الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كراكيب فكرية

عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري

2020 / 6 / 12
التربية والتعليم والبحث العلمي


حادثة تعود إلى أحد أيام شهر آب/أغسطس صيف عام 1991 وكنتُ حينها صف ضابط احتياط -بعد شهور على تحرير الكويت- أجلس أمام باب خيمة عسكرية مشرعة من طرفيها من أجل نسمة ريح تُخفف من وقع اللهيب المتصاعد من حصى الصوان الذي ينضج في شمس البادية المحرقة. طافت بخاطري كلمات لا أذكر أين قرأتها عن أعرابي من بادية الشام قيل له: كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ وانتعل كل شيء ظله؟ قال: وهل العيش إلا ذاك، يمشي أحدنا فينضح عرقاً، ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه ويجلس في فيئه يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى.

حيَّاك الله أيها البدوي الهُمام أينما كنت الآن، أين نحن من أيام المدائن تلك؟ وأين نحن من إيوان كسرى؟ ها أنا ذا أيها الأعرابي أجلس أمام باب الخيمة بعد ان شلحتُ كسائي ورميته على سارية الخيمة أكتال الريح واستمعُ من خلال راديو ترانزستور صغير إلى حوار من إذاعة مونتي كارلو الدولية في فرنسا بين المذيعة اللبنانية الفاتنة كابي الطيف وضيفتها السورية المتمردة المقيمة في المكسيك إكرام أنطاكي. سألتها المذيعة عن الحب في حياتها فأجابت: كبري عقلك يا كابي، هذه سخافة.

صدمتني تلك المرأة. سألتها المذيعة عن المعرفة والكُتب، فقالت: اسمعي يا كابي لأكثر من عشرين عاماً وأنا أبحث عمَّا أريد حتى اهتديت إلى الكتب التي تصنع المعرفة كانت الطريق صعبة وشاقة. آلاف الكتب أمامك، والحياة قصيرة، عليك أن تتعلمي شراء الكتاب المناسب في الوقت المناسب وإلا تهت وضاعت حياتك. فأنا كل خمس سنوات على الأكثر أُدرك فجأة بأنني حمقاء حقيقة. أحمل الكثير من الكراكيب الفكرية في عقلي وأظن هذه الكراكيب نافعة. فأقول: يا لغبائي خمس سنوات وأنا أحمل هذه الكراكيب في رأسي كم انا حمقاء، كيف ذلك؟ علينا التخلص من كراكيبنا الفكرية بأسرع ما يمكن وإلا أصبحت أدمغتنا لا تصلح للتفكير المستقيم ويصبح تفكيرنا أعوج. لا بد من التخلص من هذه الكراكيب الفكرية وتنظيف عقولنا ومن ثمَّ يعود شغف بهجة المعرفة يتلبسنا من جديد.

فرحتُ بكلمة كراكيب التي استعملتها إكرام أنطاكي. ونحن في مدينة إدلب في الشمال السوري نستعملها في حديثنا اليوم ما نزال. نقول: أحسَّ بكركبة شديدة في معدته. ونقول لشخص لا يُحسن العيش: حياته مكركبة. وتسأل صديقك كيف أمورك؟ فيقول: مكركبة. وحياتنا في هذا الزمن الأغبر مكركبة بكل تأكيد. والكلمة عربية: كركب يكركب، كركبة، فهو مكركب، كركب الشخص: أحدث ضجّة وجَلَبة. كركب الحجرةَ: أفسد نظامَها ولخبطها. والكراكيب أشياء الحياة التي لا لزوم لها نحتفظ بها على أمل أن تلزمنا في يوم من الأيام. ومنها الكراكيب الفكرية التي تعيق تقدمنا في الحياة وتجعلنا نبدو في أعمار أكبر من أعمارنا الحقيقية، كما أنها تقف عائقاً في طريق كل ما نريد تحقيقه في الحياة.

من كراكيبنا الفكرية التي تعمي البصيرة وتجعل الزيف يطغى على الحقائق أنه مضى على صدور كتاب "أصل الأنواع " ما يزيد على قرن ونصف القرن ولا يزال أنصاف العلماء يتجادلون حول آليات ومقتضيات نظرية داروين، وليس حقيقتها، في حين أن معظم الجمهور لا يزال يتخبط في جهالة ما قبل الداروينية. واليوم لا يستطيع أحد أن ينكر أن كتاب أصل الأنواع قد أحدث انقلاباً حقيقياً، كثيراً ما يوصف بأنه أهم الثورات العلمية جميعاً.

في هذا الكتاب العديد من الشواهد المؤيدة لفكرة استمرار تطور الأحياء عبر الزمان. وفي العقود التالية لنشر كتاب أصل الأنواع اكتشف البيولوجيون مزيداً من الشواهد الدالة على أن هذا التطور قد حدث بالفعل. فهو حقيقة، والحقيقة في المعجمات: الشيء الثابت يقيناً، حقيقة الشيء: خالصه وكنهه. حقيقة الأمر: يقين شأنه. الحقيقة: الراية لوضوحها، والجمع: حقائق. ولمدة أزيد من قرن ونصف القرن على صدور كتاب أصل الأنواع لم تعد هناك حاجة إلى إثبات التطور، فقد انتهى الحديث عنه كنظرية لأنه أصبح حقيقة راسخة رسوخ حقيقة كروية الأرض ودورانها حول الشمس. التطور حدث ويحدث بالفعل ولا مجال لإنكاره. قد تجادل في بعض التفاصيل التي جاءت في كتب تشارلز داروين وهذا حقك. أما أن تُجادل في مفهوم التطور كحقيقة علمية، اسمح لي ان أقول لك هذه كركبة فكرية عليك التخلص منها الآن، ومن الأفضل أن "تشيلها" من عقلك، لا فائدة منها. التطور حدث فعلاً. ويحتاج إلى الكثير من الشروحات ليُفهم. تفهيم فكرة التطور لشخص لا يريد أن يفهم من أصعب المسائل على هذه الأرض.

هذا الصراع الأزلي بين القديم والجديد. بين الرأس المطربش-لابس الطربوش- والرأس الحاسر، بين صاحب القنباز وصاحب البدلة. بين الكتاب الورقي الذي تلمسه بيدك ويكون خير جليس في الزمان وبين الكتاب الإلكتروني الذي يُظهره لك هذا الساحر المسمى حاسوب، تملك الكتاب ولا تملكه. وقد قال الفارس الشجاع ذات يوم "أَعَزُّ مَكان في الدُنى سَرجُ سابِح" أما اليوم فأعز مكان على ما أحسب كرسي سيارة فارهة او مقعد يخت عابر للمحيطات أو مقعد طائرة خاصة تُحلق في الجواء. انظر كيف أتوه بين ضيق الأفق ورحابة هذا الكون. ما موقفك عندما يصبح الجديد قديماً؟ ماذا تفعل؟ الحياة تسير وأنت تُراوح مكانك.

قال الفيلسوف الإغريقي سقراط: لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. وهناك من ينسب هذه المقولة إلى أفلاطون، وتنسب مثل هذه المقولة إلى الإمام علي بن أبي طالب وهي: لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم، لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم.

غير أن كثيرين من أولي الأمر في التاريخ الإنساني، في الماضي والحاضر، ومن عامة الناس أيضا، يتصرّفون على الضد من هذا الوعي بالمتغيرات في الأجيال والمراحل، ويحاولون فرض ما عرفوه وما نشأوا عليه، على الآخرين وعلى الحياة، ويجدون في الاعتراض على قناعاتهم، قولاً أو فعلاً، تجاوزاً على ما يعدّونه من الثوابت والمقدسات، فيمارسون على المعترض القمع والاضطهاد والتخوين، بل التكفير أيضا، بغطاء الأعراف والأخلاق والقانون والدين، ويوظفون وعّاظ السلاطين من كل صنف ومن كل نوع، لمنح مقولاتهم وتصرفاتهم صفات القداسة والحق والحقيقة.

تحميل كتاب أصل الأنواع:
https://www.hindawi.org/books/85948029/








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيتزا المنسف-.. صيحة أردنية جديدة


.. تفاصيل حزمة المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل وأوكرانيا




.. سيلين ديون عن مرضها -لم أنتصر عليه بعد


.. معلومات عن الأسلحة التي ستقدمها واشنطن لكييف




.. غزة- إسرائيل: هل بات اجتياح رفح قريباً؟ • فرانس 24 / FRANCE