الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خراب القرية الكونية

الفضل شلق

2020 / 6 / 5
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



العالم قرية كونية. سرعة الانتقال، وكثرة الاختلاط، واختصار المسافات، كل ذلك جعله وحدة مترابطة. يستطيع الواحد منا أن يقول يا سكان العالم اتحدوا. في القرن التاسع عشر كانت صرخة ماركس وانجلز: يا عمال العالم اتحدوا. اختلفت الظروف، لكن البشرية الآن تواجه أخطارا ثلاثة، كما عبر عنها نعوم تشومسكي: الخطر النووي، الخطر البيئي، خطر الوباء. ما عادت الإبادة تهدد طبقة بعينها، بل تهدد البشرية بأكملها. تهدد نمط العيش كما تهدد، وهذا هو الأهم، بقاء البشرية. نداء الطبقة العاملة يدفع الى تشكيل أممية أخرى تشمل طبقات ما كانت تخطر على البال في القرن التاسع عشر.

أممية الكورونا تفرض علينا أن نرى الخطر الذي يهدد البشرية. خطرٌ يهدد كل البشرية وليس طبقة بعينها، وإن كانت هذه الطبقة سوف تبقى في عين النضال ضد النظام الرأسمالي. ضد الرأسمالية في عصرها المتأخر، أي النيوليبرالية التي لا يهمها بقاء البشرية بل تعطي الأولوية لتكديس الثروات. هو النضال عينه ضد الرأسمالية، وإن كانت قد تلبست شكلاً جديداً. هو نضال من أجل بقاء البشرية، في حين صارت النيوليبرالية خطراً على الانسان.

يكاد فيروس الكورونا يشكّل خطر حرب بيولوجية ضد الإنسان. لا يقل عنه خطر السلاح النووي. وخطر تدمير البيئة. كل من هذه الأخطار تهدد المصير البشري. فما عاد باستطاعة البشرية أن تقف مكتوفة الأيدي.

تحوّل العالم الى قرية كونية. فقد اختُصِرَ الزمان وقُرّبت المسافات، وأصبح اختلاط البشر أمراً مفروغاً منه. تواجه الحضارة البشرية مصيرها. هناك إمكانية انهيار الحضارة، على الأقل اضطرار البشرية الى تغيير نمط معيشتها إن بقيت. نحن قادمون على حضارة جديدة بعد الكورونا دون أن تكون أمامنا خيارات متعددة: إما البقاء مع تغيير نمط العيش، وإما الفناء فلا يبقى على وجه الأرض إلا من اكتنز الثروة، وهؤلاء سوف لا يدرون ما يفعلون بها. ارتفاع أسهم البورصات حول العالم يؤكد أن الطبقة الرفيعة التي تشكّل أقل من 1 % من سكان الأرض والتي تملك الثروات الكبرى، ترى في الكورونا فرصة للربح ولا ترى فيها خطر الزوال.

لا تتعلّم الرأسمالية من تجاربها. هي مبرمجة حول مفهوم واحد وحسب. هو الربح وتكديس الثروات، ولو كان ذلك على حساب الأرواح البشرية. لو حدث تضامن وتكافل بين البشر، لأبقت الرأسمالية الكبرى نفسها خارج الوفاق الانساني. على النضال من أجل البقاء أن يكون نضالاً من أجل فناء هذه الطبقة الرفيعة. تنحدر الطبقة الوسطى حول العالم الى أن تصير بروليتاريا لا تملك شيئاً من وسائل الإنتاج، وتنحدر البروليتاريا الى مستوى الفقر والبطالة. عالم صغير يشكّل “قرية كونية”، لكنه عالم يضيق بالتناقضات. سوف تتحوّل الطبقات الدنيا، التي تشكّل الأكثرية الغالبة من البشرية الى النضال من أجل العيش والبقاء. وسوف تجد وسائل لتنظيم نفسها ضد النظام الاجتماعي حول العالم. يعتقد حكام العالم ومن وراءهم من الطبقات الرفيعة أن الأمور ستعود الى ما كانت عليه، وهذ أمر مستحيل. إن لم تنظّم الطبقات الدنيا نفسها في مشروع نضالي ضد الرأسمالية العليا، فإن صراع الفقراء والعاطلين عن العمل، سيكون مصدر فوضى تعم العالم. عندها لن تعرف الطبقة العليا كيف تختبئ وتعزل نفسها عن العالم.

تتداول الطبقة الرفيعة الأسهم في البورصات. لا تدرك الطبقات العليا أن الأمور لن تعود الى ما كانت عليه. لا تدري، أو لا تحب أن تدري، أن العالم أصابه تغيير عميق. يحاول حكام العالم فكفكة نظام العالم وإثارة النعرات الفاشية، ولا يدركون أن العالم تغيّر وأن القرية الكونية، وهو تعبير استخدمته النيوليبرالية في أوج عظمتها، لن تكون مسرحاً للرأسمالية الكبرى وحدها. سوف تواجه نضالات شتى من الفقراء وجحافل العاطلين عن العمل.

يتحدث الكثيرون من علماء النفس عن الآثار النفسية المترتبة على نتائج الوباء. لا تعرف الطبقة الرفيعة أن مزاج الناس يتغيّر وأن هذا المزاج سوف ينقلب ضدهم بأعداد كبيرة. لا تتعلّم الرأسمالية من تجاربها. فهل تتعلّم الطبقات الدنيا من تجاربها المؤلمة؟ الأرجح أنها سوف تفعل ذلك.

المشكلة الكبرى الآن هي في الوعي السائد والمستفاد منه، فحالما ينتهي أمر الكورونا ستعود الأمور الى “طبيعتها”، أي إلى ما كانت عليه. كيف يكون ذلك صحيحاً مع عشرات الملايين من العاطلين عن العمل، بل ربما المليارات منهم، ومن الجائعين الذين ليس لديهم مورد عيش؟ ستتعمّق الفجوة بين الذين يملكون الثروات والذين لا يملكون شيئاً.

المشكلة الكبرى الثانية هي أنه ستكون هناك موجة ثانية من الكورونا، وربما ستكون أكثر شراسة أو قوة هجومية من الأولى. ذلك ربما يحصل قبل أن يكون في المستطاع إنتاج اللقاحات والأدوية. معنى كل ذلك أن الكورونا سيكون بيننا لفترة طويلة. في الموجة الثانية، ربما يتزايد عدد الإصابات والقتلى.
برغم ذلك، تتصاعد الصراعات الجيو-استراتيجية خاصة بين الولايات المتحدة والصين، وكل منهما قوة نووية، وكل منهما لا تهتم لخراب البيئة.

ماذا سيكون موقف جحافل العاطلين عن العمل والفقراء الذين يئسوا من البحث عن عمل؛ وهؤلاء أكثرية البشرية؟ هل سيقف كل فريق منهم مع دولته لأسباب قومية ويضحي بمصالحه إذا فكرت السلطة بتلبية بعض المطالب؟ أم سيقفون مع حلول لمصلحة مصير البشرية المهدد؟ أم ستكون المواجهة بين فيروس كورونا موحد حول العالم وبين نظام عالمي مقطّع الأوصال؟

اتهامات ضد اتهامات بين السلطات. مواجهات كلامية يمكن أن تقود الى حروب، وبعض الحروب يمكن أن يستخدم فيها السلاح النووي. لم تصغِ الطبقات الدنيا لماركس إلا في مواضع معينة من الأرض، فكانت الثورة اللينينية التي أجهضها ستالين بالديكتاتورية، والتي لم يكن مفترضاً أن تكون لتناقضها مع مصالح الطبقة العاملة ومع أفكار لينين ورفاقه.

لقد وصلت النيوليبرالية، وهي الرأسمالية في آخر أشكالها، الى طريق مسدود قبل الوباء. الوباء فجّر الأوضاع. لم تجد الأنظمة الحاكمة حلاً للتخفيف من عدد المصابين والقتلى إلا بالحَجر، أي “السجن الطوعي”. كانت البشرية والعلوم الانسانية، الدقيقة وغير الدقيقة، غير مهيأة للقاء هذا الفيروس. سينتج عنه تغيير في نمط العيش، لكن أيضاً سيخفّض الطلب على المنتجات الرأسمالية. الحكومات القادرة ستساعد المواطنين، لكنها ستساعد الشركات الكبرى بكميات أكبر. فهل تستعيد هذه الشركات زبائنها؟ العرض، عرض البضائع والخدمات، سيكون متاحاً (ربما) ولكن هل سيكون الطلب عليها متاحاً؟ هل سيكون بإمكان الطبقات الدنيا، بما فيها جحافل الفقراء والعاطلين عن العمل شراء المنتجات والخدمات التي تقدمها الرأسمالية؟

وفي حال صحّ الكلام عن وهن الفيروس، فهل ستكون هناك موجة أخرى من الوباء كما يتوقع كثيرون؟ وهل ستكون الموجة الثانية أقوى أو أخف حدة من الأولى؟ وماذا يحدث للشركات الكبرى (والصغرى) وهي تغلق أبوابها؟ هل تدفع الرواتب والأجور دون عمل مقابل؟ بعضها بدأ يعلن إفلاسه ويغلق أبوابه.

تبخّر الوهم حول القرية الكونية بعد أن صعد في تسعينيات القرن الماضي وتبنته بعض منظمات الأمم المتحدة. كان النظام العالمي يسير باتجاه الانفتاح خاصة على صعيد التجارة الدولية؛ كانت الولايات المتحدة تستعد لأخذ دور من يدير العالم بواسطة المؤسسات الدولية (أمم متحدة، مجلس أمن، منظمة التجارة الدولية، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، الخ…). وكان لقاء دافوس السنوي لكبار الرأسماليين حيث تعيد الليبرالية الجديدة النظر بسياساتها. الولايات المتحدة كانت تتزعّم العالم. الحروب المحلية هنا وهناك تديرها كمن يكش الذباب. موازنة الولايات المتحدة العسكرية ضعف موازنة بقية العالم مجتمعاً. حكام البلدان الصغيرة يزول الواحد منهم بهزة رأس الرئيس الأميركي أو أحد موظفيه. إلا أن صعود الصين واستعادة روسيا أنفاسها وغضب المجتمعات الإسلامية، المبرر أو غير المبرر، كل ذلك لم يدع الريح تجري كما تشتهي السفن. حدثت أزمة 2008 الاقتصادية والمالية. وأظهرت هشاشة النظام العالمي. ثم جاء وباء الكورونا ليهدد النظام العالمي متزامناً مع أزمة أخرى اقتصادية. وجدت الولايات المتحدة أنها لا تصنع حتى كمامات قماش. ولديها القليل من أجهزة التنفس. أثبتت الأزمتان المتزامنتان أن العالم لا يدار بسهولة خاصة وأن هناك دول تخصص المال ورأس المال وتثمير المال ودول تخصص العمل والإنتاج لصالح أرباب المال. تريد كل دولة أن يكون لديها ما لدى الدول “المتقدمة” صاحبة المال الذي تثمره في “عالم ثالث” سابقاً. لم تبق إلا المجتمعات الإسلامية خارج النظام العالمي، فاشتعلت الحروب على أراضيها. جميعها حروب أهلية محلية تساهم فيها الدول الكبرى والإقليمية. الدول الإقليمية كالطواويس تتصرّف وكأن كل واحدة منها “جرم صغير”، وهي تحاول تقليد مشية الدول الكبرى. اختلط الأمر على الجميع، “فما يدري خراش ما يصيد” أو أين يصوّب. بعد أن كان يظهر أن العالم يسير نحو انتظام يديره الأخ الأكبر (الولايات المتحدة)، جاءت أزمة اقتصادية مالية خفية، أو كادت تقع حسب توقعات الاقتصاديين منذ بعض الزمن؛ ثم جاء وباء الكورونا. وجد العلم الرأسمالي، العلم الذي تقبض عليه الشركات الكبرى، خاصة شركات الأدوية، نفسه عاجزاً، أو تقصّد ذلك. وجد النظام العالمي نفسه أمام واحد من إثنين: الإقفال، والاستمرار بالإقفال يعني تدمير الاقتصاد، أو فتح الاقتصاد وترك الناس يختلطون ويصابون ويموتون فتكون الخسائر البشرية كبيرة. طبعاً أرباب المال يهمهم فتح الاقتصاد مهما كان عدد الإصابات. الناس وأهل العلم يطلبون التمهّل خوفاً من الأكثر هولاً لناحية الكوارث البشرية المتوقعة. فضّل الرأسماليون فتح الاقتصاد برغم التحذيرات من موجة ثانية من الوباء.

اكتشف النظام العالمي عجزه عن إنتاج اللقاح أو الدواء. عجز علم الشركات لأنه كان موجهاً نحو منتجات أخرى ربما أكثر مردودية، أو ربما دون دراية بقدوم الجائحة. لم يكن أحد يتوقع أن الوباء جائحة تعم العالم؟

أكثر ما يلفت الانتباه هو رفض الإقفال من بعض التنظيمات الدينية، من المسلمين والمسيحيين واليهود، حول العالم. الروح القدس هي التي تملي الإقفال أو عدمه. يخالف الدين العلم الحديث مرة أخرى، كما خالف الاقتصاد وأربابه ضرورات العلم ونصائحه. اختلال العالم، كما سمّاه أمين معلوف في كتابه بهذا العنوان في عام 2009. ما يلفت النظر أن أحد أساطين العلوم الإسلامية الدينية استعرض هذا الكتاب منذ بضعة أسابيع، بتأييد له، لكنه لم يذكر المقطع الأهم في الكتاب حول وضع المجتمعات الإسلامية، وهي الأضعف حول العالم. وهي تعتبر أن أوضاعها مسؤول عنها الغرب. تكن عداءً عميقاً للغرب وثقافته، ناهيك عن سياسته، إذا كان له سياسة واحدة. تضع المجتمعات الإسلامية نفسها، كما يقول الكتاب، في مواجهة العالم. لا تنظر الى العفن الذي بداخلها. لا تحاسب نفسها. تحاسب العالم. استشهاد وانتحار بعمليات متعددة دون هدف ذي معنى أو دون هدف مفيد لها.

الدين والرأسمالية من طينة واحدة. كلاهما يصر على فتح الاقتصاد والمجتمع. وأحدهما يصر على ذلك في سبيل الرأسمال المالي، والآخر في سبيل الرأسمال الديني. كلاهما يجني المكاسب من بضاعته أو السلعة التي يتعامل بها؛ بالأحرى كلاهما يعتمد على هذه السلعة المادية أو المعنوية.

انهيار النظام العالمي ليس انهيار حلم طوباوي مستقبلي اسمه القرية الكونية. القرية الكونية وهم. النظام الرأسمالي لا يُنشئ قرية كونية؛ لا ينشئ تعاوناً بين البشر. هو في الأساس قائم على الاستغلال الطبقي، سواء تطلّب ذلك منافسة في سوق حرة أو تواطؤاً بين بضعة من أصحاب الرأسمال في سوق احتكارية. هدف الرأسمال هو الربح وتكديس الثروة ولو على حساب الانسان وحياته وسعادته.

انهار حلم الطبقة الرأسمالية العليا، فهل ينشأ حلم لدى الطبقات الدنيا؟ وهل يتحقق؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي


.. صباح العربية | الثلاثاء 16 أبريل 2024




.. الشرطة الأميركية توقف متظاهرين بعدما أغلقوا الطريق المؤدي لم


.. اعتقال متظاهرين أغلقوا جسر البوابة الذهبية في كاليفورنيا بعد




.. عبد السلام العسال: حول طوفان الأقصى في تخليد ذكرى يوم الأرض