالة الاقتصادية الجيدة للطنطورة على البنية التحتية فيها إذ كانت شوارع القرية ذات أرصفة, هل لنا أن تخيل ذلك في قرية فلسطينية صغيرة سنة 1948 ؟ كما كانت بيوتها مزودة بحنفيات مياه, فضلاً عن انتظام أهل القرية في جمعيتين أهليتين, كانت الأولى تهتم بأمور السائقين والثانية كانت خاصة بالصيادين, وقد أخبرني الكثير ممن حاورتهم أنه لو استمرت القرية في الحياة لربما أصبحت اليوم مدينة كبيرة, وللتدليل على ذلك يذكر أن أهل البلد جمعوا سنة 1944 من أموال التبرعات 3750 جنيه إسترليني(وهو مبلغ ضخم في معايير تلك الفترة)وأكملت سلطات الانتداب المبلغ إلى 5000 جنيه لبناء مدرسة كبيرة لازالت قائمة حتى اليوم عند مدخل القرية*****( تستعمل اليوم كمركز لأبحاث الصيد تابع لوزارة الزراعة, وثمة الآن نصب أقامته وحدة ألكسندروني على رابية المدرسة ورغم التغيرات الطفيفة على المبنى الآن, إلا أنه مازال يحتفظ بطابعه الخاص, ومن الجدير ذكره أن السلطات المحلية لم تضع أي لافتة تشير إلى تاريخ إنشاء المبنى )
لم يكن الكشف عن مجزرة الطنطورة بالأمر السهل على كل حال, ولو قيض لي أن أكتب كتاباً جديداً فسوف يكون موضوعه عن مجزرة الطنطورة أيضاً, ولكن هذه المرة سأكتب عن تجربتي الشخصية وما تعرضت له بعد العام 2000 في المحاكم و في الجامعة و محاولات التعتيم الإعلامي على بحثي, سأكتب عن العالم الغريب الذي يلف الفضاء الأكاديمي الإسرائيلي. والطريقة التي حذف فيها اسمي من قوائم الحاصلين على درجة الماجستير رغم تفوقي بنسبة 97%.
.................
*مصدر المصدر بتصرف من حوار تيدي كاتس مع رِماح مفيد: المؤرخ كاتس: إسرائيل ندمتْ لعدم إبادة الفلسطينيين, للمزيد, انظر النص الكامل للمقابلة http://remah-mofed.blogspot.com/2011/12/blog-post_21.html#more، وبقيت المعلومات خصوصا في المصادر الإسرائيلية غير واضحة، عما حدث في الطنطورة إلى أن ظهرت نتائج أبحاث تيدي كاتس في نهاية تسعينيات القرن الماضي بعنوان «خروج العرب من قرى منحدرات الكرمل الجنوبي في العام 1948». وأورد في رسالته شهادات حية على ألسنة بعض لاجئي قرية الطنطورة، وبعض الجنود الذين شاركوا في العمليات العسكرية.
*‏*جاء في صحيفة «معاريف« الإسرائيلية، بحسب ما نقلت عنها الصحافة العالمية والعربية، ومن بينها صحيفة «السفير« اللبنانية في 28/1/ 2000 ما يلي: «فوزي محمود الطنجي (كان عمره 74 عاما) اللاجئ في مخيم بالقرب من طولكرم، وهو من الطنطورة، روى: لقد تم نقلنا إلى مقبرة القرية، حيث أوقفونا في طوابير، وجاء قائد اليهود وقال لجنوده: خذوا عشرة، فاختاروا عشرة منا، واقتادوهم إلى منطقة يكثر فيها الصبار وأطلقوا النار عليهم، ثم عادوا وأخذوا عشرة آخرين ليقوموا بالتخلص من جثث الأوائل، وبعدها أطلقوا النار عليهم، وهكذا». وجاء في المصدر السابق أيضا شاهد آخر اسمه مصطفى المصري (كان عمره 65 عاما) قال إن اثني عشر شخصاً من أفراد عائلتي قتلوا قرب منزلهم، وأن القائد اليهودي كان يجول في شوارع القرية، ويطلق النار على كل من يراه، وذلك بعد ساعات من انتهاء المعركة» هذا وقدرت بعض المصادر أن نحو 200 من سكان القرية قتلوا في المجزرة، وهذا العدد يفوق العدد الذي خلفته مجزرة دير ياسين. أما العقيد الإسرائيلي (بنتس يريدان) الذي شارك في ارتكاب المجزرة، فقد جاء في الملحق الثقافي لصحيفة (النهار) على لسانه في 29 /1/2000 ما يلي: «لم يكن من حق القوات المهاجمة أن تطرح أسئلة أو تبقي على حياة أحد من سكان القرية». وجاء في صحيفة «معاريف« بحسب ما نقلت عنها صحيفة «النهار« اللبنانية في 21/1/2000 التعليقات التالية: «الناطق العسكري الإسرائيلي اكتفى بالقول إنه وفقا للمعلومات المتوافرة لدى الجيش، فإنه لا دليل على حصول المجزرة». أما البروفيسور يوآف جلبار من جامعة حيفا، فقد رفض البحث، وقال إنه يقوم على شهادات شفوية فقط، وإنه لا يمكن إثبات حصول المجزرة.. أما المؤرخ مئير يعيل، فإنه علق: إن ما ورد في البحث لا بد أن يكون صحيحا، لأن الباحث يتمتع بصدقية ونزاهة. أما البروفسور آسيا كشير، فإنه علق «يدور الحديث عن بحث مهم يجب الانشغال به، وعدم التحفظ في القول بأن ما حصل هناك سيء جدا، والحرص على عدم تكراره ثانية»..
أما المؤرخ إيلان بابه الذي كان أستاذا في جامعة حيفا في تلك الفترة، فقد علق بالقول «إن الكشف عن ارتكاب المجزرة حدث في غاية الأهمية، لأنه وضمن أشياء أخرى، يوضح للإسرائيليين بشكل أكبر معنى النكبة وحجمها..!!
*** سقطت الطنطورة بأيدي العصابات الصهيونية ليل 22-23 أيار-مايو 1948 إثر هجوم قامت به كتيبة الهاغاناه الثالثة و الثلاثون ( الكتيبة الثالثة من لواء ألكسندروني) وكانت القرية قد رفضت شروط الهاغاناه للاستسلام كما يذكر المؤرخ الإسرائيلي بني موريس الذي يقول " كان من الواضح أن قادة لواء ألكسندروني أرادوا القرية خالية من سكانها و طرد على الأقل بعض هؤلاء السكان" , من الجدير ذكره أن تقرير مصير الطنطورة و بعض القرى الأخرى في محيط مدينة حيفا تحدد يوم 9 أيار-مايو إثر اجتماع بين ضباط الاستخبارات المحليين في الهاغاناه وبين خبراء بالشؤون العربية واتخذ القرار بطرد السكان أو إخضاعهم, وبعد سقوط البلدة صدر بلاغ عسكري إسرائيلي يوم 23 أيار-مايو( أوردته صحيفة نيويورك تايمز في حينه) جاء فيه أن مئات من العرب " وقعوا في أيدينا, فضلاً عن كميات كبيرة من الغنائم وقد ذكر مراسل النيويورك تايمز مزاعم الهاغاناه" غير المؤكدة" من أن البلدة "كانت نقطة تهريب للمتطوعين المصريين القادمين إلى فلسطين عن طريق البحر".
****يذكر إيلان بابيه في كتابه «التطهير العرقي في فلسطين» الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية 2007 ، كيف «أجبر سكان الطنطورة الأسرى تحت تهديد السلاح للتجمع على الشاطئ، ثم فصلت القوات اليهودية الرجال عن النساء والأطفال، وطردت الأخيرين إلى قرية الفريديس المجاورة، أضاف: وصف ضابط يهودي الاعدامات في الطنطورة قائلاً: «اقتيد الأسرى في مجموعات إلى مكان جانبي وقتلوا رمياً بالرصاص». وجاء في الكتاب أيضا عن مجزرة الطنطورة: «عندما انتهت العربدة في القرية، وتمت الاعدامات، أمر فلسطينيان بحفر قبور جماعية بإشراف مردخاي سوكولر من زخرون يعقوب، صحب الجرارات التي أحضرت للقيام بالمهمة الرهيبة، وقد روى في سنة 1999 أنه دفن 230 جثة، وكان العدد واضحاً في ذهنه: «وضعتهم واحداً تلو الآخر في القبر الجماعي.
*****يذكر وليد الخالدي في كتابه " كي لا ننسى" الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية سنة 1997 أنه كان يوجد في القرية مدرسة ابتدائية للبنين أنشأت سنة 1889 تقريباً وأخرى للبنات (أسست سنة 1937-1938) وهاتين المدرستين هما غير المدرسة التي يتحدث عنها كاتس, ويذكر والدي موسى الصباغ شخصياً وقت بناء المدرسة التي يتحدث عنها كاتس, علماً أنه درس فيها حتى الصف الرابع الابتدائي. كما يذكر عبدالله سليم أبو الشكر أن البلدة كان فيها نادي ثقافي اجتماعي رياضي و مستوصف يزوره أطباء بالتناوب و تعمل فيه ممرضة مقيمة بشكل دائم اسمها" ذهبية"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي