الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن اليوسفي مرة أخرى.. أصبع ديناميت في برميل بارود.. أخمد آلاف الحرائق ليشعلها في الذاكرات!

عبد الرحيم التوراني
صحفي وكاتب

(Abderrahim Tourani)

2020 / 6 / 4
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


1- تغيير السفينة أم صنع أمواج جديدة!
رحل عبد الرحمان اليوسفي وغاب عن دنيانا فجر يوم الجمعة 29 ماي الأخير. لم يكن موتا مفاجئا، بسبب التقدم في العمر وبسبب العياء والمرض، فقليلون من المقربين من يعرفون أن عبد الرحمان اليوسفي ظل يتنفس برئة واحدة على مدى 65 سنة، منذ بلوغه الثلاثين من عمره. ولم يصب بأمراض الشيخوخة التي تقضي على الذاكرة، بل بقي متماسكا واعيا إلى آخر نفس. وفي النهاية فإن "كل نفس ذائقة الموت".
لقد خلف رحيله حزنا جارفا لدى مختلف الأوساط والفئات الجماهيرية والشعبية في المغرب. نعاه القصر الملكي، وتأثرت لرحيله أطياف اليسار واليمين، كما رثاه المدافعون عن حقوق الإنسان والديمقراطيون، في المغرب وخارجه.
أما بعض الظلاميين، فما بدر منهم من تدنيس وعبث للنصب التذكاري بشارع عبد الرحمان اليوسفي في مدينة طنجة، مسقط رأسه، و ما بدر من عتاتهم، من كلمات لا تليق أمام رهبة الموت، حسب تعاليم كل الأديان والمعتقدات، فلا يمكن اعتباره إلا سلوكا منتظرا من التكفيريين القتلة، مع عدم استبعاد "يد خفية" تكون حركتهم عن بعد، تحريك الدمى من خلف الستار. ولا يستبعد أن تكون هناك جهة ما، قد لا ترغب في أي شخص مهما بلغت وطنيته وإخلاصه ووفاؤه للوطن وللملك، أن يعتلي عرش القلوب، ولا تود رؤية أي أحد يحظى بكل هذا الحب والتعاطف والاحترام الكبير. كما حدث مع العديدين ممن قضوا وضحوا بالغالي والنفيس وبأرواحهم، من كافحوا من أجل الاستقلال والحرية، ومن أجل تقدم البلاد وخيرها، الذين تمت إزاحتهم ومحو ذكرهم ودفنهم برصاص النسيان.. كأنهم لم يكونوا.

***
لكن هذا التعاطف المثير مع الراحل، وهو الآن أمام التاريخ، لم يعد يهمه لا الهجاء ولا المديح. لا يجب أن يثني الأحياء أن يتكلموا بعيون نقدية لبعض مواقف الرجل، ولما أقدم عليه من خطوات، بعضها كان للأسف مخيبا للآمال الكبيرة، وأكثرها قابل للأخذ والرد على أية حال.
عرف عبد الرحمان اليوسفي الزعامة والقيادة منذ شبابه الأول، وساهم بقسطه في حركة المقاومة المغربية، من أجل إنهاء حكم الحماية الاستعمارية. وبعد الاستقلال أصبح رئيسا للمجلس الوطني للمقاومة وجيش التحرير.
كان أحد منظمي "مؤتمر طنجة" في أبريل 1958، الذي جمع قادة الحركة الوطنية في الجزائر وتونس والمغرب. كما عرف اليوسفي ضمن العاملين بصفوف حشد الدعم لاستقلال الجزائر.
في لحظة انشقاق حزب الاستقلال بـتأسيس"الجامعات المستقلة لحزب الاستقلال" (25 يناير 1959)، ثم الإعلان عن قيام الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (6 سبتمبر 1959)، كان عبد الرحمان اليوسفي حاضرا، مع المهدي بنبركة والفقيه محمد البصري وعبد الله ابراهيم والمحجوب بن الصديق. أما عبد الرحيم بوعبيد فقد تأخر في التحاقه بالحزب الجديد، وإن كان الأستاذ امحمد بوستة الأمين العام السابق لحزب الاستقلال، تحدث في حوار مسجل بالفيديو، وقال إن اليوسفي كان هو أيضا تردد في الالتحاق بالمنشقين في أول الأمر.
اعتقل اليوسفي في ديسمبر 1959 مع الفقيه البصري مدير جريدة "التحرير"، بتهمة التحريض على "العنف والنيل من الأمن الوطني للدولة والأمن العام"، ثم أفرج عنه بعد أسبوعين بسبب وضعه الصحي السيئ. فيما بقي الفقيه البصري لأكثر من ستة أشهر في المعتقل دون محاكمة، قبل أن يتدخل وزير الاقتصاد والمالية، في حكومة عبد الله ابراهيم، لدى ولي العهد آنذاك مولاي الحسن للمطالبة بإطلاق سراحه، وكان الوزير هو عبد الرحيم بوعبيد.
ثم اعتقل اليوسفي مرة أخرى في يوليوز عام 1963 مع جميع أعضاء اللجنة الإدارية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية المجتمعة بمدينة الدار البيضاء، في ملف "مؤامرة يوليوز 1963"، وصدر ضده حكم بالسجن مدة سنتين مع وقف التنفيذ، قبل العفو عنه عام 1965 .
في الانتخابات التشريعية لسنة 1963 لم يحالف النجاح مرشح الاتحاد في طنجة، بينما فاز كل أعضاء الأمانة العامة لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ويؤكد اليوسفي أنه فاز بالمقعد النيابي، لكن السلطات عمدت إلى إسقاطه بالتزوير. ما جعله ينأى بنفسه عن الترشيح لأي استحقاق انتخابي بعدها.

بعد عملية اختطاف المهدي بنبركة في 29 أكتوبر 1965، توجه عبد الرحمان اليوسفي إلى باريس، و في نوفمبر عام 1966 تقدم للإدلاء بشهادته كطرف مدني في محاكمة مختطفي المهدي بنبركة. ونظرا للدور الذي قام به في تنسيق الدفاع، طلبت منه قيادة الحزب البقاء في فرنسا، إلى أن تنفرج الأمور، فإذا به يظل لمدة 16 عاما في اللجوء السياسي.
بعده مباشرة سيغادر الفقيه محمد البصري المغرب، في سيارة صغيرة من المعبر الحدودي لمدينة سبته المحتلة، وكان بجانبه صحفي مراكشي في جريدة "التحرير"، اشتهر بزاويته المكتوبة بالعامية تحت عنوان: "حديث المعركة"، بتوقيع "ولد جامع الفنا"، واسمه الحقيقي عبد الله رشد. وذلك بعد التأكد من ترصد أجهزة المخابرات للفقيه، وعلى رأسها "الكاب وان" بقيادة الكولونيل محمد أوفقير والكولونيل أحمد الدليمي ومحمد العشعاشي.

