الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بغداد مالبورو. . بين الإيحاء والتوازن بين الشخصيات والأحداث. . لنجم والي. .

صباح هرمز الشاني

2020 / 6 / 9
الادب والفن


معظم الروايات العراقية التي ظهرت بعد عام 2003، تعرضت للاحداث التي شهدتها هذه الفترة، وهي فترة الأربعة عشر عاما الممتدة من عام 2003 الى خروج داعش من العراق في عام 2017، تعرضت لهذه الفترة، لتوافر الأرضية الخصبة لتفاصيل السرد في هذا الجنس الأدبي، سيما في الأحداث والشخصيات الغريبة وغير المألوفة التي أنجبتها الحروب الثلاث الأخيرة، إعتبارا من الحرب الأيرانية - العراقية عام 1980ولحد يومنا هذا. ورواية (بغداد مالبورو) لمؤلفها نجم والي هي إحدى هذه الروايات العراقية القليلة التي أستطاعت، سواء بمضمونها الإنساني، أو بالتقنية التي عول عليها المؤلف، أن تفي الحرب حقها، وأن تبلغ السرد الروائي مستواه.
تدور أحداث هذه الرواية حول إختطاف جندي أمريكي يدعى (دانييل بروكس) من قبل الميلشيات المنفلتة في بغداد، وقد جاء هذا الجندي المارينز الى بغداد أثر سقوطها، بحثا عن سارد هذه الرواية ليسلمه الطرد الذي وجده في أرض المعركة، وهو مجموعة رسائل وقصائد وأحداث، كتبها (سلمان ماضي) الى صديقه (السارد) قبل أن يستشهد، وبمعية الجندي الأمريكي المسلم ( وكان قبل ان يتزوج إمرأة مسلمة مسيحيا)، مبلغا من المال جمعه من الكنائس الأمريكية لتوزيعه على العوائل العراقية التي أستشهد أبناؤها في الحرب. وأودع بعد إختطافه في مسكن السارد، وذلك أثر التهديد الذي تعرض له السارد من قبل المليشيات بالتخلي عن مسكنه، وأثناء لقائه بأفرادها يطلبون منه أن يقتل الجندي الأمريكي، لكنه يرفض، فيمنحونه فرصة أسبوع ليتخذ قراره بهذا الشأن، وبعكس ذلك سيقتلونه هو أيضا، لذا يقرر الرحيل الى مدينة الناصرية. وهناك يلتقي بماجد ويصبح صديقا له.
إن ما يميز هذه الرواية عن الروايات الأخرى التي تصدت للحرب، هو عدم إنحياز مؤلفها لطرف من أطراف الحرب، كما يحلو لبعض الروائيين الإنحياز لبلدانهم، حتى وإن كان بلدهم هو الغازي أو على غير حق. بل بالعكس حافظ على توازن كلا الطرفين المتحاربين، ووضعهما في كفتي ميزان متساويتين، بمعزل عن العاطفة، ورافضا الحرب بكل أشكالها والمسوغ والحجج التي يجهر بها صناعها ويختفي خلفها المستفيدون منها، ومدينا قادتها ومشعليها، ومتعاطفا مع الجنود الذين تسحقهم هباء. فمن هذا الرفض للحرب وإدانتها للمسببين لإضرام النار في أتونها، تحديدا رؤساء الدول وجنرالاتها العسكرية، وبالمقابل التعاطف مع الجنود الذين يساقون الى الموت قسرا، يسعى نجم والي الى خلق نوع من التوازن بين شخصيات الرواية للحد من إنسياق المتلقي عن عاطفة تجاه طرف دون الآخر.
إن إتخاذ المؤلف من هذا المنحى القائم على مسك العصا من وسطه، دون الإنحياز لبلده، نهجا لروايته، ليس بوسع كل راوي، أن يسير عليه أو يتبعه، لما يتسم به من صعوبة في خلق التوازن بين شخصيات الرواية التي تنتمي للبلدين المتحاربين من جهة، وإقناع المتلقي الذي لم يألف على هذا النوع من الإنحياز من جهة أخرى. فقد عمد لتوطيد هذا النهج وتلافيا لهذه الإشكالية الى تقنية التماثل بين شخصيات الرواية من ناحية، وبين أحداثها من ناحية أخرى، وذلك من خلال توزيع هذا المنحى وتفعيله بين الشخصيات الإيجابية في الرواية لكلا البلدين، كشخصية دانييل بروكس المتماثلة لشخصية السارد، وشخصية سلمان ماضي لشخصية (دافييد باربييرو)، والشخصيات السلبية، شخصية الرائد برينس لشخصية العقيد العراقي (حيدر ملا كريدي)، والأحداث، كحدث دفن الجنود العراقيين أحياء، المتماثل لرمي جنود الأمريكان الأسرى بالرصاص.
لم يأت إجراء وجه التماثل بين الشخصيات إعتباطا أو بشكل عشوائي، وإنما أستند الى بعض الشروط والمواصفات المتوفرة والمشتركة بين كل شخصيتين، كما في شخصية دانييل بروكس التي تجمعه مع شخصية السارد في أكثر من صفة، ولعل أبرزها هي كرههما للسلاح. وما يثبت كره السارد للسلاح هو عدم إعتراضه على طلب أمه من رمي بنادق ومسدسات أبيه بعد موته في النهر، بعكس شقيقه الأصغر الذي بسبب تصرفه هذا أتخذ موقفا مصيريا منه لا بل دخل في عراك معه بمسوغ ضياع أرث والده، ذلك بإعتبار السلاح من وجهة نظره شرفهم. ما حدا به أن يغادر البيت فورا. والإثبات الثاني ليس بحاجة أساسا الى أي إثبات ، لأن السارد يقر بنفسه أنه يكره حتى منظره وهو يقول: (لا علاقة للأمر هنا برفضي لحمل السلاح وكرهي حتى لمنظره، هو أنني ربما شعرت بالخوف لمنظر السلاح، في الجيش أو الشارع، في أيام الحرب أو أيام السلام.). وفي مكان آخر يتساءل: (كيف كان هؤلاء يمارسون الجنس وتحت سريرهم السلاح. ليس أبي فقط. ملايين الرجال فعلوا نفس الشيء.). كما أن مغادرته للبيت فورا أثر تهديده من قبل مسلحين ملثمين، هو الآخر دليل ليس على كرهه للسلاح، وإنما على خوفه منه أيضا، ليثبت مصداقية إقراره.
ودانييل بروكس، مثله مثل السارد، يكره السلاح ويأبى إستخدامه، وما يؤكد ذلك هو عدم رضوخه لطلب الرائد برينس وهو يوعز له التصويب بإتجاه القطع المعدنية، ذلك أن هذه القطع تحولت أمام ناظره الى أشباح بشرية، لأنه داس ببسطاله على موتى دفنوا على موقع الرمي، وهذا يخالف ما جاء في الأنجيل الذي يوصي بإحترام الموتى، لذا تجنبا لأداء هذه المهمة المستحيلة، فقد قرر الهرب: (ليكن ما يكون، من أين جاءت لدانييل تلك الطاقة أن يركض بكل قوته، لا صياح الرائد ولا العيارات النارية التحذيرية التي أطلقها خلفه في الهواء، جعلته يتوقف عن الركض.).
والصفة الثانية التي يشترك فيها السارد ودانييل بروكس، هي مؤاثرتهما إيجاد البديل عن الأجواء المحيطة بهما، بروكس في الصحراء، والسارد في الجنود الذين أقل رتبة منه كنواب العريف، أو خريجي كلية الآداب. فالأول بالرغم من كونه ضابطا في الجيش العراقي، إلآ أنه لا يرغب التعامل مع أقرانه الضباط والمسؤولين الحزبيين، ربما لأنه يفقه سلفا ضحالتهم فكرا وثقافة، لذا يبحث عن البديل الذي ينسجم مع تطلعاته، ويجدها في الجندي سلمان ماضي (الشاعر الرومانسي) . ودانييل بروكس مثل نظيره السارد، في الوقت الذي يلجأ فيه زملاؤه الجنود الى الخمرة أو الحشيش أو الجلوس مع عائلاتهم، يكون هو قد توغل في عمق الصحراء، حنينا للماضي، وبحثا عن الآثار. وإذا ما جاز لنا تأويل حب بروكس للصحراء، فإنه يلتقي الى حد كبير مع توجه السارد من حيث تفاعله مع كل ما هو جميل وصادق ومتسامح، والصفات الثلاث مثلما هي متوفرة في الصحراء، كذلك فهي موجودة لدى الشعراء.
وبموازاة بروكس والسارد، تلتقي شخصيتا سلمان ماضي ودافييد باربييرو، لا لكون الأثنين شاعرين فحسب، بل لأنهما كانا ينشدان قصائد الشاعر الأمريكي (والت وايتمان) معا في الحرب، الأول باللغة الأنكليزية، والثاني بالعربية، ويتبادلان سجائرهما، سلمان يعطيه سيجارة بغداد، وبروكس يعطي سلمانا سيجارة مالبورو، هكذا بهذه الطريقة الشاعرية على جبهات القتال، كانا يحولان الموت الى حب وأمل وذكريات: ( وكأنهما كانا متفقين أو فهما بعضهما من خلال القصائد.).
وإذا كان المؤلف قد عمد الى إستخدام تقنية التماثل بين الشخصيات والأحداث، تلافيا للأنحياز لطرف دون الآخر، فإنه أستخدم تقنية تفاصيل السرد، لمنح الحدث حجمه ووقعه الحقيقيين من جهة، وكسب الشخصيات، أبعادا تتجاوز المألوف الى اللامألوف، في سعي لبلوغ الميتا - السردية من جهة أخرى.
إن النزوع الى تقنية تفاصيل السرد بحاجة الى معلومة، ونفس وصبر طويلين، والإلمام بتقنيات السرد. وأعتقد لا بل أنا على ثقة أن الحاجات الثلاث تتوافر في هذه الرواية، ذلك أن التصدي للأحداث الكبيرة كالأحداث الكارثية التي مرت بالعراق، والظروف غير الطبيعية التي شهدتها، هي التي تفرض على الروائي الذي يروم أن يكتب رواية بمستوى الأحداث التي يتناولها، أن ينتهج هذا الأسلوب. وهو ليس أسلوبا سهلا، والروائي الذي يفتقر هذه الحاجات، يتجنب خوض معترك هذه التجربة الصعبة التي قد تؤدي به الى الفشل الذريع. بدليل أن معظم الروايات العراقية التي تصدت للفترة التي تلت السقوط، لم تتناول موضوعة الحرب وحيثياتها الدقيقة بالتفاصيل البالغة أحيانا حد الملل، كما تناولتها هذه الرواية، هذا الملل الذي يذكرنا بروايات أمبرتو إيكو الثلاث: أسم الوردة، معركة براغ، وجزيرة اليوم السابق. مع أنها ليست كذلك، أي هذه الروايات، ذلك أن كل جملة لها مسوغها.
إن حيازة المؤلف على المعلومة وتوظيفها في حيثيات روايته، إنما تعيد لها بفائدتين، أولهما هو إضافة المزيد من الشخصيات عليها، وثانيهما قلة الحوار، كما في هروب السارد مثلا الى مدينة الناصرية، ولقائه بماجد والطبيب غالب، ومن ثم إطلاعه على حكاية ماجد المأساوية وحبه لجارتهم، ومصرعها على أبن عمها. ومثلها الحديث عن الحرب ودانييل بروكس الذي يأخذ مائة صفحة من حجم الرواية البالغ ثلثمائة وخمسين صفحة.
قياسا بحجمها، تكاد تخلو هذه الرواية من الحوار، وما جعلها تبدو كذلك، هو قدرة المؤلف على الإسهاب والإطالة السرديين، فضلا عن توفر المعلومة، ليس في الأشياء الكبيرة فحسب، وإنما في الصغيرة منها أيضا، على سبيل المثال لا الحصر، في الفصل الذي يتطرق السارد الى الوحدات العسكرية التابعة للجيش الأمريكي، أنه يعرج على كل ما يحتاجه الجندي في الحرب، سواء الخاصة به أو المتعلقة بتنقلاته أو خوض المعارك، أي أن عمليتي الإسهاب والمعلومة، أدتا الى إنزياح القسط الأوفر من الحوار، ليحل محله تقنية السرد.
أخضع المؤلف روايته تحت نظام الترقيم بدلا من الفصول والوحدات، ووزعها على تسعة أرقام، ووضع عنوانا لكل رقم فضلا عن الفصل الأخير للرواية الذي أرتآى أن يأتي بخلاف أقرانه بدون ترقيم وأطلق عليه عنوان (مسك الكلام)، مستخدما ضمير المتكلم = أنا (السرد الذاتي) في الرقم 1و2و 3، و7و 8 و 9، و ضمير الغائب= هو( السرد الموضوعي) في الرقم 4 و 5 و 6. وهو إستخدام تقني نسبي، لأن الضميرين في معرض إستطراد أحداث الرواية، ينصهران معا في بوتقة فنية يصعب التمييز بينهما، وذلك من خلال الإنتقال من ضمير الغائب الى الضمير المتكلم وبالعكس، كما مثلا في حديث السارد عن سلمان ماضي الذي ينتقل عبر جملة :( ذلك ما عرفته أنا وأنت وما عرفه الجميع. . .) من الضمير الغائب الى الضمير المتكلم وضمير جمع المخاطب، ليشعر المسرود له بمشاركته في أحداث الرواية. وهذه التقنية معروفة في المسرح الملحمي البريشتي. أو بالإنتقال من ضمير المتكلم الى ضمير المخاطب، كما في جملة: ( أو إذا شئت ليكن أسمه حي الاطباء)، كما أنه أستخدم تقنية رواية داخل رواية، على غرار مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف لبيرانديلو، وذلك عبر إناطة السارد لشخصية ثانوية، سرد قصة شخصية ثانوية أخرى في الرواية، تتمتع بميزة التشابه مع الثيمة الرئيسة للرواية، كما في سرد الطبيب غالب لقصة ماجد المأساوية.
أما مع أنساق الحدث فقد تعامل عبر بناء التداخل وهو: ( البناء الذي تتعامل فيه الأحداث دون الإهتمام بتسلسها الزمني، حيث تتقاطع وتتداخل دون ضوابط منطقية، إذ تقدم دون الإهتمام بتواليها، بل بكيفية وقوعها. . .).1 على سبيل المثال لا الحصر، يتداخل الحديث عن سلمان ماضي مع قصة إنفصال أزهار عن زوجها السارد، ومن ثم يتقاطع مع إرتياح السارد بالجلوس مع أبن أخيه، وبالتالي تتداخل وتتقاطع الأحداث الثلاثة بعودة السارد سبع سنوات الى الوراء، ليتذكر تعرفه في كلية الطب البيطري على الشيوعيين الذي سيصبح البعض منهم أصدقاء له.
يلجأ المؤلف الى سرد أحداث روايته بالتعويل على العملية السردية الإستعادية التي تنتج سردا في صيغة الماضي، وإن بدا في السطور الأربعة الأولى من الرواية، أنه يسردها بالإعتماد على العملية السردية التزامنية التي تنتج سردا في صيغة الحاضر، وهو يقول على لسان السارد: ( كلما نظرت الى جواز السفر الذي أحمله، الى الأسم الذي فيه وتأريخ الميلاد، تذكرت دانييل بروكس. . .)، ولكن ما أن يأتي على حدوث الإنقلاب الذي جرى في حياته على يد رجل غريب قادم من الغرب قبل سبع سنوات، حتى تتضح صيغة السرد وإتجاه إستقرارها في الماضي. وتتكرر هذه اللعبة السردية التي توحي الى الزمن الحاضر في مستهل الرقم (3) أيضا الذي جاء تحت (ظل شاعر)، في جملة: (ربما ظن سلمان أنه بعودته الى البيت هذه المرة وببقائه مع أمه في الناصرية سيتسسنى له العيش بهدوء. . .)، وكذلك في الفصل الأخير من الرواية، والسارد يعبر عن سعادته بوصول القصة الى القاريء ويدعوه أن يتنفس قليلا.
لا يقوم السارد بتقديم نفسه للقاريء فقط، وإنما بتقديم شخصيتين رئيسيتين في الرواية هما بروكس وسلمان، فضلا عن الشخصيات الثانوية، وبذلك فالسارد هنا هو العليم الذي يتولى عملية وصف أبعاد الشخصيات من الداخل والخارج، وصلتها بالمحيط الذي يربطها بواقعها، كما في تقديم نفسه وهو يصفها بالأسم المزيف، وزوجته التي أنفصلت عنه، وكرهه للسلاح، أو تقديم سلمان بوصفه يكره الأمريكان، حتى أنه فضل العيش في ساحة الميدان على العيش مع زوجته وأبنه، وبإعتباره الرجل الذي يشعر بالذنب، أو تقديم دانييل بروكس بالشخص المضحي والصادق مع نفسه والآخرين. ومن خلال مجريات أحداث الرواية، تنضوي أبعاد شخصية سلمان ماضي تحت لواء الشخصية المسطحة الدائرة حول فكرة واحدة، والسارد وبروكس تحت لواء الشخصية الدائرية الثلاثية الأبعاد.
أستخدم المؤلف بالإضافة الى التقنيات السالفة الذكر، تقنية التكرار في القصائد والجمل والعبارات المستقاة عن النصوص الأدبية. وعمد بقصدية ظاهرة، بتكرار قصيدة (أيها الجلاد) للشاعر (سركون بولص)، أكثر من عشر مرات، وقصائد لوالت وايتمان، وعبارة عن رواية (دروب الحرية) (لجان بول سارتر)، وعبارتين عن مسرحيتين هما (هاملت) و (ماكبث) لشكسبير، فضلا عن تكرار مفردة (الجحيم) لأربع مرات ومفردة (الحلم) أكثر من ست مرات.
تتردد لأول مرة قصيدة سركون بولص في الرواية على لسان سلمان ماضي التي لا تتعدى سطرا واحدا، (أيها الجلاد أذهب الى قريتك، لقد طردناك، وألغينا هذه الوظيفة). لسببين، أولهما ليعرف السارد بأن سلمان ماضي الذي يتعرف عليه لأول مرة، بأنه ليس في الحزب الحاكم، وثانيهما لأن سلمان ماضي أثناء إنتحار البغل، كان مشغولا بالتأمل، لذا فإن أنشغاله هذا، وجد فيه، مبررا لعدم أهليته القيام بالعمل المناط به، وهو الحد من إنتحار الحمير، فتذكر قصيدة سركون بولص، ليقوم بفصل نفسه بنفسه من الوظيفة. أما في المرة الثانية تأتي هذه القصيدة على لسان السارد، قلقا على صديقه سلمان لإلتحاقه بكتيبته، إستعدادا للحرب الجديدة التي تدق على الأبواب، وتختلف عن بقية الحروب التي عاشتها البلاد. فيشعر السارد بفعل جلوسه في المدينة، في الوقت الذي يلتحق فيه صديقه بالحرب، بأنه هو الجلاد، بينما لم يردد سلمان هذه الجملة نكاية بالسارد، وإنما ردد جملة سارتر المنددة للحرب والساخرة منها التي مؤداها: (جرجر بيضاتك أيها الرفيق وأمسك عضوك بيدك فنحن ذاهبون الى الحرب لإصطياد القحبات). والمرة الثالثة تأتي على لسان سلمان، ردا على إقتراح السارد للعمل معا في المجزرة، لإقتران شغلهما بشغل الجلاد، ولكن السارد يتنبأ بأن الجلاد لن تلغى وظيفته ولن يعود الى قريته، غير أن الجلاد بدلا من أن يترك الوظيفة ويذهب الى قريته، يفعل بما تنبأ به السارد فيرسل جيشا ليحتل بلدا مجاورا ظنا منه أنه سيفلت من العقاب، وفي المرة الرابعة إيحاء لموت الجندي الذي يذهب الى الحرب.
كما وأستقى السارد عبارتين عن مسرحيتين لشكسبير وهما مسرحية هاملت وماكبث، وكررهما كثيرا في روايته هذه، الأولى هي عبارة: ( لماذا يجعل التأمل منا جبناء) المستقاة عن هاملت والثانية: ( ثم هيا يا رياح. . ثم هيا يا مطر) عن ماكبث، ومعنى العبارتين كما هو واضح يختلفان ولا يتفقان مع بعضهما البعض، وإذا كان معنى العبارة الأولى يوحي الى تردد هاملت وقلقه وبالتالي جبنه في قتل عمه، فإن معنى العبارة الثانية هو إجابة على عدم إتخاذ المثقف العراقي موقفا واضحا من نظام صدام الدكتاتوري، لا بل هو تحريض على إسقاطه، جاعلا من ماكبث القاتل للملك أنموذجا لهذا السقوط.
تأتي عبارة لماذا يجعل التأمل منا جبناء في المرة الأولى على لسان سلمان ماضي، تألما لسقوط بغل، بينما كما يعلق السارد، تقتل الناس بعضها حولنا. وتتكررهذه الجملة على لسانه في المرة الثانية لعجزه عن مقاومة الرجال الثلاثة، وهم على الأغلب شرطة أمن أو ضباط مخابرات الذين أهانوه بوصفهم للمرأة التي تشاركه وهي (أحلام) مائدة الطعام بالقحبة: ( فبدلا من أن ينهض ويرمي صحون الأكل في وجوههم، أن يرفس على الأقل واحدا منهم. . . طلب من أحلام أن تنهض ليغادرا المطعم. . . ). وفي المرة الثالثة لعدم إستطاعة سلمان مساعدة صديقه السارد الذي هرب من العاصمة بغداد الى مدينة الناصرية، نتيجة للتهديد الذي تعرض له من قبل الميليشيات المنفلتة.
أما مفردة (الجحيم) تتكرر في الرواية لغرض واحد فقط، وهو إظهار قسوة الحرب ووقوع كل تبعاتها ونتائجها الوخيمة على عاتق الجندي البسيط، دون القادة والضباط الكبار في الجيش، سواء كان هذا الجندي عراقيا أو أمريكيا. كما في إرسال سلمان الخبير بالبغال والحيوانات مع ثلاثة من أصدقائه الى الخطوط الأمامية لجبهة القتال بحجة إعتبارهم أفضل الجنود خبرة بالرصد. بينما في الحقيقة أرسلوا الى هذه الخطوط لكي يموتوا هناك، لأن أحدهم كان مسيحيا وثانيهم كرديا وثالثهم صابئيا ورابعهم سلمان ماضي المتهم ليس بالشيوعية فحسب، وإنما هو أيضا شيعي زائدا شروكي: ( والأكثر حماقة أنهم لم يكونوا تحت أمرة ضابط، كلا خمسة نواب ضباط، كانت حصة كل واحد منهم مئتين وخمسين جنديا. .ألم أقل لك أن أبناء القحبات أولئك الذين كانوا يتزاحمون على إغتصاب أحلام كانوا لا يفعلون شيئا غير أنهم ينيكون أنفسهم. . . ). وكانت النتيجة أن خرج سلمان وحده حيا، أما البقية الثلاثة جرحى أو أموات.
مثلها مثل الشخصيات الثلاث: السارد، سلمان ماضي، ودانييل بروكس، تعد أحلام شخصية رئيسة في الرواية، لا لكونها تمثل أحلام سلمان ماضي المذبوحة، بل لأنها رمز الوطن، وذلك من خلال تكالب الرجال عليها وفتكها على هواهم. إن أحلام هي عراق ما بعد عام 2003، الذي مزقه رجال الدولة: (وجد فيها الآخرون غنيمة سهلة وصيدا ثمينا خاصة رجال الأمن والشرطة. كانت الشرطة في آخر الليل، الحرس ورجال الأمن يقضون وطرهم معها في غرفتها على السطح بينما كانت هي لا تشعر بهم). في إشارة واضحة الى تقسيم ثروات البلد من قبل الأحزاب السياسية الحاكمة. بتأكيد المؤلف على جملة:( غنيمة سهلة وصيدا ثمينا) التي تعني ثروات البلد، وجملة: ( كانت الشرطة، الحرس، ورجال الأمن) التي تعني الدولة.
هذه القحبة في نظر الناس، ذات الجمال الأخاذ والعقل العوق المقرون بالحكم، بادلت الحب مع سلمان، إلآ أنها كانت تريد منه، لكي يكون معها صادقا أن ينزع عنه الملابس العسكرية، لأن جلادوها من العسكر:( فكيف تذهب مع عسكري وهي ترى فيه الجلاد). إن الوطن يريد الخير للناس، ويتعامل معهم بمساواة، لذا فإن أحلام تتألم عندما ترى المولود في الجنوب بملابسه الخاكية يقاتل في الشمال، مع أنها هي الأخرى تقاتل في الشمال ولكن على جبهة أخرى. والجملة الأخيرة تشي بمقاتلتها للشخص الذي أحبها في كركوك، وتخلى عنها بعد أن حبلت منه وأجهضت الجنين لأنها لاتريد لأبنها أبا مجرما، وعندما عرفت بأنه أستلم منصبا كبيرا في الدولة، وهو منصب القاضي. أصرت الذهاب الى بغداد، لكي تعيش قريبا من المحكمة، بهدف متابعة تحركات القاضي والإنتقام منه. ولهذا فهي على إمتداد الرواية تردد مفردة المحكمة على شفتيها، دون أن يهتدي سلمان أو حتى وليام الى المغزى المقصود منها: ( وحسب وليام لا أحد يدري أية بناية محكمة تقصد، فوحدها المنطقة القريبة من ساحة الميدان فيها ثلاث بنايات).
تذكرني إلتحاق أحلام بالشخص الذي حبلت منه الى بغداد للإنتقام منه، برواية (تمر الأصابع) لمحسن الرملي، تحديدا بشخصية الأب الذي يغادر قريته الى إحدى الدول الأوروبية للإنتقام من الدبلوماسي الذي بعبص أبنته.
إن أجمل ما في هذه الرواية هو التوظيف الذي عول المؤلف على تقنية الإيحاء، في موضوعة إستيلاء المليشيات المنفلتة على دار السارد وتهديده بقتل دانييل بروكس، دون أن يكشف الى نهاية الرواية، بأنه كان شقيقه، مارا هذا الإيحاء بست عشرة مرحلة من مراحل السرد:
1- لم يقتلوه إحتراما لعائلته، إذ كان أبوه شيخا فاضلا، وأخوه مجاهدا مثلهم.
2- لم ير الخطر ماثلا أمام عينيه مثلما رآه في عيون المسلحين الملثمين، خاصة في عيني رئيسهم الملثم بالغترة والذي ظل جالسا في مقدمة السيارة، صامتا يراقب المشهد.
3- وكما عرف من نبرة صوتهم عراقيون.
4- لم ينضم سابعهم الى رفاقه الستة، بل راقب المشهد من بعيد، رأيت ظله فقط وهو يقف متنصتا لما دار بيني وبين رفاقه.
5- ولو لم يشر سابعهم الذي أخفى نفسه خلف الباب بحركة من رأسه بالموافقة لما أخذوني لاحقا الى السرداب.
6- لا أمان في هذه البلاد حتى الأخ يخون أخيه.
7- لا أسمع إلا بسبستهم فيما بينهم أو ذهابهم الى سابعهم الذي وقف يتنصت عند الباب.
8- فإن الثلاثة الآخرون كانت لكنتهم قريبة من لكنتي.
9- سابعهم الملثم بشكل محكم، مثله مثل الرجل الذي جلس عند الطرف الأيمن. ويقصد (زوج أخته).
10- مرنين معي.
11- لم يبخلوا بجلب الماء لي.
12- لم أسمعه ينطق بكلمة.
13- عندما رآني أتطلع إليه أزاح رأسه عني.
14- وكأن الرجل عرف بأنني سأتوجه اليه.
15- هل أذهب لأخي؟
16- هو الذي يقودهم.
مثلما يلجأ المؤلف الى تقنية الإيحاء في سعي للكشف عن هوية الشخص الذي سطا على دار السارد، كذلك يعمد الى التقنية نفسها في إغتيال أحلام للقاضي، وذلك من خلال ورود مفردة المحكمة على لسان شخصيات الرواية أكثر من مرة. في المرة الأولى على لسان وليام: (وهي تريد أن تعيش قرب المحكمة) قاصدا أحلام، وفي المرة الثانية على لسانها، ردا على سؤال وليام: أين تذهب كل هذه الأيام؟ لتجيبه الى بيتها الجديد جوار بناية المحكمة، وفي المرة الثالثة في جملة: ( تخيل حتى أحلام لم تشأ الإقامة هناك. قالت له، أنا جئت معك لأنني أردت السكن الى جانب بناية المحكمة). إن المؤلف بهذه الطريقة التي يتبعها للإيحاء، يحقق ثلاثة أهداف، الهدف الأول هو تمويه شخصيات الرواية بمكان إقامة أحلام، وثانيهما هو الإيحاء الى القاريء في ذهابها الى قتل القاضي، أما الهدف الثالث فهو الإيحاء الى القاريء، بأن تمويهها لمكان إقامتها وذهابها الى قتل القاضي، ما هو إلآ هذيان صادر من شخص مريض، يسعى الى تحقيق أحلامه من خلال وعيه الباطني. ربما تأكيدا لعوق عقلها، أو بالعكس تأكيدا لحذاقته، لأن كلا التأكيدين جاء ذكرهما على لسان الشخصيات في الرواية.
يبدو لي أن والي بضخ هذا الكم من تقنيات السرد في روايته، لا يسعى الى إظهارها بتكوينات في غاية الجمال فحسب، وإنما يهدف الى إرشادنا الى كيفية كتابة الرواية أيضا، وهو يتنقل بين تقنيات السرد الروائي بمهارة الراوي الملم بحفريات إشتغاله. ولعل هذه المهارة تبرز أكثر في تعويله على تقنية ( المقارنة)، عبر إتخاذه من مجازر الحيوانات، صنوا لأعدام البشر، ليجعل الجزار جلادا كالجلاد الذي حكم العراق طوال ثلاثين سنة. وسلمان ماضي يطرح هذا السؤال على السارد: ( لماذا دوام المجازر في الليل عادة، والذبح يبدأ في الرابعة فجرا؟ لماذا هذا التوقيت بين حفلات الإعدام البشرية وذبح الحيوانات؟). ومقارنا ذبح البعير بذبح أحلام في غرفتها على السطح، في إيماءة الى ممارسة رجال الشرطة والأمن الجنس معها، ومشبها إطلاق صفارة سيلان الدم، ببعث كل أولاد العاهرة أولئك لذبح أحلام= العراق.
تكسب هنا تقنية المقارنة طابع الرمز، وتنحو منحى تأويليا القصد منها الإعدامات البشرية وليس مجازر الحيوانات، وهذه الإعدامات مثلما يشهدها المواطن العراقي يوميا، كذلك يشهدها الجندي المحارب في جبهات القتال، وها هو سلمان يتذكر كل فجر عاشه في الجيش، ليشعر بقلبه يثب خارج جسده ويتحول الى طير. سائلا السارد: ( فهل ستذبحه يوما ؟). ولكن سلمانا كله يتحول الى طير وليس قلبه وحده، أثناء إعدام الحيوانات لذا فإن السارد لا يراه، عندما يبحث عنه، ولكنه يراه خارج المجزرة جالسا عند النخلة الوحيدة في حديقة المجزرة. فمن جملة يتحول الى طير، تتحول هذه التقنية المقارنة والمشوبة بالطابع الرمزي مع تحول القلب الى طير، الى تقنية الميتا – سردي. وفي حديقة المجزرة التي يجلس فيها سلمان، لا يوجد فيها سوى نخلة واحدة، بالرغم من قربها من نهر دجلة. أي أن هذه الحديقة غير صالحة للزراعة، لأنه يربط الحيوان الذي يستشعر الخطر الى شجرتها، فيفر من حبال جلاديه. ومع هذا فسلمان يحب هذه النخلة التي تقف شاهدا على قدره. إن سلمان يحب هذه النخلة، لأن الفتاة التي يحبها ويتزوجها فيما بعد، أسمها نخلة، والنخلة كما هو معروف رمز العطاء، بعكس النخلة الوحيدة هذه التي يربط اليها الحيوان، بتأويله الى الإنسان، وقد جعلت من العراق أنهارا من الدماء، وسلمان يقول: ( وما ينتظرني أو ما ينتظرنا من موت).
تطلق جملة:( لماذا دوام المجازر في الليل) ست مرات، في المرة الأولى لعدم إلتحاق سلمان بكتيبته، ليرموا به في السجن نتيجة غيابه، أو هذا ما يفضله على الجلوس في خندق في صحراء السعودية أو الكويت او العراق. وفي المرة الثانية تشبيهه ذبح البعير بذبح أحلام: ( أرجوك أعطني أية مهمة أنوب عنك بالعمل فيها بإستثناء إطلاق صفارة سيلان الدم، لأنني بهذا الشكل كنت أشعر كأنني أبعث كل أولاد العاهرة أولئك لذبح أحلام). وفي المرة الثالثة لنجاته من الموت في الصحراء مع الجمال التي تاهت مثله، لكن على الأقل بعيدين عن سكاكين وسيوف الجزارين. وفي المرة الرابعة لهجرة سلمان زوجته نخيل التي جاءت السارد في مكتبه، تسأله وهي تمسح دموعها: ( لماذا تشترك المجازر بهذه الصفة؟).
مثلما ذكرني إنتقال أحلام من مدينة كركوك الى بغداد للقصاص من خائنها، برواية تمر الأصابع لمحسن الرملي، كذك فقد ذكرتني المزرعة وشجرة النخلة والطير في هذه الرواية، بباحة محل غسل الجثث في رواية شجرة الرمان لسنان أنطوان، حيث تنبت فيها شجرة الرمان التي يطير منها البلبل أثناء إحضار الميت، مثله مثل قلب سلمان الذي يتحول الى طير في كل فجر عاشه في الجيش. فالموت يلاحق كليهما، وهما يفران منه، وبمعنى آخر، أن الموت يلاحق الشعب العراقي في كل مكان، بدليل أن المكان مثلما هو سيد المجازر في هذه الرواية، كذلك هو سيد المكان في رواية وحدها شجرة الرمان. وبهذا فالطير والبلبل هما رمزان للشعب العراقي المغلوب على أمره.
تكاد أن تخلو الرواية من مكان تأتمن له، أو تشعر الشخصيات بالأمان وهي تعيش فيه، سواء أكان ذلك في المعسكرات أو الفنادق الرخيصة أو حتى في بيوتاتها، بوصفه مكانا معاديا لها لنفورها منه. إبتداء من شخصية سلمان الذي يتخندق في حفرة أقرب الى القبر، وهو ينتظر ساعة موته، مرورا بأحلام التي آثرت العيش قرب المحاكم بالرغم عنها، وإنتهاء بالسارد وهو يغادر مدينته الى مدينة أخرى. فضلا عن المكان الذي يحتجز فيه دانييل بروكس القادم لمساعدة عوائل الشهداء من أمريكا. ولعل اللإستقرار هذا في المكان هو الذي يحدو بالسارد في نهاية الرواية، أن يتخذ قرار الهجرة، وهو يقول: ( يبدو كل شيء حقيقي، حتى أسمي المزيف وأوراقي الجديدة، مكان الإقامة الجديد والبلد الذي أخترته صدفة وصار بمثابة بلد لي بعد طواف طويل ودوران في بلدان مختلفة من العالم قرابة ثلاث سنوات).
إن نجم والي يجيد إستخدام عملية المونتاج القاطع الذي يؤدي الى توتر القاريء ومتابعته للحدث بشغف، وهو عندما يستخدمه، إنما الهدف الأساس منه هو بناء المشهد دراميا، كما هو الحال في اللقطة السينمائية، بالإنتقال من فعل الى فعل آخر أو الى جملة خبرية أو أستفهامية، أي أنه يمرر مشهده بمجموعة من اللقطات التي تساعد على نضوجه، وقد تكون هذه اللقطات بعكس ذلك بمنآى عن الهدف المرسوم للمشهد. وسأسوق نموجا واحدا من الرواية الذي حاول المؤلف من خلاله النفاذ الى عملية المونتاج القاطع لتصوير المشهد دراميا، وهو مشهد قتل الأسرى الأمريكان، وقتل وجرح ثلاثة من أصدقاء سلمان ماضي. وهذا المشهد هو أبرز أحداث الرواية، من حيث تعبيره عن مضمونها الإنساني والتقني، أقصد، تعاطف دانييل بروكس مع الجنود العراقيين، وبالعكس تعاطف جنود العراقيين مع الأسرى الأمريكيين، ولتوازن الذي يخلقه هذا التعاطف من كلا الطرفين، بعدم إنحياز المتلقي لطرف دون الآخر. أقول بعد تشخيص سلمان ماضي من قبل النقيب حيدر ملا كريدي مع ثلاثة من أصدقائه للقيام بعملية الرصد في الخطوط الأمامية لجبهة القتال، وهم خبراء بالبغال والحيوانات، يبدأ الخطأ القاتل على غرار التراجيديات الأغريقية التي غالبا ما تبدأ من نقطة الخطأ، لأن النقيب يبعث بهم الى الموت، شارعا السارد الإعلان عن هوية الجنود الأربعة، وتوضيح موقف النقيب منهم. تبدأ عملية مونتاج القطع من جملة (قال لهم)، ذلك أن السرد ينتقل من ضمير الغائب الى ضمير المتكلم الأنا (المخاطب) متمثلا في النقيب، حيث يشرع بإهانتهم من خلال الهوايات التي يمارسونها، وعملية مونتاج القطع الثانية في جملة: (لاتعتقد. . ) لإنتقال السرد بعكس القطع الأول، وبعد سطرين الى ضمير المتكلم الأنا في جملة (إلآ إنني وجدتها) وهو بصدد الحديث عن الرسالة التي وصلته من سلمان. وهكذا بالإنتقال من قطع وموضوع الى آخر، مرورا بإنتفاضة 1991، وتحرر سلمان من عبء أو خوف من كل مسؤولية أو رقابة، أثر إناطته بهذه المهمة، وتعداد الفرق التي مارس الخدمة العسكرية فيها، فضلا عن وصف المشاعر التي يصفها السارد لرؤية بغداد من على شاشة التلفاز وهي تقصف، وأطفال يبولون أويتغوطون على أنفسهم، ومواجهة سلمان أول جحيم بمجموعتي إستطلاع أمريكيتين مكونتين من أثني عشر جنديا من قوات المارينز، وهكذا الى الترقيم الثالث من الرواية، الذي يعود عن طريق السارد، عبر ضمير الغائب الى نتائج الحرب التي أنعكست على حياته، وصولا الى مشهد إلتحاق نخلة بزوجها سلمان لتعرف المكان الذي يقضي وقته فيه، لتجده: (على ضفة الشاطيء بمواجهة مجزرة اللحوم، وهو يشرب، كان عليها أن تصبح قريبة منه لكي ترى عدته التي أخرجها من جيبه: علبة سجائر مالبورو وقنينة ربع عرق. جلس ينادي النخلة الوحيدة التي أرتفعت وسط حديقة المجزرة ويصيح، نخيل يا نخيل، يا نخيل بلادي الهرمات. دافيد يا دافيد، أخ وصديق، سنوات عمري الجريحات. . .). يأتي هذا المونولوج أثر مقتل نهاد ودافيد باربييرو، وإنعكاسا له، تمهيدا للتعبير عنه دراميا، مقرونا بنخيل بلاده الهرمات، أي بنضب بلاده من العطاء، متمثلا في الجملة التي تبدأ من:( كل ما يتذكره أنه وزملاؤه كانوا يطلقون النار في كل الإتجاهات . . .).
1- تقنيات السرد من منظور النقد الروائي. تأليف أشواق عدنان شاكر النعيمي، الناشر: دار الجواهري، الطبعة الأولى.2014.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق