الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ الأوبئة(5) من الطاعون إلى كوفيد 19(ب)

عبد المجيد السخيري

2020 / 6 / 9
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات


لقد أشرنا في الجزء الرابع إلى أن الأوبئة تحدث إما من منشأ بكتيري أو طفيلي، وإما من منشأ فيروسي. ونود أن نضيف هنا أنه غالبا ما يتم تصنيف الأمراض الوبائية إلى أربع عائلات أساسية: الأولى تشمل الأمراض التي تصيب الجهاز الهضمي مثل الإسهال والسالامونيا والكوليرا وغيرها، وهي في الغالب تنتقل عبر المياه الملوثة بجراثيم البزار؛ الثانية تخص الأمراض التي تنجم عن الميكروبات التي تنتقل من شخص إلى آخر باستنشاق الرذاذ الحامل للعدوى المتطاير في الهواء أثناء السعال والعطس أو ما يقع منه على أطعمة أو مواد أخرى، مثل الدفتيريا، والأنفلونزا والحصبة والسل.. إلخ؛ والثالثة تهم الأمراض المتنقلة جنسيا مثل السيدا والزهري وفيروس الورم الحليمي البشري والتهاب الكبد "ب" وغيرها؛ ثم أخيرا العائلة الرابعة وتشمل الأمراض المنتشرة عن طريق لسعات أو عضات الحيوانات والحشرات كالبراغيث والقمل والقرادة والبعوض، مثل الملاريا والحمى الصفراء وحمى الضنك... إلخ.
وسنتعرف في الجزء الخامس على النوع الثاني من الأوبئة كان المنشأ الفيروسي التي تجمع بين أمراض مختلفة تنتمي أغلبها إلى العائلات الثلاث الأخيرة.

ثانيا: الأوبئة ذات المنشأ الفيروسي

إذا كانت البكتيريا كائنات حية دقيقة أحادية الخلية لا تُرى إلا بالمجهر، منها ما يضر ومنها يفيد في هضم الطعام أو القضاء على كائنات أخرى مسببة للأمراض، فإن الفيروسات هي كائنات أصغر من الخلايا أو عبارة عن "كبسولات تحتوي على مواد وراثية"، تتكاثر بمجرد ما تغزو خلايا الجسم و"تسيطر على الآلية التي تجعل الخلايا تعمل، ويتم تدمير الخلايا المضيفة غالبا في نهاية الأمر خلال هذه العملية"، وهي لذلك تتسبب في العديد من الأمراض، منها المتنقلة والمعدية، ومنها الأمراض العادية، كالأنفلونزا بأنواعها المختلفة، ونزلات البرد والجدري والإيدز والإيبولا والحصبة وغيرها. وقد أدت بعض هذه الأمراض بتحولها إلى أوبئة وجوائح إلى هلاك الملايين من البشر على مر الأزمنة، بعضها استطاع العلم محاصرتها واحتواءها بفضل اللقاحات، وبعضها لا يزال يعاود الظهور، بينما ظهرت فيروسات جديدة أو فيروسات معروفة شهدت طفرات وصارت أشد فتكا، بقدر ما أضحت ملغزة، كما هو الحال اليوم مع فيروس كرورنا المستجد، أو أيضا مع باقي الفيروسات التاجية التي سبقته بسنوات قليلة. في هذا الجزء سنستعرض بعجالة أهم الأوبئة والجوائح ذات المنشأ الفيروسي، بعدما تعرفنا على أهم الأوبئة ذات المنشأ البكتيري والطفيلي في الجزء الرابع.

1- الجدري

إنه واحد من أشهر وأقدم الأوبئة في تاريخ الانسانية، وهو مرض معد وفتاك يصيب جميع الفئات العمرية والجنسية. وتفيد بعض الروايات أنه ربما ظهر لأول مرة في مصر قبل نحو ثلاث آلاف سنة، وكان سببا في هلاك ملايين من البشر حيث أنه انتشر في جل أنحاء العالم، وظل سببا للوفيات الأكثر شيوعا حتى وقت غير بعيد. وتشير بعض التقديرات إلى أنه قتل 30 % من المصابين بينما تذهب أخرى إلى أنه أهلك ما بين 300 إلى 500 مليون شخص على مر الزمن وفي مناطق مختلفة. ويرجع سبب المرض إلى فيروس الفاريولا Variola virus(المشتق من كلمة Varus اللاتينية وهي مرادف "البثرة")، ومن أعراضه الطفح الجلدي المرفوق بآلام في الجسم، وارتفاع درجة الحرارة وبثور بها سائل تظهر على الوجه وأنحاء مختلفة من الجسم تخلف ندوبا كبيرة حتى في حالة الشفاء. وقد جلب الأوروبيون هذا الوباء في أواخر القرن الخامس عشر مع أمراض جديدة أخرى بحلولهم لأول مرة بالقارة الجديدة، أمريكا، حيث لعب دورا كبيرا في تعبيد الطريق أمام استيطان المناطق التي أفرغها الوباء الفتاك في مدة قصيرة، إذ قضى على نحو 90 % من السكان الأصليين من الهنود الحمر من 1518 إلى حوالي 1650، وكان سببا في انهيار حضارة الأزتيك بالمكسيك. وتذكر مصادر تاريخية أن الوباء كان يتسبب في مقتل نحو 400 ألف سنويا بأوروبا مع نهاية القرن 18، ولم يمنع اكتشاف لقاح مضاد للمرض نحو عام 1796، والذي يعتبر أقدم اللقاحات المبنية على أساس علمي، من انتشار الوباء في كل مكان حول العالم حتى أنه قضى على نحو مليوني شخص سنة 1960. وكانت آخر مرة يظهر فيها المرض من جديد هي سنة 1977 في الصومال قبل أن تعلن منظمة الصحة العالمية سنة 1980 عن استئصال هذا المرض بشكل نهائي بعد تطوير لقاح فعال يمنع كليا ظهوره بشل قدرة الفيروس على تغيير جيناته المضادة. وأوردت بعض المصادر أن أول طريقة تقليدية للعلاج ظهرت في الصين قبل ألف عام، فيما ترجح أخرى أن أتراك الأويغور بتركستان الشرقية هم أول من توصل إلى تلك الطريقة لعلاج الجذري قبل الصينيين وتوارثها الأتراك. وقد أشارت زوجة سفير بريطاني لدى الدولة العثمانية في القرن 18 في إحدى رسائلها إلى تلك الطريقة الأقرب إلى الأسلوب العلمي في بناء اللقاح، وهي أخذ مواد من جلد المصابين ووضعها على خدوش سطحية بذراع الشخص لتحصينه من المرض، وهي الطريقة التي شاعت في بقية بقاع العالم قبل أن يطور الطبيب الفرنسي "إدوارد جينر" جدري البقر ليستخدمه لتطعيم الأشخاص ضد المرض، ممهدا بذلك الطريق لوضع لقاح علمي فعال ساعد على الحد من انتشار المرض.

2-الحمى النزفية Cocoliztli

هو الاسم الذي أطلقه جماعة الهنود الحمر الناهواس nahuas على المرض الذي ضرب المكسيك إبان القرن 16. فبين 1519 و1600 حصل انهيار ديموغرافي مريع حيث تدهور عدد السكان الأصليين من 15 مليون إلى مليونين، أي بحوالي 80 %، بسبب سلسلة أوبئة ضربت البلاد بداية من الجدري والحصبة ثم الحمى النزفية الفيروسية التي من المحتمل أن تكون ناجمة عن بكتيرياSalmonella enterica Paratyphi. وترجع تسمية المرض في اللغة الأصلية للأزتيك nahuati إلى جمع جذر نواة "الكوكو" بمفهوم المرض، حيث أنها في الأصل كانت تدل على المرض أو وباء الطاعون، وكانت تطلق تسمية cocoliztles على جميع الأوبئة في القرن 16 إلى أن صارت تدل بشكل حصري على الحمى النزفية، وعُدت أسوء وباء في تاريخ البشرية بعد "الطاعون الأسود" الذي ضرب أوروبا نهاية القرن 14. وأوردت المصادر التاريخية أن الموجة الأولى من الوباء وقعت في 1545 مخلفة نحو 15 مليون وفاة، والثانية في 1576 وأودت بحياة مليوني شخص. ومن أعراض المرض، الحمى المرتفعة وآلام الرأس والنزيف عبر الأنف والفم والعين، وهو معد وقاتل. وقد تمكن فريق من الباحثين الألمان بمعهد ماكس بلانك لعلوم تاريخ الانسان ومعهد العلوم الأثرية بجامعة Tübingen من تحديد طبيعة هذا المرض، بعدما ظل الاعتقاد بأن الأوروبيين هم نقلوا المرض إلى أمريكا، حيث توصل من خلال تحليل الحمض النووي لهياكل عظمية تعود إلى تلك الحقبة إلى احتمال أن يكون سبب المرض هو تنويعة البكتيريا المعروفة ب salmonella enterica.

3-الحمى الصفراء

هذا الوباء من منشأ فيروسي، وهو معد ينتقل إلى الانسان عن طريق البعوض، وقد أودى بحياة الملايين من الأشخاص عبر العالم، وأصل تسميته بالحمى الصفراء يرجع إلى أنه يؤدي إلى اصفرار الجلد نتيجة النزف الداخلي والفشل الكبدي. ومن بين ما يذكره التاريخ أن انتشار هذا الوباء كان، إضافة إلى المقاومة، وراء خروج فرنسا في عهد نابوليون من هايتي ومن ثم من أمريكا الشمالية، ما أتاح للولايات المتحدة اكتساب مزيد من النفوذ والقوة. فقد تلقت القوات الفرنسية هزائم متتالية على يد المقاومة حيث قتل المئات من الجنود، بينما تكفل الوباء بسحق الباقي، منهم حوالي خمسين ألف بين جنود وضباط وأطباء وبحارة، ولم يعد إلى فرنسا سوى ما يناهز ثلاثة آلاف، وبذلك يكون الوباء قد قضى أيضا على طموحات وخطط فرنسا الاستعمارية في شمال القارة الأمريكية. ويزعم بعض المؤرخين في هذا الباب أن الأوروبيين لم يكونوا محصنين طبيعيا من هذا المرض لأنه من أصول إفريقية، وهو تفسير لا يخلو من تلميحات عنصرية. ففي سنة 1793انتشر الوباء في فيلاديلفيا، عاصمة الولايات المتحدة في ذلك الوقت، وأدى إلى وفاة حوالي خمسة آلاف من الأشخاص في أقل من أربعة أشهر، وتزامن ذلك مع فصل الصيف الحار والرطب، وهو المناخ الملائم لانتشار حشرة البعوض التي يتنقل بواسطتها المرض، بحيث لم يتراجع الوباء إلا مع حلول فصل الشتاء التي تقل فيه هذه الحشرة. ومن بين الكوارث التي حدثت في هذه الفترة هو تجنيد العبيد الأفارقة لرعاية المرضى على أساس أنهم محصنين من المرض. وإلى اليوم لا تزال الحمى الصفراء منتشرة في مناطق عدة من إفريقيا وأمريكا الجنوبية، وإن كانت الإصابات تظل أقل خطورة، وهي تقدر حسب بعض التقارير بنحو 200 ألف، فيما يموت منها حوالي 30 ألف سنويا عبر العالم. وقد شهدت زيادة في العقدين الأخيرين بسبب ضعف المناعة والتغيرات المناخية والتغير العمراني المستمر ، مع أن لقاحا فعالا من شأنه حماية الأشخاص من الإصابة.

4-الطاعون البقري La peste bovine

يتعلق الأمر بنوع مختلف من الطواعين القاتلة. فهو مرض من منشأ فيروسي يصيب الحيوانات ولا يؤدي إلى قتل الانسان بشكل مباشر، وقد يؤدي إلى نفوق نسبة هائلة من المواشي التي يصيبها. فما بين 1888 و1897 قتل الفيروس 90 % من القطيع الإفريقي وتسبب ذلك في انتشار المجاعة على نطاق واسع وأدى إلى تدمير التجمعات الأهلية بالقرن الإفريقي وإفريقيا الغربية وجنوب غرب القارة، كما أدى إلى موجات من الهجرة والهروب من المناطق الموبوءة، وأصيبت المناطق الزراعية أيضا بأضرار فادحة من جراء انتشار الوباء وهلاك الحيوانات التي يتم الاستعانة بها في عمليات الحرث والنشاط الزراعي عامة. ويقول بعض الباحثين أن الوباء ساهم في تسريع الاستعمار الأوروبي لإفريقيا، بعدما كانت دول أوروبية استعمارية، مثل المملكة المتحدة وفرنسا وبلجيكا وألمانيا والبرتغال وأخرى، قد عقدت مؤتمرا ببرلين بين 1884 و1885 للبحث في تقسيم القارة الإفريقية بينها قبيل انتشار الوباء الذي سهل الأمر أمامها لاحتلال مساحات واسعة من أرجاء القارة نهاية القرن التاسع عشر، بعدما كانت الخطط جاهزة سنوات قبل ظهور المرض وانتشاره وعل إثر الانهيار والفوضى الناجمين عن انتشاره، بحيث أنه بنهاية القرن التاسع عشر أصبحت 90 % من إفريقيا تحت السيطرة الأوروبية. وهكذا سيفاقم الاستعمار من معاناة الأفارقة مع المجاعات والأمراض والأوبئة ويعمق أكثر استغلالهم الاقتصادي ونهب ثروات بلدانهم. وحسب بعض المصادر فإن المرض يرتبط بتربية الماشية منذ القديم، ويرجح أن يكون قد ظهر أول مرة بأوراسيا الشرقية ثم انتقل إلى الشرق الأوسط وأوروبا ثم إفريقيا وآسيا. ويعتبر ثاني مرض يعلن عن اختفائه بعد الجدري من قبل منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة(الفاو ) سنة 2011.

5-الإنفلونزا

الأنفلونزا La grippe مرض معدي ومتنقل متردد ينتج عن أربعة أنواع من الفيروسات تصنف إلى AوBو CوD . والأنفلونزا الموسمية أو influenza تتكون من فيروسين من فصيلة A على العمومH1N1 و H3N2، ومن فيروس من فصيلة B، ومن أعراضها الحمى المرافقة بالسعال والتهاب البلعوم، وغالبا ما تزول بعد بضعة أيام، غير أنها يمكن أن تتطور نحو عدد من المضاعفات، مثل الالتهاب الرئوي أو التجفيف فتؤدي إلى وفاة المصابين الأكثر هشاشة، وهي تصيب أنواعا من الحيوانات والطيور إضافة إلى البشر. وتعني الأنفلونزا المشتقة من اللغة الإيطالية، "التأثير"، وقد وردت بهذا الاسم في الأدبيات العلمية بداية من 1650. وهي مرض فيروسي ناتج عن فيروس صغير يتميز بقدرته الفائقة على التحور من خلال الطفرات والتبادل الجينيين، ما يجعل من الصعب تطوير لقاح فعال للوقاية منه. ورغم أن الأنفلونزا تعد مرضا عاديا لا يبعث على الخوف ويصاب به الملايين من البشر سنويا، إلا أنها في الحالات الصعبة تتسبب في الإنهاك أو الوفاة، إذا لم يتذكر الجهاز المناعي الفيروس ويقاومه بإنتاج الأجسام المضادة. والأخطر أن فيروسات الأنفلونزا من الأنواع المختلفة يمكن أن تتحور وتتغير مع مرور الوقت فتنتج فصيلة جديدة أو نوعا فرعيا مختلفا عن السابق، وهي التي يمكن أن تتحول إلى وباء معدي يفتك بالملايين، وهو ما حدث في التاريخ لمرات عديدة حيث لا يزال ذلك يثير إلى اليوم ذكريات أليمة، كما هو الشأن مع انفلونزا 1918 المعروفة بالإسبانية، بسبب قوة الانتشار والعدوى والفتك، لانتفاء المناعة أو ضعفها. وسنتعرف الآن بعجالة على أهم الأوبئة والجوائح المرتبطة بفيروسات الأنفلونزا.

أ-انفلونزا 1580

إذا كان من الصعب أن نحسم اليوم تاريخا محددا لظهور الأنفلونزا، فإن بعض الروايات تفترض أنه ربما تكون قد انتشرت بين الجنود اليونانيين إبان الحرب البيلوبونيزية في العام 430 ق. م. لكن أغلب المصادر التاريخية تتفق على أن أول وباء إنفلونزا رصد في صيف 1580 بآسيا، وانتشر عبر الطرق التجارية إلى أوروبا ثم أمريكا الشمالية، وتُجهل حتى الآن أعداد ضحاياه في العالم، فيما تورد بعض الكتب رقم ثمانية آلاف حالة وفاة بروما وحدها.

ب-الإنفلونزا الإسبانية La grippe espagnole ou Influenza

يقال أنها قد تكون أسوأ كارثة صحية في التاريخ الحديث، وجاءت لتذكر الناس بالطاعون الأسود التي ضرب بشدة القارة العجوز نهاية القرن 14. فقد أصابت الأنفلونزا بين عامي 1918 و1919 نحو ثلث سكان العالم، أي حوالي 500 مليون شخص، فيما أودت بحياة ما بين 50 إلى 100 مليون خلال 15 شهرا من مارس 1918 إلى ماي 1919. وتحدث الوفاة بسبب نزيفي رئوي حاد أو التهاب رئوي ثانوي.
ورغم أنها انطلقت من الولايات المتحدة الأمريكية قبل أن تنتشر بأوروبا، إلا أنها اشتهرت بالأنفلونزا الإسبانية، والسبب ببساطة أن الجرائد الأوروبية التي نشرت أخبار الجائحة هي من أطلقت عليها هذا الاسم من باب التمويه والتستر على الوضع الداخلي للبلدان المشاركة في الحرب العالمية الأولى، ولأن المعلومات المتوفرة حولها كان مصدرها الأساسي إسبانيا المحايدة أثناء الحرب التي سمحت للصحافة بنشر الأخبار حول الجائحة وضحاياها، فيما الدول المشاركة في الحرب ضربت حصارا شديدا على الأخبار المتعلقة بانتشار الوباء للحفاظ على معنويات جيشوها وحرمان العدو من استغلالها لفائدته. وتذهب بعض الروايات إلى نسبة نشوء المرض إلى الصين دائما الذي انتقل منها إلى أمريكا الشمالية ثم أوروبا، لكنها رواية ضعيفة لغياب أي دليل علمي حتى الآن. وقد كشفت الدراسات التي أجريت فيما بعد على هذه الجائحة أنها نتجت عن فيروس H1N1 الذي أصاب الشباب والبالغين، على خلاف فيروسات الأنفلونزا الأخرى التي تصيب كبار السن والأطفال بشكل رئيسي دون أن يحدث مشاكل في الجهاز المناعي، فيما يفترض أن الكبار اكتسبوا مناعة من فيروسات سابقة. ويعود لهذا الوباء الفضل في اكتشاف أهمية إجراءات التباعد الاجتماعي المعروفة اليوم بحيث أن المدن التي أوقفت الأنشطة العمومية من احتفالات وتجمعات عامة كانت أقل تضررا من حيث عدد الإصابات والوفيات، بينما تلك التي لم تتخذ مثل هذا الإجراء شهدت أسوء الأرقام، مثلما حدث بمدينة فيلاديفيا بسبب تنظيم مسيرة حاشدة لدعم جهود الحرب، كما أن الوباء لعب دوراً في إنهاء الحرب التي دامت أربع سنوات.
من أشهر المصابين بالفيروس، الرئيس الأمريكي ويلسون، والكاتبين الفرنسيين غيوم أبولينير وإيدموند روستاند، والفنان النمساوي إيغون شييل وعالم الاجتماع الألماني الشهير ماكس فيبر.

ج-الإنفلونزا الآسيوية 1957-1958

ظلت الإنفلونزا تتردد باستمرار بعد جائحة 1918، لكنها لم تأخذ شكلا وبائيا جديدا إلا مع حلول سنة 1957، وبالتحديد في شهر فبراير، حيث برزت أدلة موجة من الإنفلونزا بدأت من الصين أول مرة سنة 1956حيث رصدها أطباء من خلال تقارير كشفت أن وياء على وشك الوقوع، وعندما حصلوا على عينة من الفيروس تأكد لهم أنه من نوع H2N2. والأنفلونزا الأسيوية هي من منشأ فيروسي له علاقة بالطيور، وأودت بحياة نحو مليونين شخص سنتي 1957-1958، فيما بعض التقديرات تقول أن الوفيات وصلت إلى أربعة ملايين عبر العالم، خاصة بين الشباب، بينما كان كبار السن محصنين مما اكتسبوه من فيروس سابق من نفس نوع H2N2. الفيروس ناتج عن تحور من البط البري ومن فصيلة بشرية للأنفلونزا، وقد انتشر في سنغفورة ثم هونغ كونغ، وفي ظرف بضعة أشهر وصل إلى الولايات المتحدة وبعدها تقدم إلى بقية دول العالم عبر الطرق البرية والبحرية، قبل أن يتوقف بصورة طبيعية. وقد تطورت فصيلته لاحقا إلى H3N2 المستضدي مسببة جائحة هونغ كونغ الشهيرة في أواخر الستينيات.

د-إنفلونزا هونغ كونغ 1968-1969

بعد عشر سنوات على الأنفلونزا الآسيوية ظهرت علامات أولى لفصيلة جديدة لأنفلونزا A في آسيا مرة أخرى، وتحديدا تم التعرف على المرض بهونغ كونغ التي أصاب بها نحو نصف مليون شخص، أي 15 % من سكان المستعمرة البريطانية السابقة، ومن ثم أصبحت تعرف بهذا الاسم، رغم أن الفيروس ظهر بوسط الصين في شهر فبراير من عام 1968، ثم انتشر في بلدان آسيا ووصل إلى أمريكا نهاية 1968، قبل أن يحط الرحال بأوروبا خلال شتاء 1968-1969. وتقدر بعض المصادر ضحايا الوباء بنحو 1.4 مليون حالة وفاة، وكان ذلك ثالث وباء للأنفلونزا يحدث في القرن العشرين. ويعتقد أن فيروس الأنفلونزا الأسيوية تطور وعاد إلى الظهور، لأن فيروس أنفلونزا هونغ كونغ H3N2 احتوى على نفس مكون -N2 الموجود بفيروس الأنفلونزا الأسيوية، ما سهل مقاومته وساعد على إنتاج لقاح للوقاية منه ولو أنه تأخر قليلا. ومن أهم ما ميز الفيروس الأخير أنه شديد العدوى(أصاب حوالي 500 ألف في غضون أسبوعين فقط من رصد أول حالة في هونغ كونغ) ولكنه أقل فتكا مقارنة بالأنفلونزا الاسبانية، وكان أكثر من ساعد على تطوير اللقاح المضاد للفيروسات.

ه-إنفلونزا الطيور

مرة أخرى يفاجأ العالم بانتشار فيروس جديد من آسيا اشتهر بأنفلونزا الطيور ، ويتعلق الأمر بخاصة بالنمط الفرعيH5N1 بعدما أصيبت الطيور بعدواه وانتقل منها إلى البشر، وهو أخطر أنوعا فيروسات أنفلونزا الطيور، بينما تعد أنماطه الفرعية الأخرى مثل H7N7 و H9N2 أقل خطورة في أغلب الأحيان رغم أنها كانت خطيرة ومميتة في بعض الحالات. ولأنه لا ينتقل بين البشر، فقد سهل ذلك محاصرة الفيروس الجديد، خاصة بعد عملية التدمير التي شملت أسراب الدواجن في عدد من الدول. وظهر الصنف شديد الإمراض من الفيروس H5N1 في مقاطعة هونغ كونغ عام 1997 وبأقل إمراضا في أمريكا الشمالية. وأشد موجات تفشي الفيروس حدثت عامي 2003 و2004 عندما أدت إلى نفوق عشرات الملايين من الدواجن والطيور المائية، بعدما انتقل الفيروس إلى أفريقيا أمريكا الشمالية وبعض دول أوروبا. ويظل خطر هذا الفيروس قائما إذا ما نشأت فصيلة جديدة منه قاتلة تنتقل بين البشر وتتحول إلى وباء. ويحدث هذا النوع من الأنفلونزا بسبب نوع من الفيروس تطور وتكيف في أجسام الطيور المصابة غالبا من الأنواع الثلاثة لفيروس الأنفلونزا A و B و C، لكن النوع الأول هو الأكثر ارتباطا بالمرض المعروف بأنفلونزا الطيور. نادرا ما يحدث انتقال الفيروس بين البشر، وتبدأ الأعراض في الظهور من يومين إلى سبعة أيام من التقاط العدوى، وهي في الغالب تشبه أعراض الإنفلونزا العادية مثل الحمى والسعال والتهاب الحلق وآلام العضلات والصداع وضيق التنفس. ولا يزال الحذر قائما من احتمال وخطر تحور الفيروس إلى شكل قابل للتنقل بين البشر مما من شأنه أن يؤدي إلى حدوي تفشي عالمي.

و-إنفلونزا الخنازير 2009

بعد سنوات قليلة من تفشي فيروس أنفلونزا الطيور ظهر بؤرة وبائية جديدة لنوع آخر من الأنفلونزا بالمكسيك منتصف شهر مارس/ آذار 2009 مخلفة موجة من الذعر بسبب ارتفاع غير عادي من معدلات الوفاة، ثم ظهور حالات إصابة بالولايات المتحدة. ومع استمرار انتشار الفيروس تمكن العلماء من تحديد نمطه الفرعي وهي H1N1 من نوع A مع ترجيح أن يكون مصدره الخنازير لأنه رصد أول بين أشخاص يعملون في مزارع تربية الخنازير، وقد ظهرت أعراض المرض مثل أعراض باقي أنواع الأنفلونزا الأخرى، من حمى وألام في الجسم والسعال والتهاب في الحلق وسيلان في الأنف واحمرار في العيون. ومع أن الوباء انتشر بشكل سريع إلا أنه لم تظهر بنفس الحدة التي وصفتها التقارير المكسيكية الأولى. وقد تبين أنه كان أقوى تأثيرا بين الأطفال والشباب مقارنة بالأنفلونزا الموسمية التي تهدد أكثر المسنين. أما بخصوص الضحايا فقد تفاوتت التقديرات ما بين 18 ألف حالة وفاة مؤكدة مخبريًا وردت في تقارير منظمة الصحة، وبين تقديرات أخرى ترى أن العدد ربما وصل إلى عشرة أضعاف الرقم السابق، ما بين 151 ألف و575 ألف، وذلك من بين نحو 1.4 مليار شخص أصيب عبر العالم. وقد أعلنت المنظمة أن الوباء تحول إلى جائحة بعدما تفشى في عدد من الدول وظهرت قدرته على التحور السريع، غير أنه تم التمكن من احتواء الفيروس بعد انتاج اللقاح في مدة وجيرة (دجنبر 2009).

6-السيدا أو داء فقدان المناعة المكتسبة

يعتبر مرض الإيدز الجائحة الصامتة العالمية للقرن العشرين الذي يقتل سنويا نحو ثلاثة ملايين شخص، بينما يصاب نحو 1,8 مليون سنويا برغم الجهود الوقائية. وقد أدى منذ رصد أولى حالاته إلى وفاة أزيد من 36 مليون شخص عبر العالم، أغلبها تتركز في أفريقيا وآسيا، وهو نفس العدد أو يزيد بقليل الذي يوجد من المصابين، منهم حوالي 23,3 ميلون يتلقون العلاج، فيما أزيد من سبعة ملايين منهم في جنوب إفريقيا وحدها. ويتعلق الأمر بواحد من أشد الأمراض إثارة للرعب في عصرنا، قبل ظهور فيروس كوفيد 19 لغياب أي علاج فعال أو لقاح يحمي من الإصابة، وهو مرض ناتج عن فيروس نقص المناعة البشرية HIV(virus de l immunodéficience humaine) يفرض على المصابين به التعايش القسري معه إلى النهاية المحتومة، مع كل ما يفرضه من تغيير في العادات الوقائية اليومية وتناول الأدوية باستمرار، وهو بحسب منظمة الصحة العالمية مرض معد وشديد التعقيد وأكثر فتكا مما تواجهه الانسانية حتى الآن، وبرغم خصوصيته التي تجعل السيطرة على انتشاره ممكنة في حال الالتزام بقواعد واضحة للوقاية، طالما أنه ينتقل غالبا عن طريق الاتصال الجنسي أو الدم المصاب أو من الأم الحامل قبل وبعد الولادة. وقد ظهر لأول مرة بالكونغو الديمقراطية عام 1976 وانتشر منها إلى باقي دول العالم، وذاع صيته سنة 1982 بالولايات المتحدة الأمريكية بعدما أطلق "مركز أطلنتا للمراقبة والوقاية من الأمراض" في يوليو 1981 تحذيرا إثر معاينة حالات ضحايا يشكون من نقص مناعي غير مفهوم، وسرعان ما تم اكتشاف السر. وفي السنة الموالية أصبح معروفا على نطاق واسع بمرض "السيدا"، وهو الاختصار الذي يعني متلازمة نقص المناعة المكتسبة أو متلازمة الاكتئاب المناعي المكتسب syndrome d immuno-dépression acquise . وحتى تلك السنة كان المرض يوصف ب gay syndrome لأنه بداية رُصد بين المثليين، أو أيضا بمرض H4 نسبة للحرف الأول ل: homosexuels, héroïnomanes, hémophiles et Haïtiens، ولم يكن قد حُدد بدقة وبالاسم الذي سيطلق عليه فيما بعد. بينما اكتشف الفيروس VIH في 20 ماي 1983 من قبل فريق وحدة الأنكولوجيا الفيروسية بمعهد باستور بإدارة البروفيسور لوك مونتانيي Luc Montagnier، لكن أحدا لم يتخيل أن المرض سيتحول إلى جائحة عالمية. وقد توصل العلماء عام 2014 إلى أن أصل المرض يعود إلى العشرينيات من القرن الماضي في مدينة "كينشاسا" الواقعة بجمهورية الكونغو الديمقراطية الحالية، حيث يعتقد أن الفيروس انتقل إلى الانسان من القردة. ورغم وجود أدوية تخفف من أعراض المرض وتطيل حياة المصابين، إلا أن جهود ابتكار لقاح فعال لا تزال تراوح مكانها دون نجاح يذكر.

7-السارس أو "الالتهاب الرئوي اللا نمطي الحاد"

ويعرف علميا بمرض المتلازمة التنفسية الحادة، المشهور ب"سارس" أو Sars-CoV ظهر في جنوب الصين، وبالتحديد في مدينة فوشان بمقاطعة غوانجدونغ في نونبر 2002 مصيبا حوالي 8096 شخصا فيما أودى بحياة المئات منهم، نحو 774 شخصاً في العالم وحوالي 350 في الصين، بعدما تحول إلى وباء وانتقل إلى حوالي 27 دولة في غضون أسابيع قليلة، كما تسبب في حالة من الهلع والذعر، خاصة في القارة الأسيوية وكندا، وحذرت منظمة الصحة العالمية بداية من مارس 2003 من السفر إلى مكان وظهور المرض الذي وصفته بأنه يشكل "تهديدا عالميا". لكن سرعان ما تم احتواء الوباء في سنة 2003، وتحديد بداية من شهر يوليوز، بعد إغلاق الصين لسوق الحيوانات البرية التي يعتقد أيضا أنه انتقل منها إلى البشر حسب بعض التقارير. ولم يتم رصد أي حالة إصابة بالمرض منذ 2004، فيما يخشى الاخصائيون من وجود فيروس نائم لدى حيوانات من شأنه أن ينتقل إلى البشر في المستقبل فيتحول إلى وباء فتاك، حيث كشفت سرعة انتشار الوباء حقيقة أنه في عالم مترابط تجاريا وكثيف الاتصال يتزايد الخطر في تحول أي فيروس معدي إلى جائحة عالمية بسرعة غير متوقعة، وهذا ما حدث بالضبط مع فيروس كورونا المستجد، رغم أنه بالمقابل يوجد تعاون دولي مقبول يسمح بالتصدي للجوائح بشروط وإمكانيات أفضل مما كان في الماضي.
ينتج المرض عن أحد فيروسات كورونا السبعة، ويشبه تركيبه الوراثي تركيب فيروس كورونا الجديد بنسبة 90% تقريبا. وأولى أعراض المرض تشبه أعراض الأنفلونزا، مثل الحمى والصداع وآلام العضلات والقشعريرة والإسهال في بعض الحالات، ثم بعد حوالي أسبوع ترتفع حرارة الجسم إلى 38 درجة أو أكثر مع ضيق في التنفس والسعال الجاف. وكعدد من الفيروسات الخطيرة، يبدو أن الخفاش هو الحاضن الحيواني لفيروس سارس، بينما يعتقد أن المضيف هو الزباد المقنع الذي نقله إلى الانسان، وهو حيوان بري يباع في أسواق جنوب الصين.

8-ميرس أو متلازمة الشرق الأوسط التنفسية

متلازمة الشرق الأوسط التنفسية MERS-CoV مرض ناتج عن فيروس تاجي جرى اكتشافه عام 2012 في العديد من بلدان الشرق الأوسط، وقد أصاب أكثر من 2500 شخص، وهو يشبه "سارس" من حيث أنه يصيب الجهاز التنفسي، وأيضا أعراضه أقرب إلى بعض أعراض الأول، كالحمى والسعال، إلا أنه ليس معديا بنفس الحدة، بحيث أن سلسلة انتقال العدى تظل قصيرة ومنخفضة، وما تبقى من الحالات المتفرقة من المرض تنتقل عدواه من الإبل إلى البشر.

9-إيبولا Ebola Virus Disease

تم اكتشاف الموجة الأولى من هذا الفيروس أول مرة عام 1976 حين انتشر في منطقة "نزارا" بالسودان و"يامبوكو" بالكونغو الديمقراطية (زائير سابقا)، مصيبا الآلاف من الاشخاص، وقد سُمي باسم نهر إيبولا القريب من المنطقة التي تفشى فيها أول مرة، وعُرف سابقا باسم "حمى إيبولا النزفية" Ebola Hemorrhagic Fever . وتبين أن أعراضه تظهر ما بين يومين إلى ثلاثة أسابيع من الإصابة، مثل الحمى والصداع وآلام في العضلات والتهاب في الحلق والإسهال والتقيؤ، علاوة على تقلص وظائف الكبد والكلي التي يبدأ معها النزف وانخفاض ضغط الدم نتيجة فقدان السوائل، بينما يتوقف التعافي منه بشكل أساسي على استجابة المريض المناعية، شأن أغلب الفيروسات الفتاكة. هذا وقد تأكد أن الأشخاص الذين يتعافون من إيبولا يكتسبون أجساماً مضادةً تستمر لمدة عشر سنوات على الأقل. ومثل عدد من الفيروسات الوبائية الأخرى القاتلة، يرجح أن تكون الخفافيش أكلة الثمار هي مصدره فيما تولت بعض أنواع القدرة، كالغوريلا والشمبانزي، نقله إلى الانسان، إما عن طريق الدم أو الإفرازات أو سوائل جسمها، بينما ينتقل من انسان إلى آخر عن طريق الملامسة المباشرة لدم المصاب أو سوائل جسمه وإفرازاته، وكذلك الأسطح والمواد الملوثة بها. أما موجته الثانية فظهرت بغرب إفريقيا حيث بدأت أولى الاصابات بغينيا في دجنبر 2013، وحسب مصادر أخرى في مارس 2014، ثم انتشرت على الحدود البرية إلى ليبيريا وسيراليون، ثم انتقلت جوا نحو نيجيريا، وبرا نحو السنيغال ومالي بواسطة مسافرين، بل ووصل حتى الولايات المتحدة عن طريق مسافر واحد. وقد ظهر أنه فيروس مدمر سريع التفشي أودى بحياة أزيد من عشرة آلاف شخص من أًصل نحو 29 ألف مصاب إلى حدود 2016، ثم ضرب مجددا في موجة ثالثة جمهورية الكونغو الديمقراطية سنة 2018 مخلفا أزيد من 2200 حالة وفاة. ورغم أن انتشاره ظل محدودا مقارنة بباقي الأوبئة المشهورة على مر التاريخ، بسبب أن العدوى تحدث بالاتصال المباشر وليس عن طريق الرذاذ، إلا أنه اعتبر من أشد الفيروسات فتكا في التاريخ مقارنة بعدد الوفيات بين المصابين، فيما بلغت كلفة مكافحته ما يناهز 4,3 مليارات دولار، عدا الأضرار الاقتصادية التي ألحقها بالدول الثلاث التي تفشى فيها. وقد ساعد إخطار الأطباء المحليين أو البلجيكيين والفرنسيين المقيمين بالكونغو للسلطات ولمنظمة الصحة العالمية بتفشي المرض الجديد من احتواء موجهته الأولى بشكل سريع، ما يؤكد دور التضامن الدولي وسرعة التحرك في احتواء الأوبئة والجوائح.

10-أمراض فروسية أخرى

توجد أمراض فيروسية عديدة أخرى قد تأخذ أحيانا شكل وبائيا محدودا، مثل شلل الأطفال المعروف ب poliovirus أو Poliomyelitis، وهو مرض يمكن أن يكون قد وُجد منذ آلاف السنين، ينتقل عادة عن طريق الماء أو الطعام الملوثين، مثل الكوليرا، وهو ليس معديا، وينتج عن فيروس يهاجم الجهاز العصبي فيؤدي إلى الشلل حيث تظهر أعراضه بالخصوص على الساقين. وقد تفشى المرض في صورة وبائية محدودة في أواخر القرن 19 بالولايات المتحدة، وأصبح يتكرر ظهوره منذ العقد الأول للقرن الماضي ليبلغ ذروته في العقدين الرابع والخامس، مسببا في شلل أو وفاة أزيد من نصف مليون شخص سنويا عبر العالم. وبداية من 1950 تم تطوير لقاح فعال يحمي من الإصابة في غياب إمكانية العلاج، وفي 2015 أعلنت منظمة الصحة العالمية اختفاء الإصابات بالمرض في معظم دول العالم، ما عدا باكستان وأفغانستان.

وأخير كوفيد- 19 وليس آخرا

أطلقت منظمة الصحة العالمية اسم كوفيد 19 على المرض الذي يسببه فيروس كورونا بينما اللجنة الدولية لتصنيف الفيروسات (أي سي تي في) أطلقت عليه الاسم العلمي المعتمد في التقارير الطبية وهو SARS COV 2(اختصار للتسمية بالإنجليزية severe acute respiratory syndrome coronavirus 2)، وبُكتب أحيانا في الفرنسية SRAS-CoV-2، بينما ترتكز التسمية من الناحية العلمية على تحديد السلالة، بحيث تبين أن فيروس كورونا المستجد يتشابه إلى حد بعيد على المستوى الوراثي مع النموذج الأول للفيروسات التاجية التنفسية الحادة "سارس"، مع وجود بعض الاختلافات. بل ووجدت الدراسات حتى الآن أن ثم تشابه أيضا على مستوى المنشأ الذي يرجح أن يكون الخفاش الذي نقله إلى مضيف حيواني غير معروف حتى الآن قام بنقله إلى البشر، حيث أن كلاهما ينتشران عبر الرذاذ التنفسي عند السعال، أو عن طريق ملامسة الأجسام أو الأسطح الملوثة، وعلى نفس درجة الاستقرار في الهواء أو الأسطح المختلفة، كما أن بعض الأعراض متقاربة. وهو آخر نمط فرعي يتم رصده من نوع coronavirus SARSr-CoV، ومن النوع الفرعي Sarbecovirus من نوع Betacoronavirus3 والاختلاف البسيط هنا هو أن SARS-CoV كان أكثر حدة وأقل عدوى لقصر مدة الحضانة (من يومين إلى 7 أيام)، وأيضا لتوقف العدوى على ظهور عرض المرض مع وجود أعراض خاصة إضافية مثل الاسهال والقشعريرة، بينما كوفيد 19 عكسه تماما لطول مدة الحضانة التي تصل إلى أسبوعين أو أكثر في بعض الحالات، ولأن العدوى تحدث دون ظهور الأعراض المعروفة كالحمى الشديدة والسعال والالتهاب الرئوي اللاحق. وقد كشف تحليل الفيروس جينيا عن وجود وجه شبه بين الفيروس الحالي وفيروس آخر رصد عند الخفاش في 2013 في يونان(جنوب الصين)، وهو مطابق له بنسبة 96 %.
قاد تطور انتشار الفيروس منظمة الصحة العالمية إلى إعلان حالة طواري صحية دولية في 30 يناير 2020 ثم تسميته جائحة في 11 مارس 2020. ولا تزال هناك فرضيات عديدة بخصوص منشأه، بين من يعتقد أنه تحور من فيروس تاجي عند الخفاش معروف ليتحور بيسر ل RaTG13، وهو ما ذهبت إليه جامعة بينسلفانيا، وقد ظهر قريبه البشري بين 1948 و1982 ليصبح منذ ذلك معديا للإنسان مباشرة أو مرورا بمضيف حيواني، وبين يربط ظهوره بالألعاب العسكرية المنظمة بيوهان نهاية أكتوبر 2019، وهي رواية الصين وبعض الأوروبيين. وقد حددت السلطات الصينية أولى حالات الإصابة بيوهان في 8 دجنبر 2019 وأخبرت منظمة الصحة العالمية في نهاية الشهر بوجود بؤرة التهاب رئوي مجهولة المصدر. فيما رصدت دراسة طبية نشرتها مجلة "ذي لا نسيت" أول مصاب في الأول من نفس الشهر. وكثير من التقارير ترجح ظهور المرض ما بين بداية شهر نونبر وأواسط أو أواخر دجنبر، لكن العلماء أصبحوا يتحدثون عن سلف مشترك لفيروسات تتكاثر أو فيروس يشهد طفرات كلما انتقل من مكان إلى آخر. زمنيا هناك من يعتقد أنه ظهر عند الانسان نهاية شهر غشت/ أغسطس وبداية دجنبر، والاحتمال الأقوى في نونبر 2019، وهو الشهر الذي شهد إصابة شخص من منطقة Hubei والتي تم تشخيصها ارتجاعيا بعد خمسة أشهر. وبعد اتساع وتسارع تفشي الوباء في الصين صارت الفرضيات تتجه نحو سوق لفواكه البحر تباع فيه حيوانات برية للاستهلاك الذي سيتم إغلاقه فيما بعد. وبقية الحكاية معروفة اليوم، ولو أن حجرا ما يزال ينقص في هذه الحكاية، كما قال الباحث مرياديغ لو غويي، منسق الأبحاث حول أصل الجائحة بفرنسا، بل ربما هي أحجار. فمع توالي الضحايا حدث استنفار وسط الأطباء وقد بدأ يتضح أن الأمر يتعلق بفيروس معدي بينما السلطات تكتمت على المعلومة، حتى أن منظمة الصحة العالمية اعتبرت إلى حين أواسط يناير 2020 أنه لا يوجد دليل واضح على أن الفيروس ينتقل بين البشر. وكان على العالم الانتظار حتى تأكيد الصين رسميا للمعلومة التي تفيد أن الفيروس معدي من درجة عالية وتضع سكان يوهان البالغ عددهم 56 ميلون في الحجر الصحي لوقف تفشي الوباء. وفي أوروبا، وبينما أخذ الفيروس يتفشى في لومبارديا بشكل صامت، تسببت مباراة لكرة القدم جمعت بين فريق أطلنتا برغام والفريق الاسباني فالنسيا حضرها أزيد من 40 ألف بملعب سان سيرو الميلاني، في تسريع وتيرة التفشي، زيادة إلى تراخي السلطات في التعامل مع الوضع.
في وقت لاحق بدأت وسائل الاعلام تعرض حكايات مرضى سابقين قضوا وُصفت الأعراض التي ظهرت عليهم من قبل أفراد عائلاتهم بأنها نفس الأعرض السريرية لكوفيد 19، ولو أنها ظهرت قبل التعرف الرسمي على الفيروس الجديد، ما يطرح المزيد من الأسئلة حول خبايا المرض الجديد في غياب أي إجابة شافية وأدلة علمية محكمة ومقنعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجناح العسكري لحركة حماس يواصل التصعيد ضد الأردن


.. وزير الدفاع الروسي يتوعد بضرب إمدادات الأسلحة الغربية في أوك




.. انتشال جثث 35 شهيدا من المقبرة الجماعية بمستشفى ناصر في خان


.. أثناء زيارته لـ-غازي عنتاب-.. استقبال رئيس ألمانيا بأعلام فل




.. تفاصيل مبادرة بالجنوب السوري لتطبيق القرار رقم 2254