الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البيوغرافيا في الدراسات الاجتماعية

سفيان ميمون
كاتب

2020 / 6 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في مفهوم وخصائص المنهج البيوغرافي
تشير البيوغرافيا biographie إلى كتابة الحياة أو سيرة الحياة فكلمة "bio" تعني الحياة ، وكلمة " graphie" تشير إلى الكتابة ، ويتم استخدام المنهج البيوغرافي في الدراسات الاجتماعية باعتباره أحد المناهج الكيفية التي أصبح لها قيمة كبيرة في فهم المجتمع في بنائه وثقافته ، فقد ساهم هذا المنهج في تكريس أهمية الفرد باعتباره مدخلا لفهم الجماعة ، هذه النظرة التي تبلورت مع المدرسة الألمانية حين نقدها للتصور "الوضعي " الذي يلغي الفرد ولا يعترف إلا بما هو كلي جماعي .
ويمكن التفريق بين السيرة الحياتية ( الغيرية) biographie والتي يكتبها كاتب عن شخص آخر ، وبين السيرة الذاتية autobiographie التي يكتبها الشخص عن نفسه ، وقد كانت السيرة الحياتية ( البيوغرافيا ) أسبق في الظهور من السيرة الذاتية حيث يرجعها بعض الباحثين إلى الحضارة المصرية القديمة حينما دونت حياة الملوك والقواد على أحجار المعابد والمقابر والأهرامات.
ويتم تداول السيرة الحياتية بشكل أوسع في الحقل الأكاديمي من السيرة الذاتية لقيام السيرة الحياتية على بعض الأسس الموضوعية حيث تستند في عملها ومن أجل الحصول على المعلومات على الوثائق وإجراء المقابلات مع الشخص ذاته أو مع بعض الأفراد القريبين منه ، عكس السيرة الذاتية التي يمكن للذات خلالها أن تتغلب على الموضوع فيعمد الراوي مثلا إلى إخفاء أو تزوير الأحداث انتصارا لذاته وتحقيقا لما يريد ، وبهذا تتجسد سيرة الحياة في اتجاه الباحث ( الكاتب) نحو شخص معين طالبا منه تاريخ أو قصة حياته ، غير أن الباحث لا يستهدف الشخص في ذاته فحسب ، ولكنه يرمي إلى الإحاطة ببعض الخصائص الاجتماعية والثقافية للجماعة التي تحيط بالفرد .
ويفضل بعض الباحثين الحديث عن المنهج " الإثنو بيوغرافي " الذي يستخدم في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا وبعض العلوم الاجتماعية الأخرى ، عندما يكون المقصود هو الإلمام بالوقائع الاجتماعية وتحليلها ، مقابل المنهج البسيكو بيوغرافي " الذي يتصل بعلم النفس، وهنا تشير الإثنو بيوغرافيا إلى سيرة الحياة الاجتماعية والثقافية للفرد المندمج في الجماعة ، فيكون المقصود من السيرة هو الجماعة من خلال الفرد كمدخل فقط لفهم هذه الأخيرة .
إن الذي يزيد من قيمة الإثنوبيوغرافيا هو أن صاحب السيرة حتى وإن تكلم بصيغة المفرد " أنا " فإنه يشترك مع كل من يحيطون به ويتفاعلون معه ، فهو ليس سوى جزء من الجماعة ، وهو خاضع لمجموعة من الأطر الثقافية والاجتماعية التي تنمط تفكيره ورؤيته للأشياء ، كما أن النظر للفرد باعتباره مندمجا في جماعة يسمح - ومن خلال منهج السيرة - بالاقتراب أكثر من العلاقات الاجتماعية الأولية كجماعة الرفاق وجماعة الحي والجيران والجمعيات وغيرها ، إنه صورة مصغرة للمجتمع الذي يعيش فيه لذلك يعكس الفرد في خضم هذا المنهج طريقة تفكير وعيش هذا المجتمع ، كما يدل أيضا على مختلف الضغوط الاجتماعية التي يخضع لها أفراد المجتمع الذين تشبه وضعيتهم الاجتماعية وضعية صاحب السيرة ، هذه الضغوط التي كثيرا ما يتم إخفاؤها من قبل الطبقات المسيطرة لتصبح السيرة بمثابة إعادة كتابة التاريخ من خلال المهمشين والمستضعفين الذين همشهم التاريخ الرسمي وأهملتهم الوثائق التي دونها الأقوياء .
ويختار الباحث في السوسيولوجيا صاحب السيرة بدقة وعناية ، فكثيرا ما يتجه نحو كبار السن بغية الحصول على سيرهم لأنها سير غنية وذات علاقات متشعبة ، إضافة إلى نضج هؤلاء بما يفيد في تحليل وتدقيق المعطيات التي يتم حكيها ، كما يختار الباحث سيرا من أصحاب الخبرة الذين لهم علاقة بالظاهرة التي يشتغل عليها .
لا يستمد منهج السيرة قيمته من نوعية صاحب السيرة ومن طبيعة المعلومات التي يتم الحصول عليها فحسب ، بل إن لهذا المنهج قيمة من الناحية المنهجية أيضا ، فعلى خلاف المناهج الأخرى التي تنبني على علاقة تقليدية بين الباحث والمبحوث يمارس خلالها الباحث سلطته على المبحوث ، من خلال امتثال هذا الأخير للباحث واعتباره فقط مصدرا للمعلومات من دون أن يكون مشاركا في تنظيم وترتيب هذه المعلومات ، نجد المبحوث في خضم منهج السيرة شريكا أساسيا في عملية البحث من خلال قيام المبحوث ( الراوي) جنبا إلى جنب مع الباحث بتنظيم وانتقاء المعلومات بما يعطي للمبحوث نوعا من السلطة تسمح له بتوجيه الباحث من الناحية المعرفية والمنهجية خلافا لما هو معهود في المناهج الأخرى.
البيوغرافيا في التاريخ وعلم الاجتماع
ويمكن لنا أن نستقصي منهج السيرة في تطوره واستخداماته في العديد من الحقول المعرفية ، لكننا نقتصر هنا على الإشارة إلى حقلين نراهما من الحقول الأساسية التي تطور فيهما هذا المنهج وساهم بقسط معين في تفسير وفهم بعض الظواهر التي يضمها هذان الحقلان ، وهما حقل الدراسات التاريخية وحقل الدراسات الاجتماعية وبخاصة دراسات علم الاجتماع والأنثروبولوجيا .
ففي مجال الدراسات التاريخية يمكن الرجوع إلى ما سمي بالمدرسة المنهجية ( الوضعية) التي حاولت أن تفرض نوعا من الصرامة العلمية على البحوث التاريخية من أجل الاقتراب أكثر من الموضوعية بمحاولة تحييد الذات ، ورغم هذا فقد بقي الفرد عاملا جوهريا في بحوثها خاصة في وصفها للأحداث الفردية وأفعال رجال السياسة والدين والجيش ..الخ ، والعمل موازاة مع ذلك على استبعاد الجانب الخيالي والمثالي في وصف حياة وأفعال هؤلاء مراعاة للموضوعية .
وخلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ازدهرت السيرة بفضل هذه المدرسة التي أعطت القيمة للفرد في كثير من الدراسات البيوغرافية ، لكن هذه البحوث تراجعت بعد الحرب العالمية الأولى نتيجة بروز مؤرخين أسسوا لمدرسة جديدة سميت ب" مدرسة الحوليات " انطلاقا من عام 1929 على يد مارك بلوخ و لوسيان فيفر ،هذه المدرسة التي شككت في البيوغرافيا وحطت من قيمتها واعتبرتها مجرد وهم إلى غاية 1970 .
لقد كان السبب في رفض مدرسة الحوليات للبيوغرافيا هو نظرتها الشمولية المنفتحة على جوانب العلوم الاجتماعية المختلفة ( اقتصاد ، اجتماع ،سياسة ، تاريخ،..) ، بل إن الهدف من التمحور حول مجلة الحوليات التي أسسها بلوخ وفيفر والتي سميت المدرسة باسمها هو إيجاد رابط بين العلوم الاجتماعية المختلفة ، ذلك ما أدى إلى استهجان النوع البيوغرافي باعتباره رمزا معرفيا تقليديا لا يتجاوز دوره تكوين معرفة بالفرد دون أن يكون له دور الإحاطة بمحيط هذا الفرد في جوانبه المختلفة ، غير أن هذا الاستهجان الذي أدى إلى تراجع السيرة مقابل انفتاح التاريخ على المجتمع بجوانبه المختلفة لم يمنع بعض الأنواع البيوغرافية من المحافظة على تواجدها خلال هذه الفترة مثل البيوغرافيا النموذج والتي تنطلق من الفرد ليس كمركز ولكن كمدخل لفهم الجماعة ، وحيث ينظر للفرد كمنوذج لفترة أو جماعة معينة ، والبروسوبوغرافيا التي تهتم بالتقاطعات المختلفة بين الأفراد ، أي رصد الخصائص المشتركة للأفراد الذين لهم مميزات مشتركة مثل انتمائهم إلى نفس المهنة أو الطائفة أو التخصص ... الخ.
وفي الوقت الذي ساد فيه تيار البنيوية أصبحت الذات هي الغائب الأكبر ، فقد قدمت البنيوية نفسها كموضة فكرية غطت على باقي المقاربات الأخرى ، غير أن التغيرات الحاصلة في أوروبا وعلى رأسها ثورة 1968 في فرنسا وأوروبا عامة أفقد البنيوية شيئا من بريقها ، مما عجل ببروز تيار فكري ناقد وصف بأنه فكر " ما بعد بنيوي " ، وفي سياق هذا التيار عادت الذات من جديد وأصبح للفرد قيمته ومكانته باعتباره مدخلا للتحليل والفهم .
وبالعودة للذات وللفرد وللفاعل عادت البيوغرافيا من جديد معلنة عن "انفجار بيوغرافي " مثلما يصور ذلك الباحث الفرنسي " فرانسوا دوس" الذي أورد في كتابه " الرهان البيوغرافي – كتابة سيرة" بعض الإحصائيات حول الكتابات البيوغرافية في فرنسا خلال العقدين الأخيرين ، فقد نشرت حسبه 200 بيوغرافيا عام 1985 و611 بيوغرافيا عام 1996 و 1043 بيوغرافيا عام 1999 ،أي أنها في تصاعد مستمر ، ويستثنى من هذه البيوغرافيات السير الذاتية والبحوث الأكاديمية ، ومما ساهم في انتعاش البيوغرافيا في هذه الفترة ظهور بعض المقاربات في مجال التاريخ في بلدان أوروبية مختلفة مثل مقاربة التاريخ من أسفل التي ظهرت في إنجلترا و مقاربة الميكرو تاريخ التي ظهرت في إيطاليا ومقاربة تاريخ الحياة اليومية في ألمانيا ، هذه المقاربات التي تعبر عن نظرة واحدة تقريبا وهي ضرورة توجيه النظر في التاريخ إلى الأسفل ، أي إلى حياة الناس العاديين بدلا من الاهتمام فقط بحياة المرموقين وأصحاب النفوذ في المجتمع ، وضرورة الرجوع إلى تفاصيل الحياة اليومية في جوانبها الجزئية والمحلية.
و إذا أردنا استقصاء منهج السيرة في مجال علم الاجتماع والأنثربولوجيا فإنه يتعين علينا الرجوع إلى الدراسة التي قدمها " وليام توماس" و " فلوريان زنانيكي " من جامعة شيكاغو عن الفلاح البولندي في أوروبا وأمريكا بين عامي 1918 و 1920 ، كما يتعين علينا أيضا الرجوع إلى الدراسة التي قدمها "أوسكار لويس" من الجامعة ذاتها خلال الستينات عن "سيرة أبناء سانشيز" وفيها حاول بناء سيرة حياتية لأسرة مكسيكية من خلال رصد سيرة أفراد عائلة سانشيز ، بالإضافة إلى المساهمة التي قدمها " هارولد غارفينكل خلال الستينات دائما من خلال ماعرف بالإثنية المنهجية " éthnométhodologie ، والتي اهتمت بالدراسات الميكروسوسيولوجية وبالأبحاث الميدانية وكان ذلك على وجه الخصوص بفضل كتابه " دراسات في المنهج الإثني " الذي حاول من خلاله - وبتأثير واضح من " ألفرد شوتز" الذي يمثل تيار " الفينومينولوجيا" في علم الاجتماع- أن يفهم الطرق التي يعمل بها الأفراد وكيفية تصرفهم في المواقف المختلفة ، يضاف إلى هذا المنحى الذي سلكه الباحث الفرنسي ألان توران والذي وجه جهوده نحو الفاعل والذات الفاعلة بعد أن كان اهتمامه منصبا على الحركات الاجتماعية قبل ثورة الشباب في فرنسا عام 1968.
الاستخدام الميداني للمنهج البيوغرافي
يمكن اعتبار السيرة الحياتية عملية مقابلة يروي فيها المبحوث قصة حياته أمام الباحث ، لذلك يصدق عليها ما يصدق على المقابلة على وجه العموم ، خاصة من حيث اختيار من نريد مقابلتهم ( المبحوثين – المستجوبين..) ، غير أن الباحث في مجال علم الاجتماع والأنثروبولوجيا خاصة كثيرا ما يلجأ للأفراد الذين لهم خبرة بالميدان وكبار السن ، والذين ينتمون لطبقات وفئات لها اتصال بموضوع الدراسة ، كما يمكن للباحث أن يتصل بمجموعة من المبحوثين أو " المخبرين " الذين يختارهم بعناية من أجل استخدام سير متعددة تكون دالة على واقع معين ، بما يطرح إشكالا حول عدد المقابلات التي يجب القيام بها وعدد الأفراد الذين تتم مقابلتهم.
يجد الباحث " دانييل بيرتو" حلا لهذه المشكلة فيما سماه " مفهوم التشبع" ، أي أن التوقف عند عدد معين يمليه مدى كفاية المعطيات التي يجمعها الباحث من عدد معين من المبحوثين ، غير أن التشبع الذي يعنيه برتو لايتوقف عند حدود " الكم" والملاحظة العينية ، ولكنه يتعدى ذلك إلى مستوى كيفي :إلى "تمثل" الباحث بأن المعطيات التي تم جمعها عن ثقافة ما وعن جماعة ما قد تم استيفاؤها بالفعل ، ليكون للتشبع الدور نفسه الذي تؤديه العينة عند استخدام تقنية الاستمارة.
و خلال عملية المقابلة يحاول الباحث بناء علاقة جيدة مع المبحوث بتهيئة الجو المناسب للمقابلة وكسب ثقة المبحوث، ثم بعد ذلك يعمل الباحث على قراءة ما يقال وما لا يقال عند السرد (النظر في تقاسيم الوجه وتقطعات الكلام وطبيعة الابتسامة..) ، كما على الباحث أن يلم ببعض التقنيات الأساسية في المقابلة كأن يعرف متى يطرح الأسئلة ومتى يترك المبحوث يسترسل في الكلام مع خلق بعض الشروط الضرورية التي تزيد من رغبة المبحوث في الحكي ، و للباحث أن يختار الوقت الملائم لتسجيل الملاحظات الضرورية سواء خلال المقابلة أو بعدها بقليل حرصا على عدم نسيانها ، وعند تحليل المعلومات التي يحصل عليها الباحث من راوي السيرة يمكن الرجوع لمضمون السيرة باستقصاء وفحص العناصر المختلفة التي تشكلها مثل التنشئة الاجتماعية للراوي ، تصرفاته ، مواقفه ، التغيرات التي تطرأ عليه ، علاقاته مع الأقارب ...الخ.
و لعل من الصعوبات التي تلاقي الباحثين خلال استخدام المنهج البيوغرافي صعوبة الانسجام الذاتي للسيرة ، أي أن ما يبدو من انسجام قد يكون مبتدعا من قبل الباحث أو المبحوث أو منهما معا ، لذلك كان على الباحث أن يضع نفسه دائما في ميزان النقد الذاتي حرصا على الموضوعية التي يتطلبها العلم ، أما المبحوث فلا بد أن يخضع بدوره للنقد والتمحيص ، ولتجاوز الصعوبات التي تعترض الباحثين عند تطبيق منهج السيرة يمكن استخدام بعض التقنيات العملية منها على سبيل المثال إعادة المقابلة مع صاحب السيرة نفسه مع فارق معين في الزمن بين المقابلة الأولى والثانية من أجل تسجيل الفروق في طبيعة المعلومات المقدمة من قبل صاحب السيرة ( الراوي) أو مقابلة أشخاص آخرين قريبين منه ، والاستعانة بالوثائق الشخصية لصاحب السيرة ، إضافة إلى حرص الباحث على التمييز عند الحكي بين ماعاشه الراوي فعلا وبين ماهو مجرد تمنيات وتصورات...الخ.

ملاحظة / هذا المقال هو تلخيص لمقالة علمية غير منشورة تستند إلى مراجع .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احمد النشيط يصرح عن ا?ول راتب حصل عليه ????


.. تطور لافت.. الجيش الأوكراني يعلن إسقاط قاذفة استراتيجية روسي




.. أهم ردود الفعل الدولية حول -الرد الإسرائيلي- على الهجوم الإي


.. -حسبنا الله في كل من خذلنا-.. نازح فلسطين يقول إن الاحتلال ت




.. بالخريطة التفاعلية.. كل ما تريد معرفته عن قصف أصفهان وما حدث