الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة2

محمود شقير

2020 / 6 / 9
الادب والفن


نقترب من استراحة أريحا في ساعات ما بعد الظهر في الثلاثين من نيسان عام 1993.
في المدى الفسيح ثمة آلاف الفلسطينيين، ينتظرون وصولنا تحت الحرارة اللاهبة لشمس الأغوار، وهم يرددون الهتافات. كانت جموع الشباب المندفعة نحونا، تعيدني إلى أيام الشباب الأولى.
يستقبلني الأهل والأقارب والأصدقاء بموجات متتالية من العناق، وأنا موزع المشاعر بين الفرح والدهشة والألم والذهول. ثمة دموع وأغان وزغاريد، ووجوه أراها للمرة الأولى، وقد احتجت إلى وقت غير قليل للتعرف إلى أصحابها، الذين لم يكونوا سوى أبناء إخوتي وأخواتي وأبناء عمومتي الذين ولدوا ثم أصبحوا شباباً وأنا في المنفى، ومنهم من دخل سجون الاحتلال مرة أو مرتين.
مع الأهل، كان الطفل الوسيم الذي يحمل اسمي. إنه حفيدي الأول الذي لا يتجاوز عمره عاماً واحداً. انتزعته من حضن أمه وقبلته وهو يرنو إلي في صمت واندهاش. بعد قليل، ارتسمت على ثغره ابتسامة. كم فرحت لهذا الحفيد الذي أراه للمرة الأولى! إنه الدليل الحي على أنني أستعيد حضوري هنا بعد انقطاع.
تنطلق بنا السيارات مخترقة شوارع أريحا (هنا أمضيت إحدى العطلات الصيفية وأنا طالب في المرحلة الثانوية أواخر خمسينيات القرن العشرين، مع أبي، وهو يشق شارعاً بالقرب من مخيم النويعمة للاجئين الفلسطينيين. كانت تطفو على ألسنة أهل المخيم، ذكريات حميمة عن مدن وقرى، لم يعد الوصول إليها ممكناً. كنت أتابع ذكرياتهم في حيرة وإشفاق، فلم يكن وعيي آنذاك قادراً على التدقيق في ما جرى). أتابع من نافذة السيارة، بيوت المدينة وقد تكاثفت من حولها أشجار البرتقال والليمون. لم تتبدل أريحا كثيراً، ويبدو أن سنوات الاحتلال الطويلة قطعت عليها فرص الازدهار، وأبقتها مجرد قرية كبيرة تعيش عزلتها في صمت.
تمضي السيارة في الشارع الذي يخترق سلاسل متراكمة من تلال لها طبيعة صحراوية، نقترب من مستوطنة "معاليه أدوميم" التي أقيمت على أراضي الخان الأحمر لتسد الأفق الشرقي للقدس. هنا تحت المستوطنة توجد بقعة من الأرض، اسمها "خلّة مصر".
قال لي أبي إن عشيرة الشقيرات أقامت مضاربها فوقها في ثلاثينيات القرن العشرين، قال: كنا نرحل من البرّيّة مع أغنامنا، ونأتي إليها بحثاً عن العشب ومياه الآبار. قال إنه تزوج بأمي فوق هذه البقعة من الأرض.
أمي قالت إن أبي رآها وهي تحصد مع أهلها حقل القمح، فأعجب بها ووقع النصيب. كانت صبية جميلة في الثالثة عشرة من عمرها، وأبي كان في الثامنة والعشرين. خطبها ثم تزوجها بعد طلاقه من زوجته الأولى التي لم تعش معه سوى سنتين.
الآن تتربع مستوطنة فوق مكان الذكريات. قال لي أحد أقاربي إنه كان طفلاً حينما تزوج أبي بأمّي، وقال إنه ما زال يذكر تلك المناسبة كما لو أنها وقعت البارحة.
نجتاز الأماكن مسرعين، ونقترب من حي "الصلعة" الذي تحيط به جبال عدة. هنا، أقامت جدتي لأمي، التي شهدتُ لحظة موتها الأخيرة وأنا في العاشرة من العمر. كانت تذوي أمام أعيننا بسبب المرض، ولم يأخذها أحد إلى مستشفى أو طبيب. مجنون القرية، وهو أحد أقاربها، يجلس هادئاً قرب موقد النار في ذلك المساء الشتائي، يحمل بين الحين والآخر، جمرة بإصبعيه ليشعل سيجارة الهيشي، ثم يضحك، ويلقي علي أسئلة أجيبه عنها، فأشعر بالزهو لأنني أجري معه حديثاً سوف يحسدني عليه الأولاد. لكننا سندخل في مناكفة معه فيما بعد، وسوف نناديه: يا حسن المجنون، وسوف نهرب من أمامه والحجارة تئزّ من فوق رؤوسنا. ظلت جدتي تلح في طلب أصغر أبنائها، وكان لا يزال مقيماً عند جدي في البرية، راعياً لقطيع أغنامه، وبعد أن أسلمت الروح بدقائق معدودات، وصل ثم أسلم نفسه للبكاء. جدتي عاشت حياة مليئة بالشقاء. عاشت وحيدة إلى أن أدركتها الوفاة.
نصل جبل المكبر، الجبل الذي وقف عليه الخليفة عمر بن الخطاب، حينما جاء من الجزيرة العربية قاصداً إيليا التي هي القدس. فلما أطل على المدينة، أطلق التكبيرة تلو الأخرى، فاكتسب الجبل اسمه منذ ذلك الزمان (ما زلت أتذكر المعركة التي وقعت على الجبل، وهي التي استوحيت من تفاصيلها أول قصة قصيرة نشرت لي في مجلة "الأفق الجديد" المقدسية عام 1962. تلك الليلة، أيقظتني أمي من نومي وهي مذعورة. حملنا بعض متاعنا، وغادرنا بيتنا على عجل، نحو حي "الجديرة" المحتمي بخاصرة "ظهرة صالح" من احتمالات وصول الرصاص الطائش إليه. أقمنا هناك طوال الليل، أما الرجال، فقد ذهبوا للقتال ببنادق قديمة. لم ينقطع صوت الانفجارات وإطلاق الرصاص. وقبيل حلول الفجر، جاءنا رجل يصيح: اليهود يتقدمون نحو الحي. انطلقنا مهرولين إلى جهة الشرق. اجتزنا "وادي الديماس". رأيت امرأة من نساء عشيرتنا تسقط على الأرض تحت وطأة ما تحمله على ظهرها من متاع، صاحت تطلب العون من نساء أخريات، ولم تظفر بأي عون، أشفقت عليها وتلكأت في مشيتي، فانتهرتني أمي. وسيظهر هذا المشهد في واحدة من قصصي بعد سنوات. وصلنا إلى بيوت أقاربنا في حي "الحَزيم" الواقع على مشارف البرية. بعد ساعات جاءنا خبر استشهاد رجلين من الأقارب، وكانت أمي استقرت بنا في بيت أحدهما، فخرجنا إلى ظل صخرة في الجوار، ونمنا هناك في العراء ونحن نشعر بذل لم نألفه. كانت معلوماتي عما يحدث في البلاد ضئيلة، وكنت أصغي إلى أحاديث النسوة وهن ينظرن نحو جبل المكبر في المدى البعيد نحو الغرب. أدركت وأنا في السابعة من العمر، أننا نتعرض لأذى غير قليل. التحق بنا أبي بعد يومين أو ثلاثة، فانتقلنا إلى ذلك البيت في جبل أبو مغيرة، المكون من غرفة واحدة، وأقمنا فيه في حالة من القلق وعدم الاستقرار. ذات ليلة، استيقظت على أبي وهو يطلق الرصاص من مسدسه، لأنه رأى في العتمة الشاحبة لصاً يحاول التسلل إلى داخل البيت من شباك مفتوح على حر الصيف. بقيت طوال تلك الليلة متأرقاً خائفاً، فيما أصوات القذائف والرصاص القادمة من معركة بعيدة، ترن في أذني.كان بيتنا في الجبل قريباً من مواقع الخطر، ولم نعرف متى نستطيع العودة إليه).
على الهضاب القريبة، تتبدى أمام عيني القدس.
أتأمل، وأنا في الطريق إلى البيت، قبة الصخرة والحرم القدسي، والأحياء السكنية المتجمعة على نفسها داخل سور المدينة.
هنا كانت لي حياة قطعها ذلك القرار الذي قضى بإبعادي من البلاد.
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار


.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها




.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع


.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض




.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا