الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (23)

احمد جمعة
روائي

(A.juma)

2020 / 6 / 14
الادب والفن


كانت إفيلين متجاوزة ولعها به، تجاسرت حتى بعد الحمل وترفعت عن الإذعان لشغفها وقهر شعورها بمجاراة رغبتها في الاحتفاظ به، تغاضت فترة عن التودد إليه، ثم تجاهلته إثر تهديد خالتها إيما له بعد اكْتشافها العلاقة، تركته، ثم جثت عند باب غرفته مفصحة عن رغبتها فى البقاء معه حتى بدون زواج، بدأت متعلقة به كلما زاد أهلها في الضغط عليها، كاد يفقد توازنه وتختل حالته عند التخرج لدى بلوغ سنته الأخيرة، حين رأى ابنته منها التي دعتها جيني، زاد ولعه بالمرأة والبنت ذات العينين الخضراوين والزرقاوين معاً، ضحك في سره وقد تَخَيَّل عبدالرحيم المرجاني، حينما قضى الشهور في حريق داخلي متخيلاً الرجل يُحدق فيها وماذا سيرى في تلك العينين؟ هل يعترف بأن هاتين العينين لحفيدته؟
حين حل موعد العودة للديار وتراءت له سماء البحرين تأخذ لها طابع القوس قزح من خلال عيني ابنته جيني، حينما تداعت الذكريات تزهو بألوان البحر والسماء والأشرعة ونكهة السواحل، حين أجفل عند تناهي همسات النساء في المنازل العتيقة وهن ينتحبن على الغاصة الذين انزلقت بهم النعوش الملفوفة بقطع القماش لتستقر في جوف البحار البعيدة عن الديار، هذه الصور المستمدة من ذاكرة أحياء المحرق وقت كان يغزوها من أجل جوري، أعادته الذكرى بالديار لدى هبوب رياح الشمال الإنجليزية حين بدأت تلوح في الأفق ملامح العودة بعد سنوات الدراسة، وقبل أشهر من إنتهاء مهمته التي سخرها له المرجاني، زاد شغفه بالعودة وانتهز فرصة الاستعداد لها ليبدأ بالتخطيط للمهمة التي تنتظره بعدما أنجز ما عليه، لم يبق سوى عقبة تغض مضجعه وتجعله يتقلب الليل على فراشه فاقداً عقله بالتفكير في كيفية الخروج من مأزق إفيلين وابنته منها.
"كيف أُطفئ هذا الحريق؟
لاح له في أفق السماء شبح عبدالرحيم المرجاني، من أبرز رجال أعمال حقبة الحرب والاحتلال، تنامت ثروته إبان الحرب العالمية الثانية بفضل حاجة البلد وقوات الاحتلال للكثير من السلع التي كان يستوردها من الهند والعراق عن طريق البصرة، ولشدة حرصه على حفظ هذه التجارة وتنميتها اكتسب خبرة نفسية واجتماعية مكنته من نسج شبكة واسعة بين ضباط وجنود القوات البريطانية في البلاد، لم يتردد حتى في رشوة بعضهم بشيء من الهدايا المحلية الصغيرة التي كان يَنْفَحها على سبيل المكافأة نظراً لتسهيلهم أموره حتى بلغ عتبة مستشار الحكومة.
برع المرجاني في إتْقان العمل وحَذَق فيه حتى بلغ عشية نهاية الحرب العالمية الثانية من تأسيس شركته الخاصة التي أطلق عليها مجموعة المرجاني وشملت أعمالها عدة مجالات منها الآلات والأصباغ ووكالة للسيارات، صار اسم المرجاني مقروناً بالتجارة والمال، وكان وقتها يعاني من بعض الأمراض التي كانت في البداية بسيطة حتى بدأ ينتابه القلق على أمواله أكثر من صحته، كان هوسه بالمال يتغلغل لروحه التي انْفَصلَت عن كل الكائنات من حوله، وهذا ما دفعه ليعول على ابنه الوحيد الذي اشتم فيه الذكاء والفطنة الغريزية للنجاح وهو تقي الذي رغم رعونته في العلاقات وانفعالاته الحادة السريعة وتطرفه العاطفي لكن الأب رأى فيه شجاعة وجسارة في مواجهة الآخرين والتعاطي مع الحوادث، كانت نظرته لتقي تتمحور حول جرأته وفطنته ومن هنا دأب على مراقبته وتحفيزه ومن ثم توجيهه نحو عالم المال والتجارة عبر ابْتعاثه للدراسة بالجزر البريطانية مباشرة بعد نهاية الحرب، وقد سهلت له علاقاته مع قوات الاحتلال سرعة توجه تقي إلى هناك قبل حتى أن ينقشع دخان الحرب. كان عبدالرحيم قد رهن حياته وثروته وأعماله بنجاح تقي في الدراسة والعودة مخفوراً بالشهادة والخبرة المكتسبة من بلاد الإنجليز.
حينما عاد تقي في إجازة منتصف السنة الأخيرة من دراسته مع أمل احتفاء المرجاني به كأول طالب بحريني ينال تلك الشهادة من جامعة بريطانية حينذاك، واجه الرجل صدمته التي كاد يتوقف معها قلبه عن النبض حينما وضع الابن أبيه أمام الأمر الكارثي وهو يعترف له بأنه متزوج من فتاة بريطانية وأنجب منها فتاة وجاء يستأذنه في تسهيل عبورها البحار معه لتستقر هنا في البحرين، واجهه بالأمر مضيفاً عليه التزامه بحمل المولودة اسمه راضخاً منذ بداية السنة الأولى وقد اضْطر لإخفاء الأمر طوال الوقت احتراماً والتزاماً منه لمشيئة الأب في ضرورة إكمال دراسته، وقف أمام المرجاني بعد يوم من وصوله المنزل إثر رحلة شاقة بالطائرة عبر الهند وعَقِب هبوط اضطراري بالمنطقة الشرقية من السعودية، انتصب أمام والده دون ذعر نزعه عنه قبل حضوره، ورد عليه إثر توبيخ الأب له قائلاً بنبرة استسلام لا يغلفها الخوف.
"أردت تحمل المسئوليتين، مسئولية إكمال دراستي ومسئولية الاعتراف بخطئي الذي ولد عن نزوة ما لبثت أن أصبحت واقعاً، لقد أكملت دراستي بتفوق غير مسبوق أبي، لكني أمامك أتحمل تبعات ما اقترفته.
بدت تلك اللحظة أمام الأب وكأنها نهاية الحلم، حتى مع نتيجة التفوق برزت الواقعة أمامه وكأنها اختبار وضعه القدر فيه ورأى من خلاله مصير الأموال والأعمال بين يدي الابن، كانت هناك فتاة وشابان في العائلة غير تقي ولكن الأب قد وضع رهانه في الابن الأصغر الذي بدا له أفطن من غيره وها هو القدر يمتحنه بمواجهة وضعٍ لم يدر بخلده، لم يكن أمامه تلك الليلة إلا أن يتجرع بضعة كؤوس من الويسكي الإيرلندي الضاري الذي دأب أحد الضباط الإنجليز على تزويده به بين فترة وأُخرى، ومنه استمد تقي ولعه بالشراب من قبل أن يسافر للدراسة حينما كان يتسلل لغرفة الأب ويبحث عن الزجاجات المفتوحة ويجرب احتساء بضع قطرات وقد صادف أن ضبطه الأب وأنبه ولكن ما لبث أن عاود الابن الكرة، قام بعدها الأب بإخفاء الزجاجات من الغرفة، كان يدرك طبيعة العاطفة الجياشة والشرسة لتقي ورغم ذلك تمسك بالرهان عليه في أن تؤول إدارة الأموال والتجارة إليه لكونه المؤهل لذلك الحمل، فقد كان أخواه بسيطين وعفويين ورأى فيهما طبيعة انقيادية لتقي الذي بدا منذ الطفولة وما بعدها مهيمناً على شقيقيه وخشيتهما من سلوكه الذي يَتَجَلَّى في لحظات الغضب عدوانياً، ولشدة ما عانت جوري من هذه العدوانية التي لاحت في ضربه لها مرات عدة. كانت تلك الأمسية التي اعترف بها تقي خانقة ولكنها حررته من مأزق العلاقة بالأب وخشيته أن تتحطم تلك الروح التي يحملها تجاه المرجاني، لم يرد تقي أن يفقد الأب ثقته فيه وهذا ما دفعه بعد أيام من عودته حينما تسنت له الفرصة لدى رؤية والده يركب السيارة مع السائق، سارع بحركة مباغتة منه ونزع المفتاح من يد السائق وقاد السيارة بدلاً منه نحو العمارة التي يقع فيها مكتبه، كان المرجاني قد تعمد تجاهله خلال الأيام المنصرمة، وجدها الابن فرصة وهو يقود السيارة لكسر حاجز الصمت بينهما حيث بادر تقي بالقول بنبرة واثقة وهو يقود السيارة وينظر في المرآة للأب القابع في المقعد الخلفي كعادته حينما يركب السيارة.
"السيارة بحاجة لصيانة، يبدو أنها من فترة لم تتم صيانتها.
كانت تلك لفتة ذكية منه لعلمه مدى تعلق الأب بالسيارة واهتمامه بها، التقت عينا الإثنين في المرآة وسرعان ما سرح الأب نحو الخارج متجاهلاً عبارة الآخر، الذي ما كاد يشعر بخيبة أمل من تلك الحركة حتى فاجأه صوت الأب بنبرة هادئة جافة ولكنها جاءت متفاعلة مع ردة فعل غير متوقعة.
"كيف صرت تفهم في السيارات؟
فرصة سقطت من السماء على رأسه، اعتدل في جلسته وركز نظره بين الطريق والمرآة ثم رد على أبيه بلهجة تعمد أن يغلفها بثقته من نفسه رغم ما ارتكب من حماقة في نظر والده.
"تعلمت هناك أشياء كثيرة منها مشاكل السيارات.
رد الأب بسرعة وبنبرة ساخرة وجد فيها تقي رغم تهكم الآخر فرصة في إذابة الجليد الذي ذَكَرهُ بجليد الصباح الذي يسد عادة باب غرفته قبل أن يخرج في الصباح باكراً للكلية.
"ألم تتعلم أيضاً أن تتحكم في غرائزك وتركز على ما يهمك؟ كيف أعتمد عليك بعدما خيبت أملي؟ الحياة ليست مجرد فقاعة ولا ورقة لعب، الدنيا ليست شراع سفينة تبدله كلما تبدل اتجاه الريح، تعلم أن تقف على مستقيم ولا تنحرف عنه مهما تبدلت الريح، وما فهمته من ورطتك أنكَ لم تواجه رياح التغيير بصرامة؟
"ما تأمرني فيه سأنفذه، سأصلح خطئي كما تراه لكن دعني أختار مصيري مع تعهد مني ألا يؤثر ذلك على أدائي العملي، اخْتبرني يا أبي وسأكون عند حسن ظنك، لقد أفادني ما وقع لي، اسْتفدت من خطئي هذا بأن جعلت منه وسيلة للعمل والإستثمار في لندن، سَيوفر عَلَيَّ ذلك الكثير بحصولي على الجنسية البريطانية وهي جواز مرور للأعمال.
تلك العبارة الأخيرة من كلامه والمتعلقة بالجنسية البريطانية والأعمال غيرت فجأة من مزاج الرجل وأعادت رسم خريطة حساباته التي انعكست في تغير ملامحه لأول مرة منذ عودة تقي المرجاني، لم تخطر ببال الرجل ورقة الجواز البريطاني، قَوَّضَت الفكرة موقفه رأساً على عقب وظهر وجهه المالي الحقيقي الذي يقيس به المصالح بعيداً عن العواطف، صمت لوهلة وكأنه يتجنب إبراز التغيير في الموقف بحسب المصلحة ولكنه لم يصمد أمام شعوره بالزهو وهو يدرك بأن هناك من سيمثله في لندن ويملك الجنسية البريطانية، حتى إنه فكر في مد مصالحه إلى هناك من خلال بيع وشراء بعض العقارات والمصالح.
"هل نلت الجنسية بالفعل؟
"انْتهَيت من الإجراءات الأخيرة وقد صدرت الإقامة الدائمة منذ سنة ونصف السنة وسوف يصدر الجواز هذا الشهر لدى عودتي.
سرح المرجاني من نافذة السيارة، كان هناك تيار هواء خفيف راح يداعب شعيرات رأسه البيضاء، كان يرتدي بذلة سوداء وقميصاً بني اللون على غير عادته في الصباح حينما يرتدي الثوب والغترة والعقال، بدا الأمر لتقي بأنه على علاقة بمزاج الرجل أو بمن سيقابل من أصحاب المصالح، اعْتاد عبد الرحيم المرجاني مقابلة أفراