الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحليل قصيدة 4/ تداعيات لزمن منفلت لعبدالرحمان بكري (الجزء التاسع و الأخير)

محمد هالي

2020 / 6 / 9
الادب والفن


تحليل قصيدة بكري 4/تداعيات لزمن منفلت(الجزء التاسع)

ما ينير حرارة الشدو، هو سماع لحن بلبل ينشد ريشه منقارا للتجلي، ككل صخب الحياة: تناقضاتها صراعاتها، ينجر التلفظ بما جاد من تموسق على قارعة القصيدة، هي تعطي لحنا على مزمار امرأة، و التواءها كالتواء المجتمع في سهراته، و بذخه المتعب في برامج النسج المضنية، انعكاسات الذات على المرآة مجرد تماثل بشكل هابط، متوقف كتوقف التاريخ المنسي في ذاكرة تعيد انتاج صخبها من جديد، هذه هي القصيدة الأخيرة من مقاطع ترنحات الحانة تشفط آلام ذكريات تحيك "خيوط الكبة" في أزمنة هشاشة البروليتارية المتعبة من انتاج "فراش على مقصلة الردى" ، تعكس صور في ذاكرة متصظية من الاحداث، و التوقعات، المشهد لا زال يتراءى على وزن الآهات، التي كانت تضطلع بها المرأة في ارتباك الزمن المقحوط، زمن مر من هنا، و سقط هناك، مر كصور تربك العمل، و المعمول، لا هو صناعة، و لا هو اعتراف بالجهد المجهول، خيوط كبة تفبرك افرشة تقي من أشعة الشمس، و تعتقل اجساما آدمية حين يحل الظلام:
أمامي المرآة تحاصر شقوق ذاكرتي
خيوط الكبة تتوالى
صور الفراش على مقصلة الردى
يعانق ضوء الشمس
واعتقال طيور النوارس
مع زيارة أواخر الليل
صخب "الكبة" و تعبها لأذى يفضي الى النعاس، خيوطها لن تنتج سوى أفرشة الموت في زمانها، ملفوفة بعرق النسوة في أرق الايام و تعبها، هي ليست كالحاضر، بل كالماضي حين كانت الصناعة التقليدية ترقص بعرس النساء، هي السيد و العبد، قبل غزو التقنية التي قضت على كل شيء، اذا كان هذا جانب من الحكاية ، فإن ما يعلو على الفهم هو أن بكري يزحف بنا الى عصر مقحوط كانت فيه المرأة بروليتارية البيت، تخيط و تطبخ، و بها يتم "اعتقال طيور النوارس" ، لا يحلو للأطفال الاختباء من "ضوء الشمس" الا ب"خيوط كبة" تعتقل "النوارس" (افراد الاسرة)، التي تقوم به الام لتواجه "زيارة أواخر الليل"، في شروطها التاريخية المقحوطة، هذا المشهد، لا يبزغ في ذهنية الراوي الا في سبات السكر، و يقظته، قي عربدة مجتمع و تقززاته، و ما أن يسود مشهد في ماضيه توقظه يقظة في حاضره
"قهقهة خلفي ..
قطعت شريط الآهات الدفينة"
لينساب الوضع بتدحرجات المجون كما هي حاضرة في يقظته
"تسترق النظر بين الجغمة والمضغة"
هي كذلك الحياة، و ئيدة في سكونها، تتلاءم مع ما أوبأته سواعد مضنية في قفر الفرجة المنسابة في أطعمة اللهو التي تعج بها الترسانة الاعلامية، هي ترغف من كل جلد الدواب: غربا وشرقا، من حائض منحل يشبه مجون الحانة في ترسباتها العالقة في قمقم المساحة ك "عيون الندامى "
التي تلوك التلفاز أو الهاتف المحمول لينظروا، و يتمنظروا، يرسلون عدساتهم
"إلى صاحبة الضفائر الشقرا" كما هي تتمايل في كل دعاوي روتانا، أو مشهد موازين، إن اعتلت تطلعاتهم نسبيا في حولقة جمهور تائه مخمور بتصفيقات و تمايلات و اعتلاء صخب كما
"تصب بيدها اليمنى
نبيذ الوهم
وعَقِب سيجارة محترقة
بين أنامل يدها الأخرى
والقد يعتلي جبين اللذة"
ليس العرض هنا من اعتباطية اللغو، هو حقيقة سفر متدحرج الى الهاوية، و شعوذة التنشيط الرمضاني ، كأكذوبة "فيفي" حين
"تمسح جنبات الحانة
بعينها الماكرة
تغري جميع الزبناء
وعلى ثغرها ابتسامة شبقية
بلون أصنافي المفضلة "
قهقهات تعلوها سخرية المتفرج الهارب من سخرية الزمن المكتظ بعقم النسيان
" تصر على تبادل النخب الكاذب
الغاص بثقل الوضع المأزوم "
غريبة هذه التناقضات، بحماقتها، و لهوها، و أحزانها و أفراحها، و حتى بصورها المنافقة، و من أجل صد طوفان الفقر المزعج حقا، يتراخى البروليتاري و يتأمل سواعده الملقاة على عاتق الاستغلال، و الاضمحلال في كل تلكئ البيت، ليس هناك من حل سوى شطط فرجة الذاكرة، من تعاضد الذهن عبر أشعة التلفاز، التي تنشر الخمول، و الكسل ، و الانتظار، و حين يتصدأ التعب، و يتعاضد، ترفع أدرع الأدعية، لتزيد من قامة الصبر، و تدويمه، هو حل لمحتكري الاعلام، و الثقافة، كي يبقى المجتمع هادئا ، صابرا، ساكنا كسكون الأجر، و الأجرة، و غموضهما في كثير من الاحيان، هي ذي الحانة تصور سكر المجتمع، و عربدته بين سكر و صحو، و عربدة تطيل الحلم في مآسي مبعثرة هي التي:

"تتذمر أفكاري المعتقلة
خلف قضبان صمتي "
هي إما أن تكون الحياة أو لا تكون، تتدحرج كألعوبة الكبث المتفشي، حين يؤجج بثوابت لا تزعزع، هي كذلك تهبط مستويات الوجود بين اقتراب المرأة و تباعدها، بل أصبحت لعبة في يد أصحاب المقاهي و الحانات و كل أروقة تجار خدع التجميل، تثير شفق الذكورة في مجتمع شرقي يحضر على المرأة طقوس التستر، لكن يجب أن تعلق في الدولاب، يحضر عليها السلام لكن تربك الرجولة حين تمشي في الدروب، هي آلة صناعية تجارية بامتياز، و إن تأجج السلف بأليات الحجر في البيوت و هذا الارتباك الشبقي يصفه بكري بلغة شاعرية عالية:
"اقتربت كثيرا هذه المرة من مرافئي
قوارب محركاتي اشتعلت
تمالكت حواسي
وتلك أشباه الوجوه المحدقة
على تماس صدرها النائم
بين تلال النزوة"
ما بين الجلب و اليقظة يترنح الموقف يبزغ النقد اللاذع من هموم الانسان الذي لجأ للخمر ليقع في تناقض بين سكره و يقظته، بين زهو العربدة، و بطش الواقع المريض فما بين الفقرتين الشعريتين يظهر الفرق، و يؤكد المقطع التالي:
"تتزلف صاحبة أقداح الشعير
علها تسكب من عينيها البنيتين
دمعا يغسل تجاعيد الاغتراب
عن بنيات هجينة.. مملة
في هذه الأثناء"
هكذا يشعر الشاعر" بأن "صاحبة أقداح الشعير" ما هي الا بروليتارية دفعتها الظروف المعيشية بأن تكون كذلك، بأن ترقص، و تغني، و تسكب أكواب الخمر، و الذي يرى فيه بكري:
"تسكب من عينيها البنيتين دمعا" و هي مغتربة عن واقعها هذا، كما يغترب كل عامل، أو أجير عن بضاعته كما بين ماركس في غير مناسبة حينما تناول علاقة البروليتاريتا بما تنتجه، فمرأة الكونتوار هي الآن تسقط في مفهوم الاغتراب الماركسي، كما يريد بكري أن يبين، فهي تشعر و هي تمارس عملها خارج الحانة، مجرد زبون يقظي لحظة زمنية من أجل الاستمرار في الوجود او كما وصفها بكري:
"دمعا يغسل تجاعيد الاغتراب
عن بنيات هجينة.. مملة
في هذه الأثناء"
بهذا تكون الحانة مجرد خشبة و ضع فيها بكري بعض الممثلين لعرض مسرحيته المميزة، انطلق الحدث من أوله، من طفح كل الممثلين، و حدد أدوار مختلفة لكل شيء، أعطى للكأس و امرأة الكونتوار، و السارد اهمية قصوى في المسرحية، فبين تحريك الكأس و تكسيره يسبح بنا بكرى في عوالم كبرى قد تكون تنظيمات يسارية ، أو أصولية أو أحداث عالمية أثرت على الوضع الاجتماعي، و السياسي في المغرب، هو الملم و المدرك لحقائق كان من الضروري أن يتناولها شعريا، لكنه أعطى القسط الاوفر من النقد لتيار الاسلام السياسي، و بين الظروف و الملابسات التي جعلته يستحوذ على بنية المجتمع ، و ما ينشره من تضليل و كذب باسم الدين، و بين حلوله الترقيعية حينما ظفر بمقالد الوزارات، و كيف أصبح يتكلم عن التماسيح و العفاريت، في مواجهة المشاكل الحقيقية التي يعاني منها المجتمع.
هكذا قسم الادوار و الشخصيات داخل الخشبة، و عرض نصوصه بامتياز ليختم هذه المشاهد كلها بمشهد رائع اتركه كاملا ليتابع القارئ نهاية المسرحية كإقفال لها:
"واجهة الكونتوار
تعج بدردشات جانبية .. ثقيلة
تعكس بلكناتها المألوفة
اختلاف جغرافيات الوطن
اختلط صوت العربدة وضجيج الموسيقى"
هذا هو المجتمع المغربي ، الكل في سكر على اختلاف جغرافية الوطن، أمام واقع مقحوط من كافة الجوانب، لكن هذا الوضع يعج بحياة أخرى، حياة اللهو و اغراء الصورة التي جعلت كل فرد هائم في فردانيته، يعيش تخمة المعلومات بدون من أن يظفر بأية معلومة، أفلام مسلسلات أغاني مباريات كرة القدم ...يمكن اختصار المشهد ككل: اختلط صوت العربدة و ضجيج الموسيقى: بالإنسان الى درجة لم يعد يرى في هموم الاوضاع اليائسة سوى ضجيجا تلحنه قنوات كثيرة بلحن الهدوء و الصخب حسب الحالات و الاحوال التي يمر بها الفرد في بيئته، لم يعد لشاعرنا من دور سوى أن يختم محاولاته الشعرية بتحية الجمهور الذي تابع المشاهد كلها من أولها الى نهايتها، تابع أسباب و حيثيات الوضع الذي نعيشه، فكل شيء له تاريخ ينعكس على جغرافيا الوطن:
"نظرت إلى ساعتي
ككل مرة يحين وقت عودتي
أترك لامرأة الكونتوار
بعض من سلامي
وابتسامتي
أهرق عبق الكبرياء
في فنجان النخوة"
فما بين عربدة و صحوة منعرجات كثيرة صنعت الانسان الحالي، و جعلته في انتظارية الزمن و تقلباته، بين انهيارات كثيرة، و سطو على تاريخ انساني، و تخبط بين فقر مدقع، و كورونا ببطش رأسمالي قاس، تتركنا القصائد في حيرة من أمرنا، أمام سؤال ميتافيزيقي يحدوه جهل الاحتمالات : من سيدق حزان الوقود؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في


.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة




.. الفنان صابر الرباعي في لقاء سابق أحلم بتقديم حفلة في كل بلد