الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عقل في خطر (2/1)

السيد نصر الدين السيد

2020 / 6 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


من غرائب الأمور ان يتعرض التفكير العقلاني، المكون الرئيسي لمنظومة التنوير والمتجسد في "منظومة العلم الحديث" (*)، أن يتعرض هذا التفكير في بلاد منطقة الشرق الأوسط (مصر نموذجا) لأزمة خانقة ومحنة ملحة. ووجه الغرابة ان تبنيه وتبني قيمه يشكلان أساس تقدم المجتمعات والشرط اللازم والضروري للارتقاء المستدام بمستوى رفاه افرادها وفي التجارب التنموية الناجحة مثل النمور الاسيوية خير شاهد. واليوم نري التفكير العقلاني في مصر وهو محاصر من قبل ثلاث تيارات يسعى كل منها ان يحل محله وهي: "منظومة الفكر الديني التقليدي" (#)، "نظرية المؤامرة" و"العلوم الزائفة". وسنخصص الجزء الأول للتيار الأول.
لم يكن ميلاد "منظومة العلم الحديث"، كتجسيد للتفكير العقلاني، وترسخ مكانتها كأداة كفئة يستخدمها الانسان لفهم ما يدور حوله بالأمر الهين او البسيط. فلقد تطلب تحقيق هذا الأمر جرأة غير مسبوقة من رجال قرروا عدم الانصياع للفكر السائد الذي يتحصن في التقاليد او تحميه قداسة مزعومة. رجال قرروا مواجهة "منظومة الفكر الديني" وهي في أفضل احوالها بكل ما كانت تملكه من سطوة وسلطة ونفوذ. فكان، على سبيل المثال نيكولاس كوبرنيكوس (1543-1473م) الذي رفض قبول الراي السائد بان كوكب الأرض هو مركز الكون الذي حوله تدور الشمس وغيرها من اجرام السماء. وصدم الجميع بالحقيقة التي توصل اليها بأن كوكبنا هو الذي يدور حول الشمس مثله في ذلك مثل بقية كواكب المجموعة الشمسية. وهي الحقيقة التي لم يسترح لها القائمين على شئون الدين. وكان من هؤلاء الرجال جوردانو برونو (1548- 1600) الذي حكم عليه رجال الكنيسة بالحرق حيـًـا لمجرد قوله إنّ الناس لا تقترب من الله بالصيام، ولا بأكل الزيت أو تحريم بعض الأطعمة، ولكننا نقترب من الله بالمعرفة ودراسة الكون وحركة الأفلاك خاصة حركة الشمس. وأخيرا، وليس آخرا، جاليليو جاليلى (1564-1642م) الذي شهد عام 1633 محاكمة الفاتيكان له بتهمة الهرطقة والخروج عما هو معلوم من الدين بالضرورة. فلقد تجرأ السيد جاليليو وأعلن في كتابه الشهير الـ "حوار حول النظاميين الرئيسيين للعالم" أن الأرض تدور حول الشمس مخالفا بذلك تعاليم الكنيسة التي كانت تؤمن بعكس ذلك. وأسفرت المحاكمة عن الحكم القاضي بحبسه مدى الحياة الذي خفف بعد ذلك إلى تحديد إقامته في منزله.
ولم يأت عداء "منظومة الفكر الديني" لـ "منظومة العلم الحديث" من فراغ فالأخيرة قامت على مجموعة من المبادئ التي يشكل كل منها تحديا خطيرا للأولى. ومن اهم تلك المبادئ: "مرجعية الواقع"، "طبيعية الأسباب" و"إمكانية المعرفة".
ويعنى أول المبادئ، "مرجعية الواقع"، لزوم الاحتكام للواقع والرجوع إليه للتثبيت من صحة ودقة تصورات الإنسان عن مكوناته وعن ظواهره وأحداثه وذلك من خلال إجراء التجارب أو التجريب. وتعود الواقع في هذا السياق العالم المحسوس الذي نعيش فيه سواء كان طبيعيا يتعلق بالبيئة الطبيعية واحوالها المتغيرة او كان اجتماعيا يتعلق بالبنى الاجتماعية بمختلف اشكالها وتحولاتها. انه الواقع المستقل الذي لا يتوقف وجوده على وجودنا كأفراد فهو موجود سواء كنا فيه او لم نكن. انه اذن "عالم الشهادة".
وتنبع مصداقية نتائج التجريب من تكراريتها Repeatability التي لا تتوقف على مكان إجراء التجربة أو على زمانها أو على البشر القائمين بإجرائها. وهو الأمر الذي يجعل من المعرفة العلمية المشتقة من تلك النتائج معرفة عمومية Public Knowledge ويميزها عن الأنواع الأخرى من المعرفة المرتكزة على الخبرة الشعورية الذاتية، فردية كانت أو جمعية، كالرأي أو الاعتقاد أو القيم.
وفي المقابل تتبني منظومة الفكر الديني مبدأ "مرجعية النص" وتحاول تطويع الواقع ليتلاءم مع تفسيراتها للنصوص المقدسة.
وينص المبدأ الثاني، "طبيعية الأسباب"، على أن أي ظاهرة من ظواهر الواقع ليست إلا "نتيجة" لـ "سبب" ما (أو علة). إلا أنه في صورته الجديدة، يؤكد على "طبيعية" علة أي أمر وينفى عنها أية صفة "ما وراء طبيعية" Metaphysical. وهكذا لم يعد لآلهة تاسوع اون المقدس (&) او ربات وارباب جبل الأوليمب وما شابههم من كائنات علوية مسئولين عن مجريات أمور الدنيا.
اما ثالث هذه المبادئ، "إمكانية المعرفة"، فيعني قدرة عقل الانسان على اكتشاف العلاقة بين السبب والنتيجة وصياغتها على هيئة قانون طبيعي يمكن التثبت من صحته بواسطة التجريب. وهو في ذلك يستخدم منهج التفكير العلمي ومقارباته مثل "المقاربة الاستنباطية" Deductive Approach و"المقاربة الاستقرائية" Inductive Approach. وهي المقاربات التي توفر للإنسان مجموعة من الأدوات الذهنية التي تمكنه من إنتاج المعرفة وتتيح له طرق متعددة للتثبت من صحتها ولتعديلها وتطويرها باستمرار. وتبدأ اولى هذه المقاربات، "المقاربة الاستنباطية" بإنشاء نموذج يحاول محاكاة سلوك الظاهرة موضوع الدراسة. ويتم بعد ذلك التحقق من دقته بمقارنة نتائج تشغيل هذا النموذج مع السلوك الفعلي الذي يتم قياسه. وآخر خطوة هي تلك التي يتم فيها اجراء التعديلات المطلوبة في النموذج لتتفق النتائج المستخلصة منها مع تلك المشاهدة في الواقع. اما المقاربة الثانية، "المقاربة الاستقرائية" فتبدأ بجمع البيانات حول بعض أحوال وجزئيات الظاهرة موضع الدراسة، سواء كان ذلك بالملاحظة أو بالقياس، وتحللها سعيا وراء اكتشاف ما تنطوي عليه أنماط وإنتظامات يمكن صياغتها على هيئة فرضيات مؤقتة يمكن التحقق من صحتها. أي ان طرق المعرفة الأخرى، مثل الوحي، لا مكان لها في "منظومة العلم الحديث".
وفي مواجهة هذه المبادئ وللحفاظ على وجودها تبنت "منظومة الفكر الديني" الرسمية استراتيجيات جديدة لتحل محل الحرق والمحاكمات وهي: "المداهنة" و"التقمص" و"الادعاء" و"الاختراق".
واولى هذه الاستراتيجيات، "المداهنة"، تقوم على الإشادة اللفظية بالعلماء انطلاقا من الآية " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ". كما تشمل هذه الاستراتيجية اعتذار المؤسسة الدينية لمن تضرروا من اعمالها التعسفية. فعلى سبيل المثال وبعد مرور 359 على واقعة محاكمة جاليليو وفى 31 أكتوبر 1992 وقف بابا الفاتيكان ليعبر عن أسف الكنيسة للطريقة التي تعاملت بها مع السيد جاليليو وليعترف بأنه كان محقا فيما أعلنه من أن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس.
وتقوم ثاني الاستراتيجيات، "التقمص"، على استخدام الفاظ وعبارات يشيع استخدامها في ادبيات "منظومة العلم الحديث" لوصف مكونات "منظومة الفكر الديني". فتراهم، على سبيل المثال، يطلقون على شهادة العالمية مع لقب أستاذ اسم دكتوراه اما شهادة العالمية مع الإجازة في التدريس أو القضاء أو الدعوة فيسمونها الماجستير. اما المتفقهين في النصوص الدينية فيطلقون عليهم "علماء الدين". وهو وصف مضلل فالعالم، طبقا لقواميس اللغة، هو الشخص الذي يعمل بطريقة ممنهجة على انتاج المعرفة المتعلقة بالواقع المحسوس وبأحواله المستقبلية. انها باختصار عملية ملء الأواني الجديدة بسوائل فسدت تهدف تضليل الناس والايحاء لهم بانه لا توجد ابة فروق جوهرية بين المنظومتين.
اما أبرز امثلة الاستراتيجية الثالثة، "الادعاء"، فهو ما يطلق عليه "الإعجاز العلمي للنص المقدس". والمبدأ الذي يتبناه أصحاب هذه الاستراتيجية هو ان النص المقدس يحتوي على كل ما انتجه العلم من معرفة، فقط علينا قراءة النص بعناية لنكتشف ما يخفيه من اسرار. وقد تناسى هؤلاء ان المعرفة العلمية هي المعرفة التي يمكن تفنيدها لذا هي بالضرورة متغيرة.
وآخر هذه الاستراتيجيات هي استراتيجية "الهجوم المباشر" التي تقوم على اختيار نظرية علمية بعينها والهجوم المكثف عليها. ومن أشهر امثلة هذه الاستراتيجية ما يحدث مع نظرية التطور التي يعتبرها المنتمون لمنظومة الفكر الديني (او الدينيون) من النظريات الخطرة على تواجدهم. وتبدأ القضية بسؤال "كيف وجد الانسان على الهيئة التي نراها اليوم؟ وكما هو متوقع يأتي رد الدينيون بنعم وجد الانسان هيئته الحالية منذ البداية فهكذا تحدثت النصوص المقدسة. وفى مرحلة لاحقة يبتدعون ردا آخر يحاولون فيه محاكاة طريقة اهل العلم ويطلقون عليه نظرية "التصميم الذكي". ويجئ رد مجموعة اهل العلم بأن الهيئة الحالية للإنسان هي نتيجة لعملية تطور استغرقت ملايين السنين، داعمين ردهم بشواهد مادية.
وللحديث بقية
_______
(*) "منظومة العلم الحديث" هي المنظومة التي تتكون من رصيد المعرفة العلمي ومن مناهج وأدوات انتاجها هذا بالإضافة الى كافة المسؤولة عن انتاج ونشر هذه المعرفة.
(#) تتكون " منظومة الفكر الديني" من النصوص المقدسة لديانة معينة ومن كافة الافراد والكيانات التي تعمل على انتاج تفسيرات لهذه النصوص واشاعتها بين معتنقي هذه الديانة.
(&) يتكون تاسوع اون (هليوبوليس) من الالهة: رع ( هو إله الشمس وخالق العالم)، ، جب ( إله الأرض)، نوت( ربة السماء)، شو( إله الهواء)، تفنوت ( ربة الشمس والقمر)، ست ( رمز الشر والعنف)، إيزيس ( ربة السحر)، أوزيريس ( حاكم مملكة الموتى)، نيفتيس ( ربة المنزل)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الوساطة القطرية في ملف غزة.. هل أصبحت غير مرحب بها؟ | المسائ


.. إسرائيل تستعد لإرسال قوات إلى مدينة رفح لاجتياحها




.. مصر.. شهادات جامعية للبيع عبر منصات التواصل • فرانس 24


.. بعد 200 يوم من الحرب.. إسرائيل تكثف ضرباتها على غزة وتستعد ل




.. المفوض العام للأونروا: أكثر من 160 من مقار الوكالة بقطاع غزة