الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دفاعا عن الماركسية - ليون تروتسكي - مقدمة جوروج نوفاك

احمد حسن

2020 / 6 / 1
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


دفاعا عن الماركسية
دفاعا عن الماركسية هو دفاع تروتسكى الأهم عن المنهج المادي الجدلي. هذا العمل عبارة عن مجموعة من المقالات والرسائل الموجهة إلى أعضاء حزب العمال الاشتراكي الأميركي THE US SOCIALIST WORKERS PARTY في الفترة من 1939 إلى 1940. حزب العمال الاشتراكي Swp كان منخرطا في سجال داخلي مرير حول الطبيعة الطبقية للاتحاد السوفيتي، طبيعة الستالينية ومستقبل حزب العمال الاشتراكي كحزب ثوري. دفاعا عن الماركسية هو مساهمة تروتسكى في هذا السجال.
دفاعا عن الماركسية نشر أولا في 1942

هذه النسخة بواسطة DIMITRI VERSTRAETEN في عام 2002 مضافا اليها المأخوذة من طبعة نيويورك المنشورة في 1972، الطبعة الرابعة 4TH IMPRESSION في 1984).

مقدمة جورج نوفاك
دفاعا عن الماركسية
ليون تروتسكى
===========

مقدمة – جورج نوفاك
على مدى اكثر من أربعين عاما دافع ليون تروتسكى عن منهجية وأفكار الماركسية والعمل على تطويرها ، لقد التزم في شبابه باستخدامها ضد سلطة القيصر وكل عالم الرأسمالية ، وأثناء الحرب العالمية الأولى دافع عن الأممية الثورية، ضد الاشتراكية الوطنية وثوري الأممية الثانية ، كما دافع هو ولينين جنبا إلى جنب أثناء الثورة الروسية ، عن برنامج البلاشفة ، ضد الاتجاه المنشفي والاشتراكيين الثوريين، وبعد انتصار ثورة أكتوبر 1917، عبر قيادته لسوفييت بيتروجراد دافع ، كخطيب سياسي رفيع المستوى ، عن مبادئ الماركسية الثورية ، كما قاد الدفاع عن الدولة العمالية في الجبهات العسكرية ، وشارك مع لينين في تأسيس الأممية الثالثة لنشر أفكار الماركسية في النطاق العالمي . إلا أن معارك تروتسكى الأهم، في الدفاع عن الماركسية، جاءت بعد موت لينين، ومع بداية ظهور معالم الانحطاط البيروقراطي داخل الحزب الشيوعي السوفيتي، نظم تروتسكى ما عرف بالمعارضة اليسارية، التي حاولت التمسك بالبرنامج البلشفي في مواجهة الارتداد إلى الأفكار السياسية البرجوازية الصغيرة التي تبناها كتلة كامينيف / زينوفيف / ستالين.
وعلى الرغم من نفيه (بسبب معارضته) إلى الما اتا استمر في مشاركة المعارضة اليسارية داخل روسيا في نضالها ضد الاتجاهات التحريفية والمراجعات الناجمة عن انحطاط الكتلة الستالينية، ومن منفاه في تركيا قام بتنظيم المعارضة الشيوعية الثورية على نطاق أممي. وعندما خضعت الأممية الثالثة لشروط الفاشية في المانيا سنة 1933 دون مقاومة دعا تروتسكى لتشكيل أممية رابعة، جري تأسيسها فعلا في 1938.
وفى العقد الأخير من حياته قام تروتسكى بالدفاع عن الماركسية في مواجهة كلا من الفاشية ، والأفكار الديموقراطية البرجوازية الشائعة بين كل تنويعات البرجوازية الصغيرة، بداية من تجليها الستالينية في الأممية الثالثة، إلى المركزية المفرطة العقيمة ، أو التعددية اليسارية المنفلتة ، والفوضوية النقابية، لم يكن هناك اتجاهات مضادة للماركسية ذات شأن إلا وكان عليها أن تضع في اعتبارها نقد وتحليل تروتسكى لها وإجابته على ما تطرحه من تحديات في كتاباته ، وفي مواجهة ذروة تصعيدات أحداث الحرب العالمية الثانية انتصب تروتسكى بطلا في الصف الأول للمدافعين عن الاشتراكية الثورية .
في بداية الحرب العالمية الثانية كان تروتسكى مدعوا مجددا لخوض معركة للدفاع عن الأفكار والمبادئ الماركسية ، هذه المرة كانت المعركة ضمن صفوف الفرع الأمريكي للأممية الرابعة الذي اهتزت رؤيته بسبب الصدمة التي أحدثتها الحرب الدائرة في اوربا والضغوط الفكرية والسياسية الناجمة عن التحالف الطبقي ، وأفكار قادة مؤثرين في صفوف حزب العمال الاشتراكي مما اسفر عن ما وصفه تروتسكى بعباره " تخلى عن ، وتجرد من ، وإطاحة باﻷسس النظرية ، والمبادئ السياسية ، والمناهج التنظيمية لحركتنا " ( انظر ص 93 من الفصل ) ، لقد اخفقوا هم وأنصارهم ، اخفقوا ﻷن تروتسكى نفسه مر مرور الكرام على الخبرات السابقة للحزب البلشفي التي كانت تحذر من نشوب حرب إمبريالية أخري سينجم عنها بالضرورة حتما أزمة داخل صفوف حركتهم ، ففي مواجهة ضغوط هجوم عنيف من الرأي العام البرجوازي ، سوف تتشوش وترتبك العناصر البرجوازية الصغيرة داخل الحزب، وعلى الجناح البروليتاري في الحزب أن يكون مستعدا لمواجهة تلك المخاطر التي تسبب انهيارا في نفسية أعضاء الحزب وحالتهم المعنوية .لقد اخفقوا بسبب أن تروتسكى ، عندما اندلعت الأزمة ، شخص أولي أعراض طبيعة المرض وتوقع أن يكون طويل المدى، لقد اخفقوا ﻷن تروتسكى كان قادرا على قيادة الأغلبية البروليتارية في الصراع التالي للكتل الحزبية .
كان هذا العمل هو المنتج الأهم لفصول الصراع، فقد اختبر تروتسكى الاستعدادات والميول داخل صفوف حزبه. هاهى بعض المساهمات التروتسكية الأكثر نضجا في الماركسية، لقد أفني تروتسكى سنواته الأخيرة دفاعا عن وجهة النظر الماركسية، وأفرغ فيها اعلى طاقاته، لقد أتم كتابته الأخيرة التي تنطوي عليها تلك المجموعة في 17 أغسطس 1940 – فقط قبل ثلاثة أيام من تعرضه لهجوم العميل الستالينى الذي اغتاله وهو جالسا إلى مقعده.

2
أوضح تروتسكى في مقاله " من الخدش إلى خطر التعفن الصديدي " أن عناصر الانحراف البرجوازي الصغير قد نمت منذ وقت كبير داخل الحركة التروتسكية الأمريكية، اتجاه لم يجرؤ أن يعبر عن نفسه في إطار سياسي منظم إلا بعد أن دفع إلى ذلك دفعا تحت تأثير الأحداث المرتبطة باندلاع الحرب العالمية الثانية مباشرة.
الفرصة المباشرة لتشكيل المعارضة البرجوازية الصغيرة وتهجمهما على الماركسية جاءت عبر الدوران حول القضية الروسية، لم يكن ذلك أمرا مفاجئا، فمنذ 7 نوفمبر 1917 رسمت الثورة الروسية - والدولة السوفيتية، المنبثقة عنها، خطا فارقا وصلبا داخل صفوف الحركة العمالية في كل البلدان، الموقف المتخذ تجاه الاتحاد السوفيتي خلال كل تلك الحقبة صارا مقياسا يميز بين الاتجاه الثوري الصحيح، وغيره من التدرجات والظلال للمتذبذبين، التحريفيين، والاستسلام السريع أمام ضغط العالم البرجوازي، الاشتراكيين الديموقراطيين المناشفة، الفوضويون والنقابيون، المراكزيون، الستالينية. فسرعان ما تبين خلال تطور السجال أن رؤي كل هؤلاء كانت حاضرة.
في 22 أغسطس عام 1939 جاء الإعلان عن قيام تحالف بين المانيا والاتحاد السوفيتي، وسرعان ما أعقبه موجه هائلة من الدعاية المضادة للاتحاد السوفيتي واجتاحت "الديموقراطيين" الجناح البرجوازي الصغير في حزب العمال الاشتراكي شعر بهزة مزلزلة. في نفس اليوم أثناء اجتماع اللجنة السياسية للحزب، قدم شاختمان Shachtman الاقتراح التالي: أن يبدأ الاجتماع القادم للحزب بنقاش رؤيتنا للتحالف الألماني السوفيتي، في علاقته بتحليلنا للدولة السوفيتية، وأثر ذلك على منظوراتنا للمستقبل." شاختمان لازال مقرا بضرورة الدفاع عن الاتحاد السوفيتي، إلا أن اقتراحه يشير إلى انه بدأ يميل لوجهة نظر جيمس برنهام James Burnham التي كان معارضا لها من قبل.
في بعض الوثائق المدونة منذ عامين، برنهام، مثل عضو اللجنة السياسية شاختمان، كان قد ناقش فعلا المبادئ الأساسية للأممية الرابعة التي تعتبر الاتحاد السوفيتي دولة عمالية انحطت تحت حكم النظام الستالينى، وانه يجب على جميع عمال العالم الدفاع عنه ضد الهجوم الإمبريالي. لذلك كان إثر قيام هذا التحالف حدوث ازمه داخلية في حزبنا.
منذ أسبوع بدأت الحرب العالمية الثانية، وعلى أثر ذلك أفلت الميل البرجوازي الصغير، الذي كان تحت السيطرة حتى الأن، من عقاله. في اجتماع الثالث من سبتمبر قدم برنهام اقتراحا بعقد لقاء، يحضره جميع أعضاء اللجنة الوطنية، في الأسبوع القادم مباشرة، على أن يضع في جدول أعماله إعادة النظر في المسألة الروسية. وافقت الأغلبية على الاقتراح، وطلبوا مهلة مناسبة لدعوة تروتسكى للحضور وعرض وجهة نظره أمام اللجنة، إلا أن المعارضة أظهرت موقفا عدائيا من أول لحظة، وصوتت ضد هذا الطلب.
في الخامس من سبتمبر عرض برنهام ورقته (حول طبيعة الحرب) أمام اجتماع حضره جميع أعضاء اللجنة الوطنية. مضمون الورقة يتلخص في العبارات التالية: من المستحيل اعتبار الاتحاد السوفيتي دولة عمالية بأي معني أيا كان ... دخول الدولة السوفيتية (في الحرب) سيهبط بها كليا إلى الطبيعة الإمبريالية العامة للصراع ككل.. سيكون أمرا بلا معنى الدفاع عن بقايا الاقتصاد الاشتراكي" تروتسكى بدأ عاريا تماما أمام التطبيقات الفعلية لرؤية برنهام "أن كل القدرات الثورية للعمال في العالم كله مستنفذة تماما، والحركة الاشتراكية مفلسة، والرأسمالية القديمة تتحول إلى جماعية بيروقراطية، بالترافق مع ظهور طبقة مستغلين جديدة".
عرض تروتسكى بتوسع وجهة نظر برنهام في ورقته السجالية الأولي في الصراع الدائر والمعنونة (الاتحاد السوفيتي في حرب) وصلت تلك الورقة أثناء النقاش العام الذي يحضره كل الأعضاء. وحيث أن المعارضة البرجوازية الصغيرة لم تكن قد أعلنت نفسها بعد كتكتل معلن، استخدم تروتسكى حججا مماثلة لحججهم، كانت قدمت من قبل من الشيوعي الإيطالي السابق برنو أر Bruno R وأخرين، وذلك بعد أن طور استنتاجاتهم المنطقية. مثلت هذه الورقة تحذيرا عنيفا لبرنهام وأنصاره، أن المحاججة ضد برنامج الأممية الرابعة فيما تضمنه حول المسألة الروسية، هي محاججة ضد الفروض الأساسية في الاشتراكية العلمية.
توحدت ثلاثة فرق مختلفة في المعارضة البرجوازية الصغيرة، ومثل برنهام القائد الايدلوجى لهم، معبرا عن أفكارهم التي كلها تقريبا ضد النهج الماركسي، قامت مجموعة ابيرن Abern,s qilque بالاتفاق ظاهريا مع وجهة نظر تروتسكى والتملص من شاختمان وبرنهام، متخذة موقفا وسطيا، كان هذا الموقف، مع بعض التحفظات والشك، أفضل نوعا ما، وطبقوا موقفهم هذا تجاه وجهتي نظر برنهام وتروتسكي.
الاتجاهين الأخرين في التكتل – المتحلقين حول برنهام وشاختمان – لم يكونوا على استعداد بعد للوقوف على نفس الأرض التي يقف عليها برنهام. حيث كانوا لا يزالون يظهرون ولائهم لبرنامج الأممية الرابعة. ولكن كيف سيلتفون حول هذا التناقض في المواقف لدرجة الدخول في تكتل يجمع بينهم وبين برنهام؟ لقد قاموا بالتأمر مع برنهام لإخفاء وجهة نظره الحقيقية، ومن ثم خلقوا صيغة مشتركة لاتفاقهم اللا مبدئي مضمونها رفض مناقشة مبدأ أساسي محل اعتبار، والمطالبة بحصر النقاش في قضايا "ملموسة" عاجلة.
في الاجتماع العام الذي عقد في 30 سبتمبر، حيث كان الدور على برنهام للتحدث حول ورقته، أعلن بطريقة مداهنة انه يسحبها، وبالمقابل قام ممثله شاختمان بعرض قرار يتعلق بالبرنامج المشترك للمعارضة التي حاولت التأجيل والالتفاف على مناقشة الطبيعة الطبقية للاتحاد السوفيتي، وذلك بحصر الصراع في "الإجابة العاجلة على المسائل الملحة التي نشأت عن التحالف بين هتلر وستالين". ورغم ذلك فشل القرار في خدمة أهدافهم وشروطهم. غزو الجيش الأحمر لبولندا توائم مع "السياسة الإمبريالية" وجعل "من الضروري مراجعة مفهومنا السابق حول (الدفاع غير المشروط عن الاتحاد السوفيتي)". كشفت عصبة ابيرن عن طبيعتها الغير مبدئية عندما صوتت لصالح كل من شاختمان وقرار الأغلبية حول "التمسك بتحليلنا السابق حول الطبيعة الطبقية للدولة السوفيتية ودور الستالينية" وأيضا الموافقة على الاستنتاجات السياسية تروتسكى التي تضمنتها ورقته (الاتحاد السوفيتي في حرب).
من كل تلك المظاهر، في تلك المرحلة من التحليق بعيدا عن الماركسية، اختلفت المعارضة مع تفسير تروتسكى للأحداث الجارية، ومع "الأساليب التنظيمية" لقيادة حزب العمال الاشتراكي، التي كانوا يعاملونها معاملة الأسفار المسيحية. إلا أن تروتسكى والمفكرين المشاركين لتصوره رأوا أن الاتجاه المعادي للماركسية يتخفى داخل هذا التجمع الغير مبدئي كليا. الانتساب الايدلوجى لرؤية شاختمان كانت قضية واضحة في دلالتها على عبور الجسر – بخصوص تحليل الطبيعة الطبقية للاتحاد السوفيتي – إلى الإجابة التي قدمها برنهام. هذه الإجابة التي سمحت بتوصيفه لأعمال الجيش الأحمر باعتبارها "أعمال سياسة إمبريالية". شرح تروتسكى في رسالته الأولي إلى شيرمن ستانلي Sherman Stanley وفي مقالة (مرة أخري ومجددا، حول طبيعة الاتحاد السوفيتي) أن الإمبريالية هي مصطلح ماركسي يفهم باعتباره السياسة التوسعية للرأسمالية الاحتكارية، لذلك أدان الاجتماع العام مقترح المعارضة باعتباره (محاولة للتخلي عن موقف أساسي للحزب، ويخفي بدرجة ما موقف هؤلاء الذين يستهدفون التراجع عن رؤيتنا السياسية لقضية الاتحاد السوفيتي في جوهرها) وقبل الموقف الذي تضمنه مقال تروتسكى" الاتحاد السوفيتي في حرب".
نظمت المعارضة نفسها على النطاق القومي، والتمست دعم فروع وطنية أخري للأممية الرابعة. وفي سلسلة من الاجتماعات مع العضوية في نيويورك، استمرت الأغلبية في بذل الجهود لوضع قضاياها الرئيسية في الصدارة. في مقاله الأخير، مرة أخري، ومجددا حول طبيعة روسيا، عالج تروتسكى بوجه خاص وبدقة أكبر الحجج التي يتداولها أنصار برنهام، منبها من يصغون إلى ملاحظاته إلى " أننا لو تكلمنا عن مراجعة أفكار ماركس، فهذا عمليا يعنى مراجعة أفكار هؤلاء الرفاق الذين صمموا شكل جديد للدولة "لا برجوازية" و "لا عمالية". ذلك بإيجاز جوهر خطاب جيمس برنهام. السفر المقدس لدعم موقف الأممية الرابعة بواسطة خطاب شاختمان الذي حاول فيه التمويه على رؤية برنهام، والمحافظة إلى ابعد مدى على موقف مائع في "الاقتراح" المقدم للاجتماع العام الذي تم إرساله إلى تروتسكى. وعلى ضوء هذين الاختزالين، اعد تروتسكى رسالة إلى شاختمان، منشورة في صفحة 37 من هذا الكتاب، رد فيها بالتفصيل على الأفكار التي تنطوي على مراجعة والتي قام شاختمان تلك المرة بإخفائها بإظهاره الاتفاق مع ورقة تروتسكى (الاتحاد السوفيتي في حرب).
نشرت الأغلبية المقالات خلال الأسبوع التالي في النشرة الداخلية لحزب العمال الاشتراكي بعد أن وضحت إلى حد كبير مظاهر الاختلاف العميق، سوى أن المعارضة رفضت بعناد الدخول في سجال صراعي حول هذا المبدأ الأساسي. قرر تروتسكى أن الوقت قد حان للحسم مع المظاهر العقلانية التي تبدو عليها الأقلية وان يفتح الخراج المتقيح من المكان الذي تنبع منه العدوي – القيادة الأيدلوجية لبرنهام. في المقطع الأول الشهير من مقالته التالية (المعارضة البرجوازية الصغيرة في حزب العمال الاشتراكي) أعلن: "من الأفضل أن نسمى الأشياء بأسمائها الحقيقية، أن معارضة تلك الحلقات ككل في الصراع الدائر قد وضحت بجلاء تماما. من الضروري إعلان أن اقليه في اللجنة الوطنية تقود اتجاه برجوازي صغير بتجانس تام. وكشأن أي مجموعة برجوازية صغيرة داخل الحركة الاشتراكية، فإن المعارضة الراهنة اتسمت بالسمات التالية: التعالي على الموقف النظري والميل إلى القصوية eclecticism، عدم احترام قواعد وتقاليد منظمتهم، القلق من المساس باستقلالهم الشخصي حتى لو كان ذلك على حساب تسليمهم بالحقيقة الموضوعية، ردود الفعل الانفعالية بدلا من الثبات، القابلية للقفز من موقف لأخر، الافتقار لفهم المركزية الثورية والوقوف منها موقفا عدائيا، الميل إلى الاستعاضة عن النظام الحزبي بالحلقة والعلاقات الشللية.....".
هذه الكلمات مزقت كمشرط ادعاءات الأقلية. كل ممارسات الأقلية في الصراع قد وضعت هكذا في منطقة واضحة بواسطة قائد الأممية الرابعة. هذا المقال كان موجها مباشرة وبشكل رئيسي ضد برنهام، طرح مسألة منهج برنهام أمام الأممية الرابعة كلها ليصل إلى استنتاجاته النظرية والسياسية. عرض تروتسكى كيف أن تخلي برنهام وشاختمان عن الديالكتيك، والاستعاضة عنه بمنهج براجماتي، قد قادهم قطعا إلى استنتاجات سياسية خاطئة. وحيث أن مصلحة العمال غير متعلقة مباشرة بالإلمام بالمادية الجدلية، قام تروتسكى بإيجاز الأفكار الأساسية للمنهج في عبارات واضحة.
واصل تروتسكى تحليله للمعارضة البرجوازية الصغيرة في " رسالة مفتوحة إلى الرفيق برنهام". ذلك كان بمثابة تحدي عمدي لبرنهام لدفعه إلى مواجهة صريحه وإجباره على الدفاع عن وجهة نظره الحقيقية. لم يكن بمستطاع برنهام أن يظل صامتا أمام النيران الكثيفة التي يوجهها له تروتسكى، وذلك خوفا من أن يخسر نفوذه بين أنصاره الشخصيين. فضلا عن أن هجوم تروتسكى أصابه في مناطق حيوية. كما اعترف برنهام نفسه فيما بعد في رسالة تحمل استقالته، أن تروتسكى عالج أفكارا معينة كانت تسم نهج برنهام وتشكل وعيه لفترة طويلة قبل خلافه العلني مع الأممية الرابعة. لماذا لم ينفصل جزء كبير من المعارضة عن برنهام ويرجع إلى الماركسية عند هذه النقطة؟ إن الإجابة كامنة في الضغط الاجتماعي الذي تعرضوا له عندما طوقت الحرب أرجاء الكوكب. كانت تلك هي المرحلة التي كان الدوق وليم جوستاف مانيرهم Mannerheim دوق " فنلندا الصغيرة البائسة" محل تعاطف، والاتحاد السوفيتي محل كراهية شديدة في إنجلترا والولايات المتحدة.
اضطر شاختمان للظهور ليدافع عن برنهام في خطاب مفتوح موجه إلي تروتسكى، وقال بانسجام مع رؤية برنهام، إن منهج المادية الجدلية – الذي يطبقه تروتسكى – ليس له أي قيمة عملية في حل المشكلات السياسية التي يطرحها الظرف. استخدم شاختمان أحداث بولندا وفنلندا لإلصاق افتراءات بتفسير تروتسكى للأحداث الجارية.
رد تروتسكى على شاختمان في مقال “من الخدش إلى خطر التعفن الصديدي “هاجم فيه برنهام، ودائما كان أسلوبه الرئيسي خلال الهجوم السياسي في هذا السجال هو أن يرفق هجومه بتحليل قوى وساحق لماضي شاختمان ودوره كممثل لبرنهام. برنهام الآن خرج للدفاع. رد على رسالة تروتسكى المفتوحة بورقته الرديئة الشهيرة" العلم والأسلوب" الموجودة بملاحق هذا الكتاب.
العلم والأسلوب كانت تعبيرا معدوم الموهبة عن الطبيعة المعادية للماركسية والنهج الذي تنتهجه المعارضة. نجاح تروتسكى في استفزاز برنهام ودفعه إلى الكشف عن وجهة نظره الحقيقية كان بمثابة نقطة تحول في الصراع السياسي. فالإجابة التي قدمها برنهام كانت جلية أمام كل الأممية الرابعة. ومن ثم صار لدينا دليل فعلي على أن المعركة كانت بين الماركسية والاتجاه المراجع revisionism! ورقة برنهام التي ظهرت في ذروة موجة الحرب الهستيرية الأنجلو أمريكية ضد الاتحاد السوفيتي، بينت بشكل واضح ما كان تروتسكى، وآخرون مسلحون بالفهم الجدلي لبنية وتركيب الحزب، أدركوا من قبل انه كامن منذ وقت طويل.
حقق تروتسكى هدفه الرئيسي: أن يبرهن للأممية الرابعة على أن الثقل النسبي لعضوية العناصر البرجوازية الصغيرة وضع الحزب في أزمة لحظة اندلاع الحرب العالمية الثانية، وان هذه الأزمة شوشت على كل الفرضيات الأساسية للاشتراكية العلمية. عندما ظهر "العلم والأسلوب" كتب تروتسكى بشكل واضح في رسالته المؤرخة 23 فبراير ما يلي: " الخراج مفتوح. ابيرن وشاختمان لن يستطيعوا بعد الأن تكرار الزعم انهم يتمنون فقط أن تتحاور فنلندا وكانون بدرجة ما. لن يستطيعوا بعد الأن أن يستعموا ويخدعوا باسم الماركسية والأممية الرابعة. هل سوف يستمر حزب العمال الاشتراكي في المحافظة على تقاليد وتراث ماركس، انجلز، فرانز ميهرنج Franz mehrnig، لينين، روزا لوكسمبرج- التراث الذي يعلن برنهام انه "رجعي"-أو أن عليه أن يقبل مفاهيم برنهام التي ليست سوي إعادة إنتاج للاشتراكية البرجوازية الصغيرة الما قبل ماركسية؟" دعا تروتسكى ابيرن وبرنهام للتعبير عن وجهة نظرهم "ما هي وجهة نظركم في علم وأسلوب برنهام؟ .... الرفاق ابيرن وشاختمان هيا تفضلوا لكم الحق في الحديث" ما حدث انهم ظلوا صامتين.
حين رفض ابيرن وشاختمان أن يتنكروا لمعتقدات برنهام، ومن ضمنها "علم"ه و"أسلوب"ه، أصبح واضحا انهم يعدون للانشقاق عن الأممية الرابعة. قامت الأغلبية بمساعي للمحافظة على الوحدة، العمل تحت اعتقاد بأن وحدة الحزب الثوري والتلقين بأن الترابط الوطني للحزب هو من اهم ممتلكاتها الثمينة. وبمعنى أخر كان أمام الأغلبية أحد امرين: (1) أن تحتفظ بالعناصر المترددة من الأقلية مع إبقائها تحت الهيمنة القصوى لبرنامجنا، (2) أن تبرهن منطقيا للأقسام الأخرى في الأممية الرابعة على انه إذا وصلت الأمور إلى الانشقاق، فإن الأقلية ستكون مسئولة كليا عن حدوث الانشقاق. " علينا أن نفعل كل ما يمكن لنقنع أيضا الفروع الأخرى في الأممية أن الأغلبية بذلت كل الجهود الممكنة للحفاظ على الوحدة" شرح تروتسكى في رسالته – ص 158 - "أن الأحداث الجارية في حزب العمال الاشتراكي لها أهمية دولية كبيرة الأن.... ويجب أن تتصرفوا الأن ليس على أساس تقديراتكم الذاتية فقط، وإلى أي حد هي صحيحة في هذا النطاق، ولكن على أساس احداث موضوعية في متناول كل أنسان."
كل الأحداث الموضوعية تظهر بوضوح أن الانفصال عن المنهج الماركسي الذي أقدمت عليه الأقلية هو السبب الرئيسي في الانشقاق. استمر النقاش لمدة تزيد عن ستة شهور، وفي استنفاذ تام غير مسبوق داخل حركتنا لكل الأطروحات، كل الرؤي كان متاحا لها التعبير بحرية عن نفسها. أتيح للأقلية كل الفرص لكسب أغلبيه والإمساك بدفة القيادة في الحزب. " وحتى كأقلية في النهاية" كتب تروتسكى للأغلبية في 19 ديسمبر ما يلي:" يجب عليكم، من وجهة نظري، أن تظلوا مبدئيين ومخلصين للحزب كله. ذلك امر بالغ الأهمية للتربية في حزب حقيقي متماسك، وضروري كما كتب لي كانون ذات مرة عن حق" (ص 63). في الاجتماع الذي فاز فيه أنصار تروتسكى بأغلبية الأصوات في مواجهة المعارضة، لم يقوموا باستبعاد الأقلية من الحزب، أو حرمانهم من المشاركة في القيادة، أو أزاحتهم من مواقع المسئولية، أو مطالبتهم بإعلان أفكار ضد قناعتهم، والتمثيل على ضوء القدرات الفعلية كان معروضا بالنسبة لكل الهيئات الحزبية بلا استثناء، كان المطلوب منهم فقط احترام نظام المركزية الديموقراطية، وان تلتزم الأقلية بإخلاص بقرار الأغلبية، وان تتوقف عن نشاطها في محاولة كسب اغلبيه الحزب إلى جانب معارضتها. ومع ذلك وافقت الأغلبية على استمرار النقاش في النشرة الداخلية.
سلوك الأغلبية بهذا القدر من المراعاة، وبتوجيه تروتسكى لها في كل خطوة، كان بمثابة نموذج للتكتيك البلشفي الصحيح في بناء الحزب البروليتاري. تروتسكى أوضح الخطوط المتوازنة للوحة هذا الصراع في مقاله "أخلاقيو البرجوازية الصغيرة وحزب البروليتاريا"(ص 166).
في الخامس من أبريل 1940 كانت الجلسة الختامية للمؤتمر الذي عقده حزب العمال الاشتراكي، في تلك الجلسة أكدت الأغلبية استمرارها في التمسك بمبادئ برنامج الأممية الرابعة. وفي 16 أبريل اجتمعت اللجنة السياسية وقررت "أن اللجنة توافق على قرارات المؤتمر وتلتزم بتنفيذها بأساليب مبدئية" قيادات كتلة المعارضة رفضوا التصويت على القرار. وبدلا من القيام بطردهم، الذي كان أمرا مبررا تماما، التزمت الأغلبية بالصبر. محضر الأعمال كان جليا أمام الفروع الأخرى للأممية الرابعة حتى أخر نقطة. برنهام وأنصاره ادلو بدلوهم ببساطة إلى أن أشير إلى " ضرورة امتثالهم لقرارات المؤتمر."
الأقلية، بطريقة ما، استأجروا فعلا مقرا مستقلا. وشكلوا تنظيما منفصلا، أطلقوا عليه اسم "حزب العمال"، وطبعوا جريدتهم الخاصة الجماهيرية، وسرقوا الشعار النظري لحزبنا the new internationalوقاموا باستخدامه. تلك التصرفات التي مارستها الأقلية ناقشها تروتسكى في مقاله أخلاقيو البرجوازية الصغيرة وحزب البروليتاريا (ص166) بجانب مناقشة (كشف حساب) balance sheetأحداث فنلندا (ص 170)، حيث يعرض باقتضاب محصلة الدروس السياسية للصراع.
هكذا كانت حصيلة الأحداث الخاصة بصراع الاتجاهات التنظيمية من أغسطس 1939، حيث بدأ قيادات المعارضة يهاجمون ويراجعون برنامج الأممية الرابعة، حتى أبريل 1940عندما انفصلوا تماما عن حزب العمال الاشتراكي.
111
برنهام كان ابعد ما يكون عن صورة القائد المعزول، فلم يكن لديه أنصار في حزب العمال الاشتراكي فقط، كان له أيضا مضيفون من خارج الحزب، أرواح مقاربة من مثقفي البرجوازية الصغيرة الراديكاليون سابقا. أشهرهم هم سيدني هوك Sidney Hooker، ماكس ايستمان Max Eastman، لوي كوري Lewis Corey، لوي هاكير louis hacker، هؤلاء الطليعيون بالنسبة لبرنهام، كانوا جميعا قد راجعوا الماركسية فعلا على طول الخط. بداية من الأسس النظرية وختاما بالجانب السياسي. وشكلوا الفرع الأمريكي للأخوية الأممية للمرتدين عن الماركسية برئاسة سوفرين Souvarine، فيكتور سرجي Victor Serge، برونو أر، الخ.
كما أشار تروتسكى في "المعارضة البرجوازية الصغيرة في حزب العمال الاشتراكي" أن شاختمان وبرنهام بذلوا جهدا لتحليل هذا الاتجاه في مقال نشر في يناير 1939 في نشرة الدولية الجديدة the new international تحت عنوان "مثقفون منسحبون" intellectuals in retreat تحليلهم برهن على تفاهة نفس الأسباب التي جذبتهم فيما بعد للانضمام إلى موكب المارقين من الحركة الثورية. هوك، ايستمان وكوري أوقدوا المشاعل في طريق برنهام وشاختمان. الحقيقة أن المعارضة البرجوازية الصغيرة سحبوا حججهم وأفكارهم وتلقوا بدلا منها تشجيع أخلاقي والهام من "عصبة الآمال المهجورة" League of abandoned hopes التي سبق أن قاموا بنقدها.
اغلب هؤلاء المرتدين بدأ نشاطه الجديد كمراجع بشن هجوم فلسفي على المادية الجدلية. ليبرهنوا على درجة وعمق معارضتهم للماركسية أمام أنفسهم وأيضا أمام الأخرين، الواحد منهم، والجميع احتجوا على اعتبار أن اختلافهم مع الماركسية هو (فلسفي فقط) وان مثل هذه الخلافات المجردة في النظرية ليست بالضرورة ذات أثر في الممارسة العملية والسياسية المحددة، الفلسفة والمنطق بوجه عام غير مرتبطين عضويا بالسياسة، ومن ثم يزعمون أن فلسفة المادية الجدلية لماركس عبء ثقيل على أحزاب سياسية ملموسة، والبرامج، والنضالات. برنهام وشاختمان عبروا بداية عن تلك الرؤية في مقالهم" مثقفون منسحبون"، كما انهم تمسكوا بهذا التصور أثناء الصراع الحلقي. كشف برنهام عن عداءه العميق للنظرية الماركسية في "العلم والأسلوب" عندما اتهم تروتسكى باقحام الديالكتيك في مجادلة سياسية " كسمكة رنجة حمراء ** أمر ليس له معني على الأطلاق" أعلن برنهام " انه فيما يتعلق بكون الديالكتيك ... جوهريا في السياسة، غير صحيح بالمرة." الواقع أن شاختمان وبرنهام نقلوا هذه الرؤية عن ايستمان وهوك. ايستمان لديه قناعة ممتدة أن الماركسية سوف تطهر نفسها من المادية الجدلية، التي، كما يزعم، ليست سوى مخلفات دينية وميتافيزيقيات هيجلية، وتتبني مقاربات " الفطرة السليمة" common sense الخاصة به. هوك ردد تلك المحاجاجات ساخرا من " التطبيقات السياسية الوهمية لعقيدة المادية الجدلية".
هذا الفصل بين المنطق والسياسة، هذا الرفض لاعتبار المادية الجدلية هي الأساس النظري للماركسية، هو امر لا صلة له بالتفكير الماركسي وتراثه. الماركسية هي رؤية للعالم موحدة في مضمونها ومفاهيمها. منهجها في التفكير، المادية الجدلية، باعتباره منفصلا عن ديالكتيك هيجل المثالي، هو بصفة جوهرية منطق التغيير الثوري. إذ أن قوانين المادية الجدلية الأساسية تشرح بطريقة عقلانية، ليس فقط مسار التغيرات التدريجية في العمليات الذهنية، والاجتماعية، والطبيعية، ولكن أيضا الانقطاعات الحادة والقفزات النوعية التي بموجبها تتحول الأشياء إلى نقيضها.
لماذا ينفر المفكرون البرجوازيون من الديالكتيك المادي؟ يعود ذلك النفور بصفة رئيسية إلى منطقه التاريخي، أنه يهتم بالنظر إلى جذور وحصاد الثورات الاجتماعية في نطاق التغيرات التدريجية التي تحدث في الحياة الاجتماعية. وفي مرحلة محددة من مسار هذه التراكمات تحدث نقلة نوعية، وقطع ضخم مع الماضي، ومن ثم فالثورة وفقا لذلك المنهج تحدث وفقا لديالكتيك، الثورات السياسية والاجتماعية هكذا ليست انحرافا عارضا أو انعطاف في مسار التاريخ يمكن تجنبه، ولكنها تحدث في الواقع المادي وفقا لقوانين محددة في مجري تطور المجتمعات الطبقية. أخيرا – بخصوص الأيدلوجيين البرجوازيين وظلالهم البرجوازية الصغيرة، تلك هي سمتها الأشد رعبا بالنسبة لهم، أن المادية الجدلية تشرح التطور المنطقي للصراع الطبقي في عصرنا. فهي تبين كيف، ولماذا، البرجوازية التي بدأت تقدمية قد تحولت إلى رأسمالية احتكارية رجعية تطبق سياسات إمبريالية وتطلق حروب، وتبين أيضا حتمية الإطاحة بالرأسمالية الاحتكارية عن طريق ثورة اجتماعية للطبقة العاملة العالمية، والانتقال من نظام رأسمالي مميت إلى نظام اشتراكي مفعم بالحياة.
المادية الجدلية لا يمكن أن تنفصل عن مجري الحياة الاجتماعية أو التفكير السياسي لأنها تصوغ هذه القوانين العامة من حركة المجتمع التي تنشأ من صراع الطبقات، الذي يحكم بدوره مسار المجتمع، ويحدد مصيره. عندما لاحظ لينين، وكذلك تروتسكى في كتابات عديدة أنه" لا (يوجد نشاط ثوري) حركة ثورية دون نظرية ثورية"، فقد قصدوا تحديدا انه لا يوجد سياسات بروليتارية ثورية دون المنهج المادي الجدلي الذي يعتبر جوهر الاشتراكية العلمية.
هذا هو المدخل لمعني المادية الجدلية بالنسبة للحركة الاشتراكية الثورية وللمعارضة التي برزت كعدو من صفوف البرجوازية الصغيرة في الحركة والذين ارتدوا عنها. أن توافق على منطق الماركسية، أن تدرسه، وتستخدمه – معناه أن تتبني وتدفع إلى الأمام عملية الثورة، أن تقع في تناقض أو تعارض مع الأسس المنطقية للمنهج الماركسي، فذلك في تطوره المنسجم يقود إلى التخلي عن الماركسية، كما حدث في حالة برنهام، شاختمان، هوك، ايستمان، وآخرون من السدنة العظام في معبد "الفطرة السليمة"- ليس فقط في حقل النظرية الفلسفية ولكن أيضا في الممارسة السياسية. أن تركهم للاشتراكية وانبطاحهم أمام الأفكار البرجوازية كان واضحا من البداية، كما استنتج تروتسكى، في موفقهم العدائي تجاه المادية الجدلية. هذا الرفض المعادي للماركسية أفصحوا عنه بداية في القول بعدم وجود ارتباط واضح بين الجدل الفلسفي والممارسة السياسية تظهر ثماره في برنامجهم السياسي. ببساطة لا يمكن نزع المنطق والفلسفة من الواقع العملي كما يدعون.
التاريخ يبرهن بقوة على استحالة فصل المنهج الماركسي عن السياسة العملية. تحت قيادة لينين وتروتسكي فهم الحزب البلشفي، عبر الممارسة السياسية والاجتماعية، ما شرحه ماركس وانجلز وتوقعوه، مستخدمين منهجهم الجدلي، في البيان الشيوعي، ورأس المال. ما برهن عليه البلاشفة عمليا في ثورة 1917 هو - الترابط المتناغم بين النظرية الماركسية والعمل الثوري - - الوظائف اللاحقة لهوك، ايستمان، برنهام، شاختمان تجلت بإسهاب في طرق غير مباشرة. برنهام وايستمان تنكروا للماركسية والاشتراكية بلا ادني تحفظ، بينما هوك وشاختمان انحطوا إلى مناصرة الإمبريالية كمتحدثين سياسيا بلسان الجناح اليميني للاشتراكية الديموقراطية في الولايات المتحدة. هؤلاء المرتدين شنوا حربا مليئة بالكراهية ضد الحركة الماركسية الثورية التي في وقت ما انتسبوا اليها. الحرب التي شنها برنهام واقفا في معسكر طبقة الأعداء كانت الأشد اندفاعا ومغالاة بينهم جميعا. بعد شهر واحد من الانفصال عن الحركة التروتسكية استقال بمنتهى الاستخفاف من "حزبه" الجديد. استقالة برنهام ورسالة اعتذاره عن سذاجته أكدت، بدون قصد منه، صحة كل ما قاله تروتسكى عن برنهام في مجري السجال. هذه الرسالة أعيد نشرها في ملحق " معلومات وإضاءات لدارسي الديالكتيك" *
بعد بضعة شهور شرح برنهام أفكاره حول سياسات العالم في كتاب "الثورة الإدارية" managerial revolution، الذي حظي بشهرة واسعة في عالم الأعمال، الأجهزة الإدارية، ودوائر مثقفي البرجوازية الصغيرة. هذا في الوقت الذي كان تروتسكى يحذر من عدوان وشيك للقوات النازية ويجهز العمال الواعين طبقيا للدفاع عن أول دولة عمالية، قدم برنهام أطروحاته تلك بينما هتلر وستالين، الممثلين الرئيسيين للمجتمع الإداري القادم، وحدوا قواتهم العسكرية ضمن تحالف 1939 بهدف توجيه "ضربات مميتة للرأسمالية." هذا الاتفاق السياسي "الملموس" تم تمزيقه بهجوم هتلر في يونية 1941 الذي استهدف "توجيه ضربات مميتة إلى الاتحاد السوفيتي.
في العقود التالية خطا برنهام قدما ليصبح أحد أشهر المتعصبين ضد "أيدلوجية الاتحاد السوفيتي"، ندائه من اجل التعبئة لقوات خلاص مسلحة ضد "المؤامرة الشيوعية" العالمية أعلن عنه في سلسة كتب منشورة بداية من "النضال من اجل قوة عالمية" 1947، إلى "انتحار الغرب" 1964. كما قدم محاضرات للتعريف بالخطر الشيوعي في الكلية العسكرية الأمريكية وشهد أن جماعة شاختمان كانت تلعب دورا "تخريبيا" subversive وذلك في جلسة سماع شهود عدلية أمام الإدارة الأمريكية في نهاية 1950. (وبرغم جهوده إلا أن العصبة الاشتراكية المستقلة وسلفها، حزب العمال، تم حذفهم من قائمة المدعي العام.) برنهام الآن يميني متطرف، ومحرر الناشونال ريفيو the national review وقد أدان حكومة نيكسون بسبب تهدئتها مع موسكو وبكين داعيا إلى إعادة النظر في الفاشية بطريقة إيجابية.
وحيث أن برنهام قد صار متبنيا السياسة الإمبريالية من صميم قلبه، انسل شاختمان تدريجيا نحو التصالح مع تلك القوي، متجها إلى اليمين بقدر ما يستطيع ليذهب إلى الولايات المتحدة ويظل محتفظا بلقب “اشتراكي."
في المقال الذي كتبه هو وبرنهام في يناير 1939 "دولية جديدة" حللوا فيه حالة انحطاط المثقفون المعادون للستالينة وتحولهم إلى معادين للينينية وللتروتسكية، كتبوا ما يلي
"العلة الأساسية في هؤلاء المثقفين هي انهم يعانون مما يمكن أن نسميه "رهاب الستالينية – أو العداء السوقي للستالينة"، هذا المرض مترافق مع ثورة عالمية ضد نظام الرعب الستالينى حيث تلفيق الاتهامات وعمليات التطهير السياسي، والنتيجة هي أن اغلب الكتابات التي انتتجت انطلقت من انطباعات غاضبة وانفعالات ذاتية مقارنة بالميل إلى تقديم تحليل اجتماعي بعيدا عن الانفعالات والصدمات النفسية، وغالبا عندما يكون هناك تحليل تجده ذو ميول أخلاقية أكثر من كونه علميا واجتماعيا. *
بعد تحذير الأخرين من تلك النتائج المزعجة، شاختمان نفسه أصابته عدوى هذا المرض. فقد اجتاحه مرض رهاب الستالينية الخبيث ودمر جزء بعد أخر من بقايا رؤيته الماركسية السابقة إلى أن دمر كل الحالة السياسية التي كان عليها. لقد تخلى عن الالتزام بالدفاع عن الاتحاد السوفيتي وهو يتعرض لخطر مدمر أثناء الحرب العالمية الثانية. وعلى سبيل التبرير استعار نظرية شاختمان عن طبيعة الاتحاد السوفيتي كبلد موسوم بكونه " جماعية بيروقراطية".
لقد وصف الدولة العمالية المنحطة كحالة تقهقهر "شكل جديد لمجتمع طبقي" الذي ليس رأسماليا وليس اشتراكيا، إذ انه شكل ادني بكثير من مستوي الرأسمالية الديموقراطية. ووفقا لمنظوره تعتبر كل ثورات العمال والفلاحين الناجحة، بداية من ثورة أكتوبر 1917 إلى كوبا، 1959ليست فقط معادية للرأسمالية لكنها معادية للاشتراكية أيضا.
هذه النظرية تخفق في التعبير عن واقع التناقض عميق المستوي داخل حكم ستالين الذي يتضمن كل من الإنجازات الاشتراكية لثورة أكتوبر – الغاء الملكية الرأسمالية وتأسيس اقتصاد مخطط واحتكار الدولة للتجارة الخارجية – مع بنية سياسية استبدادية شمولية معادية للاشتراكية جردت فيها الطبقة العاملة من كل قدرة على صناعة، أو المشاركة في صناعة، القرار.
لو أن شاختمان يجعل من امتلاك السلطة السياسية العنصر الرئيسي في تحديد الطبيعة الطبقية لتشكيلة اجتماعية ما، فهو بهذا ينفصل عن المادية التاريخية في المنهج الماركسي، التي، كما أكد تروتسكى، تميز أشكال الملكية انطلاقا من علاقات الإنتاج السائدة كمعيار رئيسي حاسم. لننظر إلى إيطاليا، على سبيل المثال، التي ظلت رأسمالية تحت حكم الملكية المطلقة monarchy، ونظام موسوليني الفاشي، والجمهورية البرلمانية حاليا، الاتحاد السوفيتي ظل من الناحية الجوهرية محتفظا بالأساس الاقتصادي البروليتاري تحت حكم ستالين وخلفاءه، كما كان الأمر تحت حكم لينين وتروتسكي.
إن رؤية شاختمان المتعسفة للدول الما بعد رأسمالية سهلت انتقاله هو وأنصاره من "معسكر ثالث" معارض، الذي من المفترض أن يكون رفعهم فوق صراعات القوي الطبقية المتنازعة على الساحة العالمية، إلى التأييد المباشر للسياسة الإمبريالية، وذلك بالاستمرار في زعم أن "الديموقراطية" في صورتها المجردة تعلو على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وان الرأسمالية الليبرالية أكثر ديموقراطية من النظم الستالينية، بعد الحرب انقاد شاختمان إلي دعم القومي البرجوازي ميكولاجكزيك Mickolajczyk في مواجهة دعم موسكو لحكومة اوسوبكا ماوسكى Osubka Moawski في بولندا.
أثناء الحرب الباردة انتقل شاختمان إلى اليمين أكثر فأكثر، بعد تحول حزبه (حزب العمال) إلى العصبة الاشتراكية المستقلة، وساهم في أحداث تفكك للقوي داخل الحزب الاشتراكي عام 1958، حيث كان المعبر عن الجناح اليميني داخله، حين استعادت واشنطون خليج شمال فيتنام في عملية عسكرية سميت غزو خليج الخنازير، التدخل العسكري الأمريكي في فيتنام، وقصف شمال فيتنام – كل ذلك تحت اسم الدفاع عن "العالم الحر " ضد الديكتاتورية. قام شاختمان بالارتماء في أحضان رئيس اتحاد النقابات الأمريكي الموحد AFL.CIO جورج ميني George Meany اليميني المحافظ المتطرف، كما عمل كمستشار لرئيس اتحاد نقابات المعلمين ألبرت شانكير Albert Shanker، المعادي لتولى السود ومواطنو بورتوريكو إدارة المدارس في مجتمعاتهم المحلية.
وقبل وفاته عام 1972 عن عمر يناهز 68 لعب شاختمان دورا في دعم مرشح الحزب الديموقراطي الأمريكي للرئاسة هبرت هفمري Hubert Humphrey (وصوت هوك لصالح نيكسون).
تطورات شاختمان وبرنهام منذ 1940 تؤكد توقعات تروتسكى، أن التخلي عن الماركسية ورفض التضامن مع الدولة العمالية يؤدي منطقيا إلى التوائم مع الإمبرياليين. في النهاية نجد الفروق في مواقف كلا من الرجلين مجرد اختلاف في الدرجة: وقف شاختمان في صف الرأسمالية الليبرالية تحت غطاء اشتراكي زائف، بينما وقف برنهام في صف الرجعية الرأسمالية المتطرفة، القائد الوحيد من قادة المعارضة الذي ظل مخلصا ومتسقا مع ماضيه لأبعد مدى، مارتن ابيرن، اختفي من ساحة العمل السياسي وتوفي عام 1949. المعالجة المادية الجدلية السابقة التي قدمها تروتسكى حول أحداث بولندا وفنلندا 1939 – 1940 مثلت دليلا بالغ الأهمية للأممية الرابعة في فهم تطورات ما بعد الحرب في شرق اوربا. ميز تروتسكى بدقة بين الأهداف والتصرفات الرجعية للبيروقراطية السوفيتية، والدلالة الثورية لتغيير علاقات الملكية في الأقاليم التي احتلها الاتحاد السوفيتي.
بواسطة الإمساك بتلك البوصلة، تمكن التروتسكيون من فهم الفارق بين سياسات بيروقراطية الكرملين، والتغيرات التقدمية التي حدثت في أسس اقتصاديات لدول اوربا الشرقية. لقد اعتبرناها دول عمالية مشوهة من اللحظة الأولى، وهم قطعا لا يشبهون الاتحاد السوفيتي المنحط، إن بنيتهم السياسية كانت مشوهة بيروقراطيا منذ ولادتها.
الشعوب في بلدان الكتلة السوفيتية لم تخض أبدا نضالات تهدف للإطاحة بالهيمنة الاستبدادية للكرملين والأنظمة التابعة له أو للتحرك في اتجاه " اشتراكية ذات وجه إنساني" حيث يمكن لجماهير العمال والفلاحين أن يمارسوا فعلا السيادة السياسية والاقتصادية.
عن طريق صد هجوم المعارضة البرجوازية الصغيرة 1939 – 1940 على المادية الجدلية والبرنامج السياسي للثورة الاشتراكية العالمية، اخذ حزب العمال الاشتراكي خطوة كبيرة في طريق فهم وتمثل المنهج الأساسي للماركسية. منذ ثلاثينات القرن ربي الحزب أعضاءه منهجيا على تلك الأفكار ودافع عنها ضد هجمات المرتدين فلسفيا من جهة وطائفة المتحذلقين من جهة أخري.
كتابات تروتسكى شديدة الأهمية خلال معركته الأيدلوجية الأخيرة، تم جمعها هنا في كتاب واحد، ولو يكن هناك بديل سوى إنجاز هذا العمل الذي لا غني عنه. أن الأعمال الموجودة في هذا الكتاب تقدم دراسة نموذجية، فهي توضح كيف يقوم مفسر للماركسية ذو خبرة بتطبيق تعاليمها للوصول ألي فهم وحل تشابكات عدد من أهم الظواهر المربكة والمشكلات السياسية المعقدة في نطاق عصرنا.
George Novack يناير 1973
Joseph Hansen








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.


.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي




.. صباح العربية | الثلاثاء 16 أبريل 2024


.. الشرطة الأميركية توقف متظاهرين بعدما أغلقوا الطريق المؤدي لم




.. اعتقال متظاهرين أغلقوا جسر البوابة الذهبية في كاليفورنيا بعد