في فرنسا اجتمع الرجلان (الفقيه واليوسفي) لينشغلا بالعمل في صفوف الاتحاديين الفارين من بطش الحسن الثاني، وسيقومان بتنظيم المهاجرين المغاربة بفرنسا وبلدان أوربا الغربية.
أصبح اسم اليوسفي واسم الفقيه على لائحة المطلوبين للعدالة المغربية والمستهدفين من قبل مخابرات النظام. وصار الفقيه مع اليوسفي مقربان من قبل نظام البعث في دمشق وبغداد، ومن النظام الناصري في مصر، ومن أنظمة راديكالية أخرى عبر العالم. أما اليوسفي فعرف أكثر بين منظمات ومنتديات حقوق الإنسان وهيئات المحامين في البلاد العربية والعالم.
في محاكمة سياسية سجلت انتهاكات صارخة لأبسط ضمانات المحاكمة العادلة، عرفت في التاريخ السياسي المغربي ب "محاكمة مراكش الكبرى" (1971)، توبع فيها 193 اتحاديا بتهم محاولة قلب النظام، وتوبع الفقيه البصري واليوسفي غيابيا، وطالب المدعي العام إصدار حكم بالإعدام في حقهما ضمن آخرين. لكن المحكمة نطقت في الأخير بخمسة أحكام بالإعدام، حكم واحد منها حضوريا في حق محمد المقاوم أجار المعروف ب"السعيد بونعيلات"، وأربعة غيابيا في حق الفقيه البصري وعبد الفتاح سباطة والحسين المانوزي والفقيه الفيكيكي الأعور.
ثم صدر حكم بالعفو عن اليوسفي في 20 غشت 1980، وهو التاريخ الذي يصادف العيد الوطني "ثورة الملك والشعب" المخلد لذكرى نفي محمد الخامس من طرف سلطات الحماية الفرنسية.
أما الفقيه فقد صدر العفو عنه في بداية التسعينيات، لكنه رفض العودة مطالبا بأن يشمل العفو جميع المنفيين والمغتربين السياسيين، وخاطب بنفس الإجابة مبعوث المخابرات الاتحادي السابق البشير الفيكيكي، ومبعوث الملك ووزيره في الداخلية إدريس البصري، لما استقبله في أكبر فنادق العاصمة الفرنسية وأشهرها، (فندق "كريون")، كان الجواب هو: "سأكون آخر العائدين". وقد كشف عن هذه اللقاءت في حوار مهم أجراه معه الاتحادي السابق حميد برادة، ونشرته أسبوعية "جون أفريك" الباريسسة غلافا لأحد أعدادها التي وزعت في المغرب سنة 1987.
***
أعاد عبد الرحمان اليوسفي نسج العلاقات الدولية التي كان يتولاها المهدي بنبركة مع الحركات الديمقراطية والثورية في العالم، خاصة مع أعضاء "مؤتمر القارات الثلاث"، من نظام فيديل كاسترو في كوبا إلى نظام البعث في المشرق العربي، ثم نظام العقيد الليبي معمر القدافي، وبرع محمد البصري أكثر من اليوسفي في العلاقات العربية، ما هيأه ليصبح من كبار مناضلي القومية العربية رغم أصله الأمازيغي، شأنه في ذلك شأن المفكر الكبير محمد عابد الجابري، الذي لم يتكلم العربية إلا بعد تجاوزه سن السابعة من عمره، كما يروي في سيرته الذاتية التي نشرها بعنوان: "حفريات في الذاكرة من بعيد" (دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ومركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- 2004).
وبعدما كان اليوسفي هو الموجه الأول لإذاعة "صوت التحرير" التي كانت تبث من ليبيا لمواجهة الحسن الثاني، وأصبح عدد المغاربة الذين يتابعونها يتزايد باستمرار، رغم التشويش الكبيرعليها. سيأتي يوم من سنة 1974، ليطلب فيه اليوسفي من ابراهيم أوشلح توقيف العمل بالإذاعة وإغلاقها، و"تفريق الجقلة" كما يقول العامة، من دون نقاش، مرجئا تفسير وشرح الأسباب حتى "الاجتماع التاريخي في الجزائر" الذي التأم بعد أسابيع. إثرها بدأت معالم انفراج سياسي تتضح في المغرب، توازت مع بداية إعادة قضية مغربية الصحراء إلى الواجهة. بدأت بإطلاق سراح عمر بنجلون ومحمد اليازغي مع مناضلين اتحاديين آخرين. وأخذ الخلاف يظهر إلى السطح بين تيار "اتحاديي الخارج"، ممثلا في أصحاب الفقيه البصري، وتيار المقربين من السي عبد الرحمان المتوافق مع اتحاديي فرع الرباط بقيادة عبد الرحيم بوعبيد.
هكذا سيجتمع عبد الرحيم بوعبيد مع عمر بنجلون ومحمد اليازغي ومحمد الحبابي ومحمد الحلوي وآخرين، في سبتمبر من سنة 1974 ليقرروا استئناف نشاط الحزب، والاستعداد لعقد مؤتمر وطني. مؤتمر ينهي حالة الغموض الإيديولوجي للاتحاد من جهة، ويضع من جهة أخرى حدا للقطيعة بين من سيطلق عليهم وصف "البلانكيين" بزعامة الفقيه البصري، وبين من اختاروا "تكريس النضال الديمقراطي كخيار استراتيجي".
ولأن ظروف السرية والمنفى لم تسمح بلقاء البصري واليوسفي، فقد بادر الفقيه البصري بإرسال رسالة إلى من يستعدون في الرباط "للتطبيع مع نظام الحسن الثاني"، وتم توجيه الرسالة في الأول عبر البريد العادي إلى عنوان مقر الحزب في 262 شارع تمارة، (شارع الحسن الثاني حاليا)، ثم جاء بها لاحقا من سلمها يدا بيد إلى المعنيين بالأمر. وكانت رسالة طويلة من عدة صفحات، موجهة للمؤتمر المزمع عقده. ومن جاء بها كان طالبا اتحاديا يتابع دراسته في الجزائر، واسمه مصطفى فجري سليل العائلة الاتحادية المعروفة في الدار البيضاء، كان مصطفى فجري زميلا لي في المرحلة الثانوية، وقد صار عضوا بهيأة المحامين في الدار البيضاء، وتوفي سنة 2016.
لكن عندما انعقد المؤتمر الوطني الذي أعطيت له صفة "الاستثنائي"، واختير له تاريخ يحمل دلالة ورمزية كبيرة، توافق إعلان وثيقة الاستقلال عام 1944، تم إخفاء رسالة الفقيه البصري وإهمالها، سيفاجؤ المؤتمرون برسالة ثانية، رسالة صوتية، هربها طالب اتحادي يدرس الاقتصاد بجامعة تولوز بفرنسا، وكان مسؤولا بفيدرالية الحزب بأوروبا الغربية، رفقة طارق القباج (رئيس بلدية أغادير سابقا) وخالد عليوة (الوزير السابق) وموح المباركي (الوزير السابق وعامل تطوان، وحاليا مدير مدير وكالة تنمية عمالات وأقاليم جهة الشرق)، واسم حامل الرسالة هو المرحوم محمد ليدام، أما مرسلها وباعثها فكان عبد الرحمان اليوسفي. كانت رسالة الأخ عبد الرحمان اليوسفي للمؤتمر الاستثنائي قصيرة ومركزة وجد مؤثرة، منمقة بعناية قصوى، وكلماتها مشحونة ومكثفة بما قل ودل. هزت أركان قاعة الأفراح بشارع الجيش الملكي حيث انعقد المؤتمر، أيام 10، 11، 12 يناير 1975. لا زلت أتذكر دموع بعض المؤتمرين ونشيجهم وهم يشهقون، عند سماعهم لكلمات اليوسفي يحدثهم عبر كاسيت مسجل، وكنت من أعضاء المؤتمر ضمن وفد الشبيبة بالدار البيضاء، لقد كان اليوسفي موفقا فيما أراد تبليغه للمناضلين وأجاد، إذ أتى صوته صافيا متهدجا قريبا من النحيب. كانت أول كلمة قالها في التسجيل بعد التحية. "أخوكم عبد الرحمان اليوسفي من المنفى".. فتململت القلوب واهتزت الأفئدة.
في الرسالة أكد عبد الرحمان اليوسفي على أن الاتحاد له قيادة واحدة، هي قيادة الداخل بزعامة الأخ عبد الرحيم (بوعبيد)، ما يفيد أن الحزب يتبرأ من كل الأعمال والمبادرات التي تنفذ انطلاقا من الخارج. تأشيرة شرعية كانت ضرورية لإعادة تأسيس حزب جديد على أنقاض رواسب حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حزب أصبح يحمل اسم "الاشتراكي" بدل "الوطني"، إنهاءا للخلط بين "اتحاد" الدار البيضاء بقيادة عبد الله ابراهيم، و"اتحاديي" فرع الرباط بقيادة عبد الرحيم بوعبيد، التيار الذي أعلن عن نفسه إثر ما يعرف في أدبيات الحزب ب"قرارات 30 يوليوز 1972"، لكن الاتحاد الاشتراكي ظهر ليرسم القطيعة مع ممارسات "بلانكية" ولا ليتنصل من تاريخ ومناضلي الاتحاد الذي أسسه بنبركة في 1959. لذلك كان المؤتمر تحت شعار: "استمرار حركة التحرير الشعبية"، وزين قاعة المؤتمر بصور مكبرة لزعيم الريف عبد الكريم الخطابي ورمز المقاومة الشهيد محمد الزرقطوني، ورمز الاعتدال محمد بلعربي العلوي (شيخ الإسلام).
عمل المؤتمر الاستثنائي على ممارسة نوع من النقد الذاتي، ووصف الأخطاء الماضية بكونها "أخطاء ثورية" حسب تعبير المناضل عمر بنجلون، مؤكدا على خيار الديموقراطية كوسيلة لتحقيق الاختيار الاشتراكي، مع السكوت التام عن المطالبة ب"المجلس التأسيسي لوضع الدستور"، وهو الشعار" الذي كان يتمسك به الاتحاد".
لعب اليوسفي دورا أساسيا في العلاقات الخارجية للاتحاد الاشتراكي، فهو من اقترح تسمية الاتحاد ب"الاشتراكي" بدل "الوطني"، وهو أيضا من اقترح تسمية "الكاتب الأول" بدل "الأمين العام" أو "الرئيس". اقتباسا من هيكلة الحزب الاشتراكي الفرنسي. وفي المؤتمر الوطني الثالث الذي انعقد بالقصر الصغير للمعرض الدولي في الدار البيضاء في نهاية ديسمبر 1978 سيصبح اليوسفي، وقبل عودته واستفادته من العفو الملكي، عضوا رسميا في المكتب السياسي.
بعد مرور حوالي خمس سنوات على انعقاد المؤتمر الاستثنائي، تم العفو الملكي عن مجموعة من المنفيين والمعتقلين السياسيين، كان في مقدمتهم عبد الرحمان اليوسفي، الذي تم تقديمه من طرف عبد الرحيم بوعبيد ومحمد نوبير الأموي في ملعب "كازابلانكيز" في التجمع العمالي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل بمناسبة الاحتفال بذكرى فاتح ماي 1981، حيث تقدم اليوسفي رافعا يديه معا، لتحية المهرجان العمالي، وألقى كلمة مقتضبة.

2- كائن مشوه برأسين!
خلال هذه الفترة ظل السي عبد الرحمان يقيم ببيته القديم، في رقم 4 بزنقة "بوان دوجور"، الزنقة المطلة على شارع الزرقطوني بحي بوركون في الدار البيضاء، وهو بيت متواضع من طابق واحد، بأثاث بسيط، وقد سكن به قبل اليوسفي اتحاديون آخرون، كما أقام به فترة الصحفي عبد السلام البوسرغيني عندما جيء به من "العلم" لحظة انطلاق جريدة "التحرير". وهو نفس البيت الذي سيستقبل فيه اليوسفي الوزير الأول الفرنسي ليونيل جوسبان في مستهل عام 1998، أياما قليلة قبيل تعيين اليوسفي وزيرا أول. وقد تم تفويت البيت وشيدت مكانه اليوم بناية من عدة طوابق.
***
حاول اليوسفي تمتين علاقته بالتنظيم الحزبي في العاصمة العمالية، لكنه لم ينجح، فقد ركز على الأطر الاتحادية خارج قطاع التعليم، وكان ينتقد سيطرة هذا القطاع على التنظيم الحزبي، هو المعلم القديم، كما أن المكلف بالتنظيم كان يعمل باستمرار على اختراق ما يبنيه اليوسفي من أنوية تنظيمية ليقوم بهدمها وتشتيتها، ولم يكن غير الثعلب محمد اليازغي.
لذلك سيتراجع اليوسفي قليلا، ويوزع حياته ما بين الدار البيضاء والكوت دازور، حيث تملك زوجته اليونانية الأصل عقارا بمدينة "كان" الفرنسية.

بدا أن اليوسفي عاد ليقضي تقاعدا مريحا بعد حياة "الصخب والعنف" الثوري، إلى أن تم اعتقال عبد الرحيم بوعبيد ومحاكمته والحكم عليه بالسجن مع الدكتور محمد الحبابي ومحمد اليازغي، على إثر بلاغ سياسي ينتقد موافقة الحسن الثاني دون الرجوع إلى الشعب، على إجراء استفتاء في الأقليم الصحراوية. هنا عاد اليوسفي ليلعب دور المؤتمن على تسيير الحزب، الذي كان يعرف نوعا من التجميد والركود، بعد اعتقال قائد الحزب، ومنع صحافته، والزج بعدد كبير من مناضليه وأطره في السجون، إثر "انتفاضة الخبز" في 20 جوان 1981.
كان بعض المناضلين يلجأون إلى السي عبد الرحمان لاستشارته، فمثلا ذهب إليه محمد بنيحيى ليأخذ موافقته على إطلاق أسبوعية جديدة، كان اختار لها في البداية اسم "النقطة"، اقتباسا من اسم الأسبوعية الفرنسية الشهيرة "لوبوان"، لكن الأصدقاء انتقدوا التسمية واقترحوا عليه اسم "البلاغ المغربي"، تيمنا باسم مجلة لبنانية كانت تصدر من بيروت، وكانت تهتم بالشأن المغربي، ومن بين أقلامها كان الصحفي الكبير محمد الباهي. وهي ذات المجلة التي ستنشر بها رسالة الفقيه التي لم يطلع عليها الاتحاديون والمؤتمرون في المؤتمر الاستثنائي سنة 1975. وحسب علمي فإن هذه الرسالة- الوثيقة التاريخية، لم تعمم بشكل كبير ولم يعد نشرها في أية صحيفة أو منبر.
كما ذهب لأخذ الاستشارة من عند السي عبد الرحمان، الأخ أحمد صبري، ليأخذ منه الموافقة على العمل بديوان وزير اتحادي سابق هو عبد اللطيف السملالي، القيادي في الحزب الإداري الاتحاد الدستوري، والذي تزعمه وزير وبرلماني اتحادي سابق هو المعطي بوعبيد، والسملالي كان وقتها وزيرا للشبية والرياضة.
كثيرون هم من لجأوا إلى اليوسفي في تلك الفترة للاستشارة والحصول على "المباركة والتبريك"، وحاولوا أن يجعلوا منه "الملاك الحارس" للبيت الاتحادي. لكن اليوسفي كان دائما يبتسم في وجوههم ولا يردهم خائبين. على حد ما وصلني لم يشر اليوسفي على أي أحد من زواره برأي غير عبارة: "الله يكمل بخير".
تجربة "البلاغ المغربي" التي كنت أول سكرتير تحرير لها، والصحفي الوحيد بها عند انطلاقتها، ووجهت بسيل من الانتقادات من طرف المناضلين، الذين كانوا يرغبون في الاستمرار في الصمت الاتحادي المطبق، ما دام النظام يصادر جريدتهم الرسمية "المحرر". وكانوا يسخرون في مجالسهم الخاصة من بنيحيى ومن أسبوعيته، ويسمونها "البلاء"، قبل أن يهبوا لمساندتها ودعمها بقرار صادر من صقيع مدينة ميسور، حيث كان عبد الرحيم بوعبيد يقضي حكما بالسجن مع اليازغي والحبابي.
***
برحيل عبد الرحيم بوعبيد في 8 يناير 1992، آلت قيادة الحزب إلى السي عبد الرحمان، لكنه سيواجه عراقيل كثيرة من المتحكم في التنظيمات الحزبية محمد اليازغي وبطانته، كان من بينها تلميذه النجيب إدريس لشكر، الذي صار كاتبا أول للاتحاد في ظروف ملتبسة، وسيصف حسن نجمي عضو المكتب السياسي للاتحاد حاليا، إدريس لشكر بأنه "لم يكن أحد أطر حزبنا الفكرية والإيديولوجية وإنما عرف باستعمال يده"، لذلك استحق لشكر لقب "الفيدور".

عمليا تحول الحزب في تلك الفترة إلى "كائن سيامي" برأسين في جسد واحد، في حاجة مستعجلة لعملية جراحية دقيقة، عملية ليست لفصل طرفين، ولكن تكون تدخلا جراحيا نتيجته التضحية بطرف على حساب آخر. ولأن العملية دقيقة جدا وتحتاج لجراح ماهر، فقد تأجلت مرات. لتأتي محطة الانتخابات التشريعية سبتمبر 1993 وتضع حدا لاستمرارية اليوسفي على رأس الحزب، حين قرر مغادرة المغرب تاركا رسالة من صفحة يعلن فيها استقالته، وهي الاستقالة التي كان لها أثرها الكبير في رجة سياسية كبيرة أصابت الأوساط الحزبية، وارتد صداها داخل أروقة الحكم والنظام.
كانت فرصة لمحمد اليازغي ليتخلص من نعت "بالنيابة" الذي يلتصق بصفته، إذ كان يسمي نفسه في جريدة الحزب "الكاتب الأول بالنيابة".
سيعلن الملك في الجلسة الافتتاحية لمجلس النواب في أكتوبر 1994، عن نيته القيام بما سمي ب"التناوب"، هنا ستبلغ الحماسة بمحمد اليازغي مبلغها أكثر من المتصور، هكذا خاض "السي محمد" (كما يسميه محازبوه) اجتماعات ماراطونية عامرة بالركض واللهاث مع الفرقاء في الكتلة، خاصة حزب الاستقلال، من أجل الاستجابة لأمنية الملك. وهو ما نظر إليه الاتحاديون بعين السخط، كيف يحصل ذلك وزعيم الحزب غائب في الخارج. لكن اليازغي ضرب بكل الانتقادات عرض الحائط، فالحزب لا يقوم على رجل واحد، ولو كان اسمه عبد الرحمان اليوسفي. ومشت الأمور على أن يتولى امحمد بوستة رئاسة الحكومة، وشرع في توزيع "الغنيمة" بتسمية الوزراء، مع التماس إلى الملك بالتخلي عن وزيره في الداخلية إدريس البصري. لكن الحسن الثاني سيرفض إعفاء وزيره القوي، ونقل عنه الصحفي الفرنسي فراسوا سودان "أن الواحد لا يغير مديرة بيته بسهولة"، وأضاف نفس الصحفي في صفحة "كونفيدونسيال" بمجلة "جون أفريك" أن الملك خاطب الراغبين في إبعاد البصري، "ما أعرفه أنا هو أن السي إدريس من أشد المدافعين عن الاتحاد الاشتراكي، عليكم منحه بطاقة انتساب إلى الحزب بدل المطالبة بإبعاده (!)".
لكن ولد دوار موكارطو في "ابن أحمد"، الزعيم العمالي محمد نوبير الأموي سيصل ذات نهار جمعة إلى اجتماع المتحمسين في التوزير، ويقلب عليهم أطباق "الكسكس بسبع خضر وبالبصل والزبيب" مع اللبن، التي كانوا يتحلقون حولها، قائلا بغضب بدوي كيف تقررون عن الاتحاد وزعيمه مغيب. هكذا سيصدر بلاغ الديوان الملكي موقع باسم مستشار الحسن الثاني أحمد رضا اطديرة ينهي جولة التناوب إلى إشعار لاحق. فانفض القوم منهزمون يجرون ذيول الخيبة والغبن. فالقصر نفسه لم يكن متحمسا لمنح ثقته لامحمد بوستة واليازغي لم يكن مقتنعا به للعب الدور.

3 - ركلة بحذاء من ماركة "أوديربي"..
لم يعرف منتجع "كان" زيارات بنفس الحجم والكثافة لسياح مغاربة، ترددوا على اليوسفي من أجل إقناعه بالعودة والتراجع عن استقالته من مهمته في الحزب، منهم أعضاء في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ومنهم مبعوثين من طرف الملك، مثل المستشار الملكي محمد عواد، كما ذهب إلى "كان" في تلك الأيام آخرون، أحدهم سافر صحبة حرمه، وقد أصبح لاحقا عضوا في البرلمان، وفي العام الماضي صار سفيرا للمغرب بإحدى البلدان اللاتينية، وتساءل القوم عندها من أين جاء هذا الشخص بهكذا مؤهلات (!)
وعاد اليوسفي إلى المغرب ونجح في عودة منفيين آخرين على رأسهم الفقيه البصري، ولأول مرة سيصوت الاتحاد بنعم للدستور المعدل سنة 1996، ولا زلت أحتفظ بالتسجيل الصوتي لحوار أجريته مع الفقيه البصري في بيته بعين الدياب، يؤكد فيه على رفضه للتعديلات الدستورية، لكنه في صباح اليوم الموالي اتصل بي هاتفيا وطلب مني توقيف نشر الاستجواب، وستنشر جريدة الاتحاد الاشتراكي بعدها تصريحا للفقيه يؤيد فيه الدستور الجديد المعدل.
***
أعلن الملك الحسن الثاني يوم 3 مارس 1996 عن إصلاحات دستورية، وقُدم الدستور الجديد للاستفتاء في 13 سبتمبر 1996، حيث تم الحصول على 96,56 ٪ من الأصوات لصالحه.
والإصلاح الذي طُرح في هذا الدستور هو إنشاء مجلسين، مع انتخاب غرفة مجلس النواب بالاقتراع العام المباشر، وإنشاء غرفة برلمانية ثانية تُدعى غرفة المستشارين، ينتخبون عن طريق الاقتراع غير المباشر.
***
استخدم اليوسفي سلطته المعنوية ورصيده التاريخي لإقناع الحزب بالقبول بالتصويت بـ "نعم" لدستور (13 سبتمبر 1996)، ولم ينجح في جر رفيقه محمد بنسعيد أيت يدر معه في ذلك القرار، حين كان بنسعيد على رأس حزب منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، وهو ما أدى إلى انشقاق المنظمة، وظهور حزب عرف بأصحاب "أوطيل حسان" نسبة إلى فندق راق في العاصمة تعود ملكيته للقصر الملكي، حيث عقدت به ندوة إعلان تأسيس الحزب المنشق (الحزب الاشتراكي الديمقراطي)، وظهر اسم عيسى الورديغي زعيما له. وقد تم لاحقا حل منظمة العمل الديمقراطي الشعبي لتنصهر مع فعاليات يسارية أخرى في حزب اليسار الموحد، (الحزب الاشتراكي الموحد حاليا)، أما عيسى الودغيري فقد اختفى من الواجهة وغاب، وانضم رفاقه إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ليطلق عليهم وصف (المندمجون) قبل أن يتراجع أكثرهم عن النشاط داخل الاتحاد ويتشتتوا.
***
لما اتفق اليوسفي مع الحسن الثاني على تولي حكومة التناوب تم إخضاع اليوسفي للقسم على المصحف، قبل إخضاعه لإجراء فحوصات طبية أوضحت أنه بصحة جيدة للممارسة مهامه المرتقبة، وكانت المرة الثانية التي يضع فيها عبد الرحمان اليوسفي يده على كتاب الله لأداء اليمين، أما الأولى فكانت سنة 1943 ذات يوم من شهر ديسمبر، حين انخرط في حزب الاستقلال، كان القسم ينص على الوفاء بمبادئ الحزب والحفاظ على أسراره. لكن مضمون قسمه أمام الحسن الثاني ظل من الأسرار التي أخذها معه إلى قبره، أو على الأقل بقيت صيغة القسم غير معروفة، وإن عرف المضمون، الحفاظ على النظام الملكي وتسهيل انتقال المُلك من مَلك إلى مَلك. وهو القسم الذي لم يتم هضمه من الرفاق اليساريين، أن يصدر من رجل يساري علماني.
وعندما أخبر اليوسفي صديقه الفقيه البصري بعزمه العمل إلى جانب الحسن الثاني، سأله الفقيه عن الضمانات التي تلقاها، فرد عليه اليوسفي: "في السياسة ما كاينش لاصورانص" (لا تأمين في السياسة).
وذهب اليوسفي لتشكيل فريقه الحكومي، لكنه في كل مرة كان الملك يرفض الأسماء التي يقدمها له، فمثلا كان اليوسفي يرغب في جلب محمد الحلوي ليكون هو الأمين العام للحكومة، لكن الحسن الثاني كان يكره الرئيس السابق للاتحاد الوطني لطلبة المغرب. كما رفض اقتراح المناضل المغترب ابراهيم أوشلح لتولي حقيبة الجالية المغربية المقيمة في الخارج.
وبعد مرور حوالي أربعين يوما اضطر اليوسفي للقبول بالتشكيلة التي تم تعيينها له. وكان أحمد الحليمي هو المسير الحقيقي للوزارة، عند استقبال الحسن الثاني لأعضاء حكومة اليوسفي خاطب الملك الحليمي بالقول: "أنا كنعول عليك أسي أحمد"، ولم يتردد اليازغي في حوار له نشر ب"المساء" وتم توثيقه في كتاب، أجراه معه الفلسطيني محمود معروف، في اتهام أحمد الحليمي بالعمالة لأجهزة المخابرات و"لادجيد" تحديدا.
لم يكن اليوسفي يرجع إلى المكتب السياسي للاتفاق معه واستشارته في الخطوات التي يخطوها. أثناء هذه المرحلة كنت أحاور أحمد الحليمي في بيته بالرباط، عندما علمت أنه يخطط لانشقاق داخل الاتحاد، واستطاع أن يستقطب حوالي 35 من أطر الاتحاد إلى جانبه، صرح لي الحليمي أنه غاضب من اليوسفي بسبب ذهابه إلى دار إدريس البصري بدل ملاقاته في مكتبه بوزارة الداخلية من أجل ترتيبات تشكيل الحكومة، ومن بين ال35 كان محمد بنيحيى وحسن الصبار، لكن يبدو أن الأمور مضت في سياق تم فيه تراجع هؤلاء الغاضبين، وقد صار الحليمي هو "الكل في الكل" في حكومة اليوسفي، وحسن الصبار وزيرا للسياحة، ومحمد بنيحيى عضوا بديوان الوزير الأول.
ومن بين أصدقائه في المهجر و"الكفاح المسلح" جاء بالعربي عجول في منصب الوزير المنتدب لدى الوزير الأول مكلف بالبريد والتقنيات الحديثة والاتصال. ومما يحكى أن الحسن الثاني استدعى وزيره العربي عجول ليكلمه في شؤون وزارته، لكن العربي عجول أُرتج عليه، ولم يستطع النطق والكلام والرد على أسئلة الملك، وبقي الملك يتأمل في الوزير الجالس مرتعبا أمامه، ثم أمره بالانصراف. بعدها تم تعديل وزاري غادر فيه عجول الحكومة ليجيء مكانه طارق حجي.
بالإضافة إلى بنيحيى وعجول، من رفاق اليوسفي في مرحلة الخارج، عمل أحمد آيت قدور في ديوان محمد اليازغي وزير السكنى وإعداد التراب الوطني. وبعدما كان من "الثوار" وأحد المنسقين مع ضباط القنيطرة في انقلاب الطائرة 1972، عاد أيت قدور إلى المغرب ليقطع مع ذلك التاريخ وتلك الممارسات، وشن حملة شعواء ضد قائده السابق الفقيه البصري في استجواب نشر على حلقات في "الأحداث المغربية"، وهي نفس الفترة التي نشر فيها عبد اللطيف جبرو سلسلة مقالات تهاجم الفقيه أيضا، وقام بجمعها في كتيب صغير، لكن تلك الحملات كانت مثل "الفرشي" فارغة، ولم تكن ذات مصداقية، ومليئة بالأكاذيب والعدوانية المجانية، ومنها أن الفقيه البصري حاول أن يغرق طفلة آيت قدور في مسبح!!. وتحول أيت قدور إلى موظف شبح في وزارة ولي نعمته اليازغي.

***
ما بين أبريل 1998 وأكتوبر 2002، الفترة التي تولى فيها منصب الوزير الأول كان اليوسفي يقتات من اسمه وسيرته المضيئة كمعارض سابق، وكأحد أبرز وجود المعارضة السياسية في المغرب، حاول التركيز على الملف الحقوقي، وواجه ما سماه ب"جيوب المقاومة" وخصوم "التغيير".
وبعد وفاة الحسن الثاني جاءه امحمد بوستة ومحمد بنسعيد أيت يدر وطلبا منه تجديد العقد مع الملك الجديد بالتنصيص على ملكية برلمانية، لكن اليوسفي رفض، صار ملكيا أكثر من الملك. إلى أن صدم بعد أن استقبله محمد السادس في طنجة وركب معه السيارة في جولة قصيرة بشاطئ المدينة، ووعده خيرا، كان اليوسفي يستعد لتشكيل حكومته الثانية بعد أن حصل الاتحاد على المرتبة الأولى في انتخابات 27 سبتمبر 2002، لكنه سيفاجأ عندما سيعرف كباقي الناس من خلال أخبار التلفزيون أن الملك استقبل رجل الأعمال المستقل إدريس جطو وزير الداخلية وعينه وزيرا أول. وإدريس جطو هو صانع أحذية الملك، صاحب شركة "أوديربي" للأحذية في شارع مولاي سليمان بالدار البيضاء، كان هو من بعثه الحسن الثاني إلى بيت عبد الرحمان اليوسفي يوم الأربعاء 4 فبراير 1998، بعد أسبوع من عيد فطر تلك السنة، ليبلغه أن العاهل راغب في تعيينه وزيرا أول على رأس حكومة التناوب، فإذا به يخلفه خارج سياقات "المنهجية الديمقراطية" كما هي منصوص عليها في دستور 1996. ذلك ما عبرت عنه كلمات بيان صدر عن المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، بيان صاغه محمد الأشعري. ثم غادر اليوسفي إلى منتجعه اللازوردي، معلنا اعتزاله الحياة السياسية بشكل نهائي لا رجعة فيه.
***
بعدها سيستغل اليوسفي دعوة تلقاها من منتدى في بلجيكا ليلقي محاضرة خصصها لتقييم تجربة حكومته، وهي المحاضرة المرجعية المعروفة في الأدبيات السياسية ب"محاضرة بروكسيل".

4 - عندما وجد اليوسفي قبر بنبركة!
عاد عبد الرحمان اليوسفي إلى الدار البيضاء ليقيم في شقة صغيرة في الطرف الآخر من حي بوركون، قرب ملعب "فيلودروم" لسباق الكلاب، حيث تسمع صيحات وهتاف المراهنين الفقراءعلى الكلاب التي تحمل الأرقام التي راهنوا عليها، يصيحون بأعلى الأصوات في الكلاب أن تضاعف ركضها: "اجري يا خويا.. اجري يا خويا"..
من أجل ربح ورقة رهان بسيطة يجعل الإنسان من الكلب أخا له. لكن إخوة اليوسفي قرروا التنكر له واستمروا في حكومة جطو، بعد أن ألفوا واستصاغوا كراسي الوزارة. وقد سخر الناس من الكاتب الأول للاتحاد محمد اليازغي، حين لقبوه ب"الوزير السي محمد الصاكادو"، لأنه قبل أن يعين وزيرا بدون حقيبة في حكومة إدريس جطو. وبذلك عمّر الاتحاد في الحكومة ("سنين عددا"، مثل أهل الكهف)، حوالي 13 سنة، ضيع فيها تاريخ ومجد أزيد من نصف قرن، وخسر فيها مصداقيته لدى أنصاره وجماهيره التقليدية. واكتملت الفرجة بانكماش الحزب وقبوله الخضوع لحزب القصر الوليد، حزب الأصالة والمعاصرة، الذي هاجمه لشكر في البداية، هو من أطلق عليه تسمية "الحزب الوافد"، فإذا به يمشي في ركابه ويصبح وزيرا مكلفا بالعلاقات مع البرلمان بفضل تدخل إلياس العماري، بل سيتم فرضه من ذات الجهة على رأس الاتحاد في المؤتمر التاسع الذي انعقد في بوزنيقة ما بين 14و16 دجنبر 2012.
لم يعد من الأسرار الخفية اليوم أن عددا من أعضاء المكتب السياسي للاتحاد، يضعون ولاءهم الأساسي لحزب القصر "البام"، يتسابقون في تلقي التعليمات منه وتطبيق أوامره.
أما اليوم فقد بدل لشكر "المعطف" الذي لا يتقن تركيب أزراره بشكل مضبوط، وبايع رجل الأعمال عبد العزيز أخنوش رئيس حزب التجمع الوطني الأحرار، على نفس المنهاج والوفاء الذي سارعليه مع "البام"، الحزب الذي تراجعت أسهمه في البورصة المخزنية، لفائدة مالك شركة "افريقيا" للمحروقات. وبذلك احترقت آخر ورقة للاتحاد الاشتراكي الذي كان.
***
بعد غياب لم يطل، بدأ عبد الرحمان اليوسفي يظهر في بعض المناسبات الاجتماعية، ومنها تشييع رفاقه من المناضلين المتوفين، مثل حضوره جنازة السعيد بو النعيلات، وقبلها مجلس عزاء المناضل الحاج علي المانوزي. وزيارته لبعض المعارض الفنية، وتلبية دعوات حضور توقيع بعض الكتب والإصدرات. لكنه سيعود إلى السياسة عندما نظم مهرجانا سياسيا لتقديم كتاب "أحاديث ما جرى"، ولما نظم الذكرى الخمسينية لاختطاف المهدي بنبركة، وهما حدثان استقطبا الاهتمام الإعلامي بشكل كبير، وفي الحدثين معا تم استبعاد لشكر بشكل واضح وجلي. لشكر الذي عانى كثيرا في قبوله من طرف العائلة الاتحادية، كان يظل وحيدا عندما يضطر لحضور مناسبة عزاء، كما عاينت شخصيا في نوفمبر 2015 عندما حضر إلى مقبرة الشهداء عند تشييع جنازة المناضل المحامي محمد الصبري، كان لشكر يقف معزولا، لا يقترب منه أحد، كجمل أجرب.
***
لكن ما الذي حصل لحزب الاتحاد ليصل كل هذه المواصل، وليجد نفسه ينكمش في الدرك الأسفل، لم يعد المواطنون يحترمون قيادة الاتحاد والمنتمين إليه. وصار بعض قدماء الحزب الذين اختاروا تجميد أنفسهم تنظيميا والابتعاد، يتأسفون، ليقول بعضهم ما معناه أن الحزب ولد في الأول وهو يعاني من خلل هرموني، ما أدى به إلى استفحال أعراض الخلل التي ظهرت في عهد قيادة عبد الرحيم بوعبيد، لكن اليوسفي لم يتمكن فقط من الحد من الداء، بل كان سببا في تورم جسد الحزب أكثر وبروز الشوه الخلقي إلى الأنظار، ومن نتائج ذلك وصول شخص مثل إدريس لشكر إلى قمة الاتحاد، وعبثه الفادح والواضح بكل ما بناه المناضلون الأوفياء، عبر قوافل ومواكب الشهداء والمعتقلين والمنفيين والمضطهدين الاتحاديون الأصلاء ومن اقتيدوا إلى مركبات التنكيل والتعذيب وأوقفوا أمام المحاكم غير العادلة....؟؟!!!
***
لبى اليوسفي (نداء الحسن) الثاني من أجل إنقاذ البلاد من السكتة القلبية، وقبل بدخول تجربة "حكومة التناوب التوافقي"، بالرغم من معارضة جزء كبير من المناضلين لهذا القرار. وكان دائما مستعدا لإشهار عصا "أرض الله واسعة" لمن يعارضه في ذلك، وهي المقولة التي تنسب إليه خطا، لو أنه اضطر لاستخدامها خلال المؤتمر الوطني السادس للحزب (2002)، واستعملها مع أعضاء الشبيبة الاتحادية وأوقف جريدتهم "النشرة".
واليوسفي المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان هو من قال عن التنكيل بالأستاذ عبد الرحمان بنعمرو ورفاقه الاتحاديين يوم 8 ماي 1983 أمام باب مقر الحزب في أكدال بالرباط، واقتياد 34 مناضلا طالبوا بمقاطعة الاتحاد للانتخابات، إلى السجن، بأن "البوليس قام بعمله"، لحسن الحظ هناك الأرشيف، لمن يرغب في مطالعته بالعودة إلى جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، التي نشرت كلمة "الأخ عبد الرحمان اليوسفي" أمام أعضاء الشبيبة الاتحادية في مؤتمرهم المنعقد بالجدار البيضاء بالمركز التربوي الجهوي في درب غلف.
"واجه الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي خصومه دائما بردود فعل قوية تبرز الشجاعة السياسية لهذا الزعيم السياسي وتعطي أكثر من رسالة لمن يهمهم الأمر" كما تحدث الدكتور محمد عابد الجابري أمام نخبة من المثقفين والسياسيين في لبنان، وهو يحاضرهم عن تجربة التناوب في المغرب أشهرا قليلة من تشكيلها، مبددا دهشتهم ومفاجأتهم مما حصل في المغرب وسمي ب"التناوب".
لقد تطور سوء التفاهم وتعمق داخل الاتحاد، لكن اليوسفي انشغل بترتيب حكومته أكثر من الانشغال بالشؤون الداخلية الحزبية للاتحاد.
وتساءل المتسائلون عن ماذا جرى حتى وافق زعيم الحزب المعارض التاريخي على رئاسة الحكومة وولوج تجربة لـ"التناوب"؟
كثيرا ما رد اليوسفي أن السياسة تمارس بالإشارات وبالرموز والمعاني. لذلك قبل التزوير الذي قام به وزير الداخلية إدريس البصري لصالح مرشحين اتحاديين في انتخابات 1997، ومن بين من تم التزوير لفائدتهم فاطمة بلمودن ومحمد أديب ومحمد حفيظ، والأخير هو الوحيد الذي رفض المقعد المزور وسانده خالد السفياني ومحمد الساسي في رفضه.
لم يكن عبد الرحمان اليوسفي مستعدا للإجابة على مثل هذا السؤال التشكيكي والمحبط والمثبط للعزائم والمنتمي إلى زمن سالف انقضى، بل كان يعيش لحظة استمتاع وانتشاء، أذكتها الرسائل وكلمات التأييد التي بدأ يتلقاها، والأخبار التي تصله عن "السند الشعبي التلقائي"، وأكثر من ذلك، هذا ترحاب دولي غير المسبوق. من الولايات المتحدة الأمريكة وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا وإنجلترا وألمانيا وفنلندا والدانمارك وغيرها. تصريحات رسمية وإعلامية تتحدث عن ما يشبه "الانقلاب السياسي" في المغرب، معارض شرس للملك يتخلى عن سلاح المعارضة ويتولى شأن الحكومة.
وفي غمرة احتفال اليوسفي بنفسه، سيصرح لمراسلة أسبوعية "لوبوان" الباريسية، أن التناوب الذي يقوده هو تنفيذ لتناوب قديم كان سيقوده رفيقه في النضال الشهيد بنبركة، وأضاف "أنا متأكد أن بنبركة سعيد الآن في قبره"، ونسي رفيق بنبركة أن الشهيد بلا قبر، إذ لم يكشف حتى اليوم عن مصير جثمانه ولا عن المكان الذي دفن به.
دخل اليوسفي الحكومة من دون برنامج حقيقي يمكن به مواجهة أوامر وإملاءات صندوق النقد الدولي، والتي كان الاتحاد يعارضها باستمرار. في عهده جرت عملية ما يسمى في المغرب ب"الخوصصة" وتفويت مؤسسات من القطاع العام إلى الخاص.
واستمرالمغرب في تدهوره الخطير، اقتصاديا واجتماعيا، والرجل لا يملك عصا سحرية.
وبمقابل ال تجاه المناضلين كان اليوسفي لينا تجاه اليمين والمخزنيين، يكفي التذكير بتعامله مع الجلاد محمود عرشان رئيس حزب الحركة الشعبية الاجتماعية، ومع المحجوبي أحرضان، الذي اقترح علي أن أجري معه حوار بصفة "الزايغ" مقاوما، وذلك في العدد الخاص الذي أصدرته من مجلة "السؤال – الملف" حول المقاومة، وكان موضوع ذلك الملف من اقتراح اليوسفي وإلحاح منه، حين كان يستعد لتنظيم مهرجان مرور نصف قرن على أحداث وادزم بالمغرب واسكيكدة بالجزائر، وهو أول نشاط حزبي كبير حضره العائد محمد الفقيه البصري في طنجة. لكني رفضت أن أحاور المحجوبي أحرضان بصفته من المقاومة، حيث لما أخبرت الفقيه بذلك ضحك وسخر من الفكرة. وسأعود في موضوع خاص للحديث عن صلة عبد الرحمان اليوسفي بمجلة "السؤال".
أيضا لن ينسى المناضلون والمدافعون عن حقوق الإنسان ذلك التكريم الكبير الذي نظمه عبد الرحمان اليوسفي لوزير الداخلية المعفى من قبل محمد السادس، حيث نظمت مظاهرة أمام الإقامة الرسمية للوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي حيث جرى الاحتفال التكريمي لأكبر المسؤولين عن سنوات الرصاص.
هنا نقف، فليس كل شيء يمكن أن يقال، ولا كل ما يقال يمكن أن يكتب.
"وهذا ما كان.."..
كما كان يختم عبد الرحيم بوعبيد كلامه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غارة إسرائيلية تقتل 3 عناصر من -حزب الله- في جنوب لبنان


.. عملية -نور شمس-.. إسرائيل تعلن قتل 10 فلسطينيين




.. تباعد في المفاوضات.. مفاوضات «هدنة غزة» إلى «مصير مجهول»


.. رفح تترقب الاجتياح البري.. -أين المفر؟-




.. قصف الاحتلال منزلا في حي السلام شرق رفح