الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين الفيروس والفكرة

راتب شعبو

2020 / 6 / 7
الادب والفن


تبدو المقارنة بين الفيروس والفكرة ضرباً من العبث، غير أن القليل من التأمل يعيد لها معقوليتها، ويكشف أوجه التشابه العديدة بينهما، في المقدمات كما في آليات العمل وفي النتائج.
الفيروس كما الفكرة، كلاهما مشلول وفاقد للقدرة خارج المضيف الذي يستهدفه. الفيروس الثاوي على الأسطح أو المعلق في الهواء لا يعدو كونه إمكانية تنتظر التحقق في جسد ضحية مُغْفَلة. لا قوة للفيروس المعزول أو الخارجي إلا في كونه خفياً، فهو أدق من أن تدركه الحواس المباشرة لضحيته لتتفاداه. إنه إمكانية لا حليف لها سوى ضحيتها المنتظرة التي تنقذ جلادها من الموت، الجلاد الذي لا يقبل التعايش مع منقذه، ويرد له الجميل مرضاً وعذاباً وموتاً. الضحية لا تدرك الفيروس إلا بوصفه مشقة ومرضاً ومنحدراً إلى هاوية.
الفكرة بدورها تبقى ميتة في بطون الكتب، ميتة ما بقيت خارج الرأس، ولكنها ميت لا يموت، ميت يحمل كل أسباب الحياة ما أن يلامس العقل، حينها فإن الفكرة تخرج من موتها لتمتلك حياتها الخاصة داخل رأس "الضحية"، ومن هناك فقط تبدأ تاريخها المؤثر بقدر ما تكون الضحية ملائمة ومستعدة لتكون جندياً في مسار هذا التاريخ.
الفيروس كما الفكرة، كلاهما يستعمر مضيفه ويحيله إلى مرتع له، وإلى وسيلة لنموه. لا حياة للفيروس ما لم يكن سيداً على مضيفه إلى حدود الموت. لا يرضى بحلول وسط، له الصدر أو القبر. حليفه الوحيد هو عدوه الوحيد. الانتقال الجذري الواسع بين موته خارج الجسد وحياته النشطة المسيطرة فيه، تجعل الفيروس يبالغ في شهوة السيطرة وفي اجتياح الضحية وتطويعها، فلا يرى، في غمرة جوعه للحياة، أن موته يكمن في موت ضحيته وأنه في سعيه المحموم إلى قتل الضحية إنما يقتل نفسه.
الفكرة بدورها، حين تستقل عن سياقها وتنقطع عن الواقع وتصبح "إيديولوجيا"، تستوطن الرأس وتتحكم بالصورة التي يبدو عليها العالم في عيني صاحبها. تحكم انطباعاته ومواقفه وتذوقه ونظرته لكل شيء، وتشكل سوراً عظيماً في وجه الأفكار الأخرى التي قد تهاجم العقل الذي تستعمره. والأهم أنها تمنع صاحبها من التفكير المتجدد. الفكرة المقطوعة والمستقرة والمنتهية هي ابنة التفكير العاقة، الفكرة المستقرة هي خصم التفكير وعدوته الألد. الفكرة حين تشعر بالاكتمال وتكتفي بذاتها وتزهو بصوابها، تقف سداً في وجه التفكير، أو تجعل التفكير عملية تابعة لها، غايته النهائية أن يصب ماءه في بركتها الآسنة. بالمقابل فإن الفيروس أيضاً هو وليد الحياة وخصمها، وليد الحياة العاق. وكما تحول الفكرة المقطوعة دون التفكير، كذلك يحول الفيروس دون الحياة. نهائية الفكرة واكتمالها الزائف يعيق التفكير، كما يعيق الفيروس حياة الضحية بالحيلولة دون وصول الهواء إلى دم الضحية. وكما يموت جسد الضحية مختنقاً تحت سيطرة الفيروس الشرهة، كذلك يموت عقل الضحية وتفكيرها تحت سيطرة الفكرة المنتهية التي يعلو اعتدادها بكمالها وصوابها على عملية التفكير نفسها.
هشاشة الفيروس تفسر نزوعه الشديد إلى السيطرة، وشهوته القاتلة للحياة. خوفه المقيم من العطالة والموت يدفعه إلى الشراهة في طلب الحياة على حساب ضحيته التي منحته الحياة اصلاً. كما لو أن الحياة تنتقم من وليدها العاق بأن تغريه بالسعي وراء ما يكفي من الحياة لموته. والفكرة حين تستقر وتنقطع عن الواقع وعن سياق التفكير الذي أنجبها، تدرك هشاشتها الذاتية أمام نبع التفكير الجاري، فتتصلب وتستبد وتغلق عقل صاحبها عن "الهواء" الخارجي. وهي في ذلك ترسم مسار انحطاطها وتفككها اللاحق، كأنه انتقام التفكير المتجدد من الفكرة المقطوعة.
الأفكار المقطوعة متشابهة في آليات عملها وسيطرتها، أكانت إلى اليسار أو إلى اليمين، قومية أو أممية، دينية أو علمانية ..الخ، لأن مبدأ الحفاظ على الذات ضد التفكير المتجدد هو المبدأ الذي يحكم الفكرة المقطوعة من أي لون كانت. لهذا ترى لدى "مرضى" هذه الأفكار المنجزة، أعراضاً وعلامات متشابهة، أبرزها اليقين وانعدام المساءلة الذاتية.
الفيروس كما الفكرة، كلاهما يعدي وينتشر ويستحوز على مضيفين جدد. لكل منهما جمهور أو مضيفين أكثر ملاءمة. يفضل الفيروس ضحايا يوجد في كيمياء أجسامهم ما يلائمه ويضاعف قدرته على الاجتياح. وكذلك تجد الفكرة ضالتها في عقول محددة، غالباً ما تكون عقولاً غضة تميل إلى استقرار الإيمان وأمان اليقين، أكثر مما تميل إلى وعورة التفكير وقلقه الدائم. تتحول هذه العقول المأخوذة بالفكرة، إلى جيش لا يلين ضد التفكير.
غير أن الفكرة تفترق عن الفيروس في أن ضحية الفكرة يشعر بالتفوق والأهمية، فيما يشعر ضحية الفيروس بالخذلان والضعف. الفكرة، لذلك، تجند ضحيتها وتدفعها إلى النشاط لكسب المزيد من الضحايا وتوسيع قاعدة الفكرة "المكتملة"، فيما يبتعد الناس عن ضحية الفيروس ساعين إلى قطع سلسلته. للفكرة جاذبية كامنة تتفعل على ألسنة ضحاياها وأقلامهم وأفعالهم وتتحول إلى قوة "عدوى" لصالح الفكرة، أما الفيروس فإنه يستعيض عن هذا بالتخفي والاستثمار في عجز الناس عن إدراكه بالحواس. إذا كانت الفكرة تبحر في وعي الناس، فإن الفيروس يبحر في غفلتهم، على أن كلاهما يحيا على حساب سلامة الإنسان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/