الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (20)

احمد جمعة
روائي

(A.juma)

2020 / 6 / 4
الادب والفن


حث نفسه بعدم التسرع في إبْلاغ تقي على الانقلاب الجسدي الذي أَحاله لرجل ضاري الشهوة، يعرف بأن هذا الحدث سوف يعيد للرجل توازنه ويزف للأسرة البهجة، لكنه خشي أن تكون تلك الحالة طارئة ومتعلقة بشيري فقط، ونتيجة اختلال هرموني عَرَضيَ، ضحك لدى عبور هذه الخاطرة بذهنه وشعر برغبة تحركه هذه المرة لأنجيلا "غابة سوداء لامعة تستدرجني وهي نقاهة ثانية أنال بعدها الجائزة الفخمة وأزف حينها لتقي البلاغ اليقين" غير مصدق هذا التداعي بعد الليلة الشَجِيّة معها"ماذا جَرى لهرموني؟" طوى الرواية التي يقرأها واحْتسى ما بقيَ في كوب القهوة السوداء، أسرع بالهروب للشارع وكأنه يريد أن يضاجع كل فتاة يلتقيها في تلك اللحظة، استرجع وجه أنجيلا، رأى وحشاً ساكناً في جسدها البارد، توقع أن يكون وراء كرة الثلج تلك كُرةٌ من النار تحرقه" لاشك أنها الغيرة" خَمَن فتورها نحوه لشعورها العائد إلى آبائها، وربما هدَرَ كرامتها، لكن عاد وغير توقعه حين أدرك للمرة الثانية أنها كانت وراء دعمه ومساندته في العثور عليها وتعرف أنه مغرم بها حتى العشق ولم يسبق أن أبدت أي مسحة من الغيرة طوال المدة التي كان يتحدث عنها" إذن لماذا تأتي الغيرة الآن؟"
نظر لساعته وجدها الثانيةَ عَشْرَة وست دقائق، اليوم نهاية الأسبوع وهي عادة في هذا الوقت، اما بشقتها أو تجول في أحد المجمعات التجارية أو مع مجموعة من الرجال الغامضين الذين كثيراً ما صحبتهم، فكر أن يُعرّج عليها، لم يعد يحتمل منظرها معه في آخر لقاء"كيف للعاطفة أن تَجِيشَ بهذا الزخم والشغف السريعين؟ لم أكن حتى أميل لها" وضع الرواية تحت إبْطه بحث وهو يسير في الطريق عن مخزن لبيع السجائر حتى صادف واحداً في زاوية من محطة بترول السيارت، دَلفَ واشترى علبته مع قداحة، فكر أن يأخذ معه شيئاً يفاجئها به"ماذا تَحب؟ ما هو أفضل شيء في هذا الوقت؟" اقتنى علبة كرز وعلبة صغيرة بلوبيري، ثم خرج من المخزن وسار بضع خطوات ليطل على الشارع العام متطلعاً لسيارة أجرة. كان الشارع مزدحماً بالسيارات ويستحيل أن تقف أية سيارة له، سار بضعة أمتار، كانت الحرارة في النهار مرتفعة قليلاً وهناك غيوم في السماء حَجبَت الشمس والهواء ما أشاع الرطوبة في الجو، شراؤه الكرز والبلوبيري أفاض فيه الحماسة لفكرة زيارتها المفاجئة، ظل يعدد الأفكار ويفرز الكلام الذي سيقوله لها، ورغم شهوته المباغتة نحوها ورغبته في اختبار آخر لذكورته، لكنه لن يبادر بالإفْصاح عن ذلك الشغف الذي داهمه تجاهها، كما شعر بقلق ربما نشأ عن إحساسه بالندم من خيانة شيري، حتى إنه أفسد الهدية التي يحملها وفكر بأنها رشوة رغم بساطتها"هي تعشق الكرز والبلوبيري"خاطب ذاته سراً ومضى ينتظر سيارة الأجرة مع احتقان الأفكار في رأسه، فكر أن يحتضنها ويقبلها ويشعرها بأنها جميلة ومثيرة، بل وأخَّاذة وهذا ما لم يفعله طوال مدة معرفته بها القصيرة، ربما شعرت بأنها غير مطلوبة، نَقبَ في ذاكرته عن كل المشاعر الرقيقة والمثيرة التي سينثرها حولها شرط ألا تكون على حساب حبه لشيري.
ركب المصعد، ضغط على الرقم2 ثم سرعان ما ضغط على الرقم 5، كان عقله شغالاً بالتفكير والتحليل، لم يركز على رقم الطابق الذي زاره من قبل مرة سريعة قبل أن ينزل معها، سار في الممر المَفْروش بسجاد رمادي مخطط هادئ اللون، فكر، قليل من العمارات السكنية تُفْرش ممراتها بالسجاد، ثم انْتبَه لأفكاره وابتسم"هذا وقت التفكير في ممرات وسجاد العمارات؟" مضى نحو الشقة رقم6، كان الهدوء يغلف المكان ورائحة تنبعث من الطابق كله لا يعرف مصدرها، ضغط على الجرس وانْتَظر، كانت الساعة الواحدة ودقيقتين، تسارعت نبضات قلبه دفعة واحدة مباغتة، ظل لدقيقة تهيأ له أنه سمع صوت خطوات قادمة ثم انقطعت، عاد وضغط مرة أخرى ووضع يده على الجرس عمداً محدثاً جلبة في الصوت، ثم انتظر متوقعاً أنها ليست بالداخل، وقبل أن يستدير عائدا محبطاً سمع صوت الباب يُفتح جزئياً مع بقاء سلسلة القفل مربوطة، أطلت بوجهها الذي علته مليون دهشة، تورد فجأة وبدا له كما لو أنها صُعقت رغم توقعه أنها نظرت عبر عدسة الباب، لكنه أدرك من ذُهولها أنها لم تنظر مُسَبقاً حيث بدا عليها الارتباك والصدمة، أمْعَن النظر بعد الوهلة الأولى، ثم كَبحَ جماح حماسه حين رأى صدرها عارياً وظهرت حلمتها من تحت الصدرية الدانتيل البنفسجية، كما رأى سروالها البكيني الأصفر، بدا له جسدها رطباً تشع منه رائحة عطرية نفاذة وظهرت عيناها حمراء متورمة كما شعر بأنفاسها تلهث متقطة، اسْتَخْلَصَ بأن ثمة رجلاً آخر في الداخل، وفجأة شعر بدوار في رأسه تَبَعتهُ غِيرة طائشة رَدعَت صوته عن النطق وسقط من يده الكيس الذي يحمله.
"سوفي؟ ماذا تفعل هنا؟
فكت سلسلة القفل من غير أن تفسح له للولوج، لفحت وجهه موجة باردة آتية عبر تيار ثلجي من داخل الشقة، كان يتوقع احْتِفاءها به، أو على الأقل ابتسامتها المعهودة أو حتى مزحتها العنيفة، لم يبدُ عليها الترحيب بزيارته، كما تقلصت ملامحها وبان عليها الارتباك، ود لو تصفعه بهذا الشعور، شك بوجود رجل ما بداخل غرفتها، لم تفصح طوال الوقت بوجود علاقة لها به، مقابل ما فَرَط فيه من اعترافات شنيعة عن مجمل حياته، تتالت الصدمات والمشاعر المتضاربة كلما زاد وقت وقوفه عند الباب وحيرتها الواضحة في عدم دعوته للدخول، شعر بحرجها من خلال صمتها وتورد بشرتها، وقبل أن يستأذن في الابتعاد سمع خطوات رافقها صوت فتاة بنبرة قلقة.
"أنجي، هل ثمة ما يزعج؟
ظهرت الفتاة البيضاء مستديرة الوجه ذات البشرة الناعمة وملامحها الجمالية غير المألوفة، التي صادفها الليلة الفائتة عند طاولتهما وتهامستا، بدت عارية الصدر هي الأخرى وبيدها سيجارة، وبسرعة خاطفة اسْتدارت نحوها أنجيلا ودوى صوتها محتدة وبنبرة آمرة.
"أماندا.
أسرعت أماندا بالاستدارة وظهرت مؤخرتها التي كانت موشومة في الأعلى بخنجر صغير، في ومضة اختفت المرأة فيما توقف نبضه وبدا مهشماً، حطم المنظر صورتها الأنثوية، كشفت الصورة عن وجهها، إذ بدت له الآن مقلوبة، أوقدت فيه اللحظة شعوراً بالإشفاق، فهي الآن كالرهينة محاصرة في عقله الذي لم يستوعب بعد الصدمة.
" تحاصرك الحياة عندما تعاندها، وترحب بك في حضنها الدافئ حين تبتسم لها.
قالت ذلك وهي تتلفت من خلال الممر، ثم استطردت وهي تستعد لغلق الباب.
" كنت محاصرة، انْتظرت تَحَولك من غير أن تشعر بي، لم أوحِ لك برغبتي قبل التحول وقد صدمتني أخيراً، أُهنئك على اكتشاف الرجولة، واعذرني الآن لدي ما الهو به.
وقبل أن تغلق الباب، وضع يده معترضاً إياها، نظر في عينيها بصمت، بدا كما لو أمسك بصخرة سيزيف عن السقوط وهو يرفعها، تسمر في مكانه، لم يكن الوضع مناسباً للوقوف بهذه الحالة، وكان من الصعوبة الولوج للداخل، شيء ما منعه عن الهروب من أمامها، لم يرغب أن يغادر للمرة الأخيرة.
"لا أريد الهروب مِنْكِ، مازال لدينا فرصة.
ضحكت وقالت بلهجة ساخرة وهي تهم بغلق الباب.
"لن يتسع فراشك لنا، أنا وشيري.
أغلقت الباب ومازال واقفاً، ظل شارداً لم يستطع أن يغادره شبح الفتاة الأخرى بالداخل وقد الْتَهمت عقله، جاءت لحظة في وقت ما رسم لأنجيلا صورة وعد نفسه أن يطابقها مع خياله، لكنها بدت له الآن شبحاً توارى وراء شبحه هو الآخر. خرج للشارع وقد تحول العالم في نظره لمفارقة كبرى أطبقت على الدنيا بأسرها، كان هو المرأة في جسد الرجل، فإذا به هو الرجل الطبيعي، وكانت أنجيلا هي المرأة التي اشتكى لها من شكوكه الهرمونية، فأصْبحَت هي المرأة الأخرى الباحثة عن امرأتها "لم تصرح لي ببوصلتها، كانت تنتظر تحولي" هل يضحك أم يشقى؟ سيذهب الآن لشيري ويلقي هناك عند سفحها بصخرة سيزيف ويستسلم بعكس الرواية.
الفصل الثاني
ثلوج في يوليو
حين إسْتقر تقي في لندن خلال الأيام الأولى من وصوله بدا كما لو عاش الحرب الحقيقية التي لم تكن في البحرين سوى اسم الحرب الثانية حتى من دون كلمة العالمية، شهد الحرب هذه المرة بنفسه نهايتها وتداعياتها واستمرار الاحتفالات بالنصر لكنها على سكان الجزيرة البريطانية كانت مختلفة عن صورتها وآثارها في البحرين، برزت أجواء الحرب قاتمة النهاية السعيدة، رائحة الدخان تضَوَّع في كل شارع وحي وممر، لاسِيما الخراب والأهوال في كل مكان، المباني المهدمة، أعمدة قائمة هي فقط ما تبقى من عمارات كانت شاهقة، العمال والحرس وأفراد الجيش انخرطوا في ورشة هائلة تضخ العمل ليلاً نهاراً، ومنظر المعوقين والمبتورين صار دلالة تبوح بما تركه القصف الألماني على العاصمة البريطانية، النساء ظهرن وقد ارتدين في غالبيتهن الملابس السوداء ليس بسبب الحزن إنما هذا أكثر ما توفر في السوق، كان المنزل الذي استوعب تقي يقع عند طرف ضاحية يسكنها سكان لاجئون دمرت الحرب منازلهم، فقامت الحكومة بوضعهم في بنايات مؤقتة، تمكن تقي من توفير غرفة له مقابل مبلغ يدفعه شهرياً للسيدة "إيما البيرت" التي عاد زوجها من جبهة إيطاليا للتو، كانت بحاجة لدخل وقد وفر لها سكنه معها مصدراً تم الاتفاق عليه بين والده عبدالرحيم المرجاني وأحد الضباط الإنجليز في المنامة، اسْتغل علاقته التجارية بقوات الاحتلال هناك وأصبح من أوائل الذين وصلوا بريطانيا للدراسة بعد الحرب مباشرة، بالنسبة له ما زالت لندن في حرب، كل شيء هنا يشير إلى أن الحرب مستمرة، كل المظاهر والوجوه والملابس والجرحى والمعوقين والمناظر العامة، وحتى النفسيات، وحدهم الشباب والمراهقون يغمرون الطرقات في الليل ويتكدسون في الحانات مع الجنود العائدين من الحرب الذين مازال بعضهم بالرغم من مضي شهور يرتدي ملابس الجيش.
حين وصل بواسطة طائرة بأربع محركات عبر اليابسة من مطار المحرق، لشركة BOAC تحمل أكثر من خمسين راكباً، كانت هناك رحلات غير منتظمة في البداية مباشرة خلال فترة الحرب لكنها انْتَظمت لرحلتين ثم ثلاث أسْبوعيا للهند ولندن وسنغافورة وهونغ كونع، كانت هناك طائرت مائية تقلع من القضيبية لكن تقي المرجاني فضل له والده السفر عن طريق طائرة من اليابسة مع دفع تكاليف الرحلة مضاعفة، خرج من مطار المحرق يوم الاثنين ظهراً ووصل إلى لندن يوم الخميس بعد مروره بكراتشي والهند.
انْتهت الحرب في يونيو، وحط الرحال في لندن في شهر أكتوبر، كانت نهاية الشهر، ازْدَهرت خلالها الغيوم السوداء الكثيفة، كادت تتحطم خلالها الطائرة أكثر من مرة قبل الهبوط خارج المدرج، فَطِنَ فيما بعد أن كثيراً من الطائرات القادمة هذا حالها، وبعضها تحطمت أجزاء منها، اقْتَرنت هذه الحادثة بعدها باعتياده السفر للجزر البريطانية دون ذعر كالآخرين كلما طرأ مشروعٌ أو تجارة، لأول مرة وقعت عيناه على أوراق صفراء داكنة تفوح منها رائحة البخار، كانت في حديقة بَلَغها عند منتزه طرف العاصمة، الشجرة الوحيدة التي رأى أوراقها صفراء من قبل تلك القابعة في منزل جوري، عندئذٍ تذكر رقية وهي مُنْسلخة عن عالم الأحياء جلد على عظم، مستلقية على الفراش وفوقها تلك البطانية المزخرفة المتهرئة، ذكرته الشجرة اللندنية بالمرأة الكفيفة التي واظبت على الجلوس عند تلك الشجرة وسط فناء الدار، يدخل متسللاً حتى وهي قابعة في المكان وكان يخشى أن تشتم رائحته.
منذ التحق بكلية الأعمال بجامعة امبريال كوليج لندن، بدأ دورة تمهيدية، واجه خلالها صعوبة التأقلم مع المتحدثين الإنجليز، غير أن إيما البرت التي سكن معها ساهمت من خلال ثرثرتها الطويلة المتعثرة معه في تحسين أدائه، كان في البداية يتأفف ويتهرب لكنها بمجرد أن وقع في مأزق الدراسة منذ بدء الدورة التمهيدية حتى بدأ يتأقلم مع رائحة البطاطس المقلية التي كانت أكثر وجبة متوفرة لأمثاله وأرخصها وأسرعها، كانت الحياة صعبة الارتباك فرش جناحيه حوله، تبرم سراً في الأسابيع الأولى من كل شيء يراه أو يسمعه أو يلمسه، ظل عبوره بين الكلية وبين حرم الجامعة الرئيسي بمنطقة جنوب كنسينجتون مصدر معاناة إلى أن صادفته الوسيلة بواسطة سيارة أحد الأساتذة الاسكتلنديين يدعى أرون ساعده في التنقل مقابل بضعة جنيهات يدفها كل اسبوعين، لم يجد طريقة لعبور الصعاب والتحديات التي واجهته في المرحلة الأولى سوى أسلوب الدفع، لكن ذلك لم يشمل الدراسة بقدر ما تركز على الخدمات والعلاقات.
عندما أغار فصل الشتاء وأصبحت لندن كرة ثلجية والتدفئة كانت في غالبيتها خربة جراء الحرب، والمدفىء السقفية مدمرة أو مسدودة نتيجة الأتربة وكسارة الحجارة والغبار، وقف حائراً أمام زحف الجليد نحو غرفته الصغيرة الواقعة عند واجهة مدخل المنزل، كانت العتبة الفاصلة بين الغرفة والباب مُنْخفضة بحيث سمحت للثلج بالتجمد عند الباب وإشاعة البرودة في الداخل، مرت عليه ليالٍ قارسة وجد نفسه يرتدي كل الملابس التي أحضرها معه ولم تسد حاجته، فقام بشراء بعض الملابس دون الاهتمام بشكلها وإنما بالسماكة والدفء، مضى الوقت وحيداً فاغراً حياته في وجه الريح الضجر والليالي الكئيبة، وحده بلا صوت سوى صفير الرياح في الخارج، حتى الوجبات التي تصله من السيدة إيما البرت تأتي باردة كوجهها الخالي من أي تعبير بالسعادة أو الشقاء، ظل على هذا المِنْوال حتى صادف ذات صباح وهو على الرصيف على بعد أمتار من المنزل، وقفت بوجهه فتاة تبيع الخبز من عربة تجرها، جمدت بجانبه ورأته يرتجف، نظرت في عينيه وقد بدا عليها التأثر، كانت ترتدي معطفاً رمادياً طويلاً وتركت شعرها مكشوفاً مسرحاً رغم إجماع غالبية النساء اللواتي إرْتدين واقياً للرأس، أمسكت بيده وراحت تفركها حتى شعر بدفء جسمه، ثم سألته إن معه جنيه، فما كان منه إلا أن سحب ورقة من جيبه ومنحها إياها من دون أن يدقق فيها، حين فحصت الفتاة الورقة قبلته على جبينه وقالت بنبرة سعيدة.
"اذهب وادفأ، سيرعاك الله.
تحولت إمبريال كوليدج لمعمل أفكار مشوشة ولكنها قادته لما يشبه الحفرة الذهنية، إذ استقر يَبْتلع الدروس بشغف إجباري، فهو ضجر من تعقيد تركيبة المواد التي يتلقاها في الوقت ذاته شعر بأنها رغم غرائبيتها إلا أنها فتحت له أفقاً للمعرفة وتحديداً التجارة على أصولها بخلاف ما لَقَنهُ والده من بدائيات الشراء والبيع الخاضعة لموهبته الفطرية واعتمادها على المغامرة العشوائية، ومع ذلك كانت تفقس الأرباح والتوسع، خاض غمار الدراسة كعابر سبيل في بداية الولوج لها، ثم سرعان مع مرور الشهور وانغماسه فيها، تحول من عابر سبيل لمهاجر دراسة من دون جواز إقامة، سدد المرجاني كل التزاماته وأوصى به من عاد للندن من ضباط وجنود الاحتلال، وعده بأنه إذا نجح في الفصول الأولى سيكافئه بزيارة له إلى لندن أو بإجازة يقضيها في البحرين لكنه في النهاية أبلغه أن يقضي سنته الأولى كاملة في بريطانيا لتقوية لغته وأدائه، قصد عبدالرحيم من وراء ذلك منع ابنه من العودة والانتكاسة ثانية في غمار اللهو الذي كان يعلم به لكنه تركه حتى تحين ساعة انْتهاء الحرب ويقذف به لبلاد الإنجليز كما فعل، كان يَقْتفي أثره من دون علمه، وقد اكتشف تقي تلك الحقيقة بعد سنوات من تخرجه.
لم تكترث إيما البرت له و لم توليه عناية مكتفية بقبض إيجار الشقة وثمن الوجبات التي لم تكن بأي حال ذات مذاق أو طعم باستثناء البطاطس المقلية بالزيت المر، وكانت أسوأ وجبة من الجبات الثلاث هي العشاء الذي كان عبارة عن قطع من سمك سردين مجفف معفن، أو لحم مقدد يسبح في بحيرة من ماء الملح، ذي رائحة نتنة أو بيض مقلي مع قطع الخبز والبازلاء، كانت وجبة البيض في بعض الأيام تنسى إيما كما يبدو وتقدمها له مرتين في اليوم، على الفطور في الصباح وعلى العشاء في المساء،، لم تكترث به إلا قبل يومين أو ثلاثة من قبض الإيجار، وحين اشتكى لوالده على إثر سؤال الأخير له عن مستوى معيشته، تغير الوضع كليةً، إذ لعبت إيما البرت دور الراعية والمحبة، لم يسأل والده عن السبب لكنه خمن بأن المال تكلم، أو واسطة أحد معارف المرجاني من ضباط الاحتلال العائدين من البحرين، الذين نسج معهم علاقات خلال فترة الحرب.
تعرف صدفة ذات مساء فيما كان يشعل سيجارته في حديقة المنزل قرب حافة السياج المطل على الطريق حين سقط نظره على الشابة الفاتنة ذات القوام المتناسق والمكتنز بعض الشيء عند الفخذين، إذ رآها تفتح باب حديقة المنزل وتدلف لتفاجأ به واقفاً أمامها، لوهلة تجاهلته، ثم عادت خطوات للخلف وطلبت منه سيجارة مع سؤالها عنه ما إذا كان العربي الذي يعيش مع خالتها إيما. وقفا يدخنان في الحديقة الصغيرة ذات الشجيرات المختلفة والموزعة إلى حدٍ ما بتناسق مع إهمال أجزاء منها بدت فيه الأشجار والورود موزعة بصورة فوضوية، فيما ظهر سياجها وقد طُلي باللون الأبيض وتقشر في معظمه وبانت الواح السياج متهرئة. وعند جانب الباب كانت هناك دراجة سوداء مثقوبة الإطارين لم يسأل طوال الوقت عن صاحبها، وقفت الشابة البيضاء بوجهها الناعم الذي لم تقلل من زهوه بعض البثور الوردية اللون منه وقد انتشرت على أطرافه، خاصة أسفل العينين، تصورها في مُسْتَهل قدومها مُتَغطْرسة، لا شيء يجذب الفرد الإنجليزي محدود الدخل غير السيجارة المصنعة، كان السائد هو السيجارة الملفوفة يدوياً لكنه فهم من أحد الطلبة المصريين، ينتمي إلى خلفية لعائلة ملكية، أبلغه بأن السيجارة المصنعة خاصة الأمريكية يمكنها أن تكون مقدمة تعارف لوجبة دسمة! على الأقل ستمهد له السبيل لحوار أو قبلة أو حتى ممارسة جنسية بعد أن تتوثق العلاقة بسبب السيجارة، عندئذٍ أدرك صحة نظرية زميله حينما صادف قريبة إيما البرت، لا يوجد شبه بينها وبين خالتها، فالخالة امرأة متسلطة مترهلة الجسم بطبعها حتى عندما كانت صغيرة، لا جاذبية في هيئتها وفوق ذلك بدت بشرتها وقد أصابها الجفاف، أما الفتاة القادمة للتو فقد امْتلكت جاذبية غير مألوفة على الأقل بالنسبة لذوقه في النساء، كما دقق في لون عينيها فاكْتَشف أن لا لون لها، ليست بسوداء ولا زرقاء ولا خضراء ولا بنية، ثمة لون لا يعرف تسمية له لكنه يجمع بين الرصاصي والرمادي والبنفسجي، خُلِطَت الألوان كلها فخرج هذا اللون، حفظ تلك الصورة لعينيها واستخدمها فيما بعد حين تطورت العلاقة التي نشأت في البدء بسبب الهدايا الصغيرة العابرة التي لا تكلفه شيئاً، كالعلكة والسيجارة وعصير الكرز، ولكنها بمثابة عطايا نَفيسَة، وباهِظة كما أخبرته إفيلين بذاتها.
هَرَعَت حياته سريعة قاطعةً الوقت والوحدة والضجر، بين الدراسة والقراءة والرياضة اليومية التي اعتاد عليها عقب تكليف السيدة إيما البرت له القيام بنزهة كلبها الجرو من نوع "الجريت دان" لونه مزيج من الأسود والأبيض، في الحديقة الصغيرة شبه المهجورة بقرب المنزل، مقابل تخفيض بَخْس تقدمه له من الإيجار أو بإضافة اللحمة الطازجة في طعامه مَرّة في الأسبوع بدلاً عن المقدد، ، كان شكل الكلب جميلاً وهادئ الطباع وهذا ما حَفَز تقي على تولي المهمة التي شاركته بها فيما بعد إفيلين وهي ذات الفتاة التي ضاعفت من زياراتها للخالة، دفع ذلك الفتاة وقد لفت انْتِباهها وحرضها ذات صباح بعد خروجه للكلية أن تبحث في غرفته لتكتشف ورقة نسي إخفاءها، كتبها لها وفَضَح فيها إعجابه بها، ربما صرف النظر عن تسليمها لها فظلت في زاوية من غرفته على طرف منضدة المرآة. كان من عادة إيما التجسس على من حولها وقد احتفظت بمفاتيح عدة لكل الغرف في منزلها التي من المحتمل أن يشغلها أحدٌ للغرض ذاته، ربما ورثت إفيلين ذلك منها.
قطع تقي المرجاني شوطاً نائياً يُعَبْد دربه الذي وَعَد نفسه قبل والده بنهجه للوصول لمبتغاه، ألْفى روحه تتوق للاندماج في الحياة البريطانية لشعوره بأن ذلك الإحساس سوف يسانده لتحمل الغربة والوحدة والشوق للأهل وللبحرين والأصدقاء، ظلت جورى تظهر وتختفي من ذهنه، يطفو طيف دلال وراشد من حينٍ لآخر، لكن منظر العجوز رقية بقي محفوراً في رأسه لا يعلم لم هي بالذات ورسخ شَبَح هيكلها العظمي الذي اكتسى بالجلد الهش مغروساً في أعماقه، عمد إلى إشغال وقته بأي شيء، وجد الأرض البريطانية خصبه ليعيش تجربة حياته التي لن تتكرر، حتى إنه بلغ ساعة، أحس فيها روحه تطير فوق غيوم لندن وتنساب ذرات مع ضباب المدينة التي لم تشرق عليها الشمس منذ شهور باستثناء ساعات متقطعة طوال موسم الشتاء الثلجي، تجربة الشتاء اللندني جاءت بمثابة امتحان تَمَرس فيه بشغف المعاناة والانبهار حتى قاع الحياة التي واجهها هناك، البرد والمطر الغزير والظلمة الطويلة الحالكة التي تمتد لأيام لا يخرج إلا للكلية ثم يعود ويقضي الوقت في القراءة، إلى أن حصل مُنْعطف انْزلق عَقِبَه في حانة قرب السكن لم يعلم عنها شيئاً من قبل، كان عائداَ مساءً من الكلية وتعطلت سيارة أستاذه الاسكتلندي آرون الذي اعتاد توصيله معه لقربهما من المكان معاً مقابل قيمة الوقود، مرا بأحد الميكانكيين لفحص السيارة وكان موجوداً حينها بحانة صغيرة وراء شارع متفرع من الشارع الواقع على طريق المنزل والذي يقطعه يومياً ما عدا عطلة نهاية الأسبوع، وحينما ولج الحانة مع أستاذه وجلسا على المصطبة مع الميكانيكي هاموند، أصلع الرأس، ذو شنب أحمر كثيف بدا من نبرته مفعماً بالحيوية، وهو الذي دعاه لكأس بيرة بعد أن طلبا هما البيرة، وقبل أن يوافق تقي نظر لأستاذه يستأذنه فجاء جواب الاسكوتلندي هو الآخر مترعاً بالحيوية رغم تعطل السيارة ومضي الوقت.
"نعم يمكنك تذوق بيرة المساء.
كانت الساعة الخامسة والأربعين دقيقة، وبمجرد أن تجرع بعض الرشفات فباشر يرتجف من البرد، كان الطقس في الخارج ثلجياً، وكتم طوال الوقت شعوره القارص إلى أن تَزَحْلَقت البيرة في معدته حتى أخذت أعضاؤه ترقص، ما حمل الميكانيكي هاموند على سحب البيرة من أمامه وطلب الفودكا، في البداية اعترض أستاذه لكن الأخير بادره قائلاً بنبرة مطمئنة.
"سيكون بخير، سيدفأ حالاً.
بعد هذه الحادثة، دأب تقي على ارتياد الحانة وتعرف خلالها على الكثير من روادها، بعضهم كانوا يسكنون قريباً من منزل إيما البرت، لم يفرط في الشراب، كان بين فترة وأخرى يزور المكان بعد الانتهاء من دروسه عند شعوره بالوحدة والضجر، المشكلة التي قفزت في وجهه على حِين غِرَّة هي تَضَخُّم مصاريفه، إذ اكتشف أنه اقترف خطأً فادحاً بعدم الاكتراث للمبالغ الصغيرة والأتعاب التافهة التي لم يولِها اهتماماً، ولكن مع نمو تلك المصاريف في غَفْلَة عن حسابه، فَطِنَ ساعتها أنه كان مبذراً، كان أمامه خياراًن، إما أن يتجرأ ويطلب من عبدالرحيم المرجاني زيادة مصروفه وهو مبلغ كبير نسبياً إذا ما قيس بمصاريف كثير من الطلاب العرب والأجانب، وإما أن يقلل أمتيازاته التي اعتاد عليها كَارْتياد الحانة ورشوة البعض بالهدايا الصغيرة لتدبير أموره، كان المرجاني يبعث له شهرياً بمعدل أربع مئة جنيه، كان المبلغ بمثابة ثروة، واجه في البدء مشكلة صرفها، بل كان يوفر منها وبمرور الوقت بدأت معاناته مع المبلغ، فاضطر لخفض النفقات ولكن ليس على حساب الحانة، لم تخطر بباله مشكلة عَسِيرة لم تكن متوقعة، نَبتَت فجأة ومن دون سابق ترصد، نشأت كالفطر حين انْزلقت علاقته بإفيلين إلى الهاوية بالتورط معها في حمل لم تتكهن به هي إلا عندما داهمها التقيؤ كل ساعة، وهبط ضغط الدم عندها على مدى ثلاثة أيام بلا توقف، اكتشف زوج أمها ذلك فطردها من الشقة خشيته من مصاريفها لتقبع عند إيما من دون أن تعترف من وراء ذلك الحمل؟ إذ ظلا يخفيان الأمر ويتبادلان التوبيخ بعضهما لبعض ثم سرعان ما يبدآن بالتعاطف مع بعضهما عند الاقتناع أن الأمر خارج إردتهما، تذكر جورى وزعمها بالحمل، سرت فيه رعشة لمجرد عبور خاطرة حول مصير دراسته لو علم عبدالرحيم بالخبر، لا يعرف تداعيات المشكلة ولا كيفية الخروج منها؟ هدأ باله لفترة وجيزة حالما رأى عدم اكتراث الفتاة بالأمر لكن بعد ليلة اجتاحه حلم مُدلهم كبسه داخل غيمة صاعقة واجه فيها نفسه مع ثلاثة أشباح تشده في عمود قائم وسط بركة من الوقود وتَتوَعّده بإشْعال النار فيه، حبس أنفاسه، صَحى على ألم حاد كأن سيخ حديد غُرس في جَنْبه الأيسر قرب نبض القلب، كانت الساعة الرابعة صباحاً وصوت الريح في الخارج يصفر، أطلَّ من النافذة فرأى جبل الثلج قائماً أمامه، فرك عينيه ليتأكد من نهاية الحلم، بقي إلى الصباح قلقاً حتى فاجأته تطرق الباب وتحمل فطوره، كان الوقت أبكر من المعتاد، وَلَجَت الغرفة وبيدها الصينية مُتدَثِرة بكومة من الملابس الصوفية ولفت رأسها بشال قطني، أفسح لها الطريق لتضع الصينية فوق الطاولة وقد فاحت منها رائحة النقانق المشوية، حطت الصينية مكانها واتجهت نحوه وقبلته على شفتيه بسرعة وجلست على سريره، دخل الحمام وترك الباب مفتوحاً وسمع صوتها يقول بنبرة ساكنة خالية من القلق.
"سَأحْتَفظ بالجنين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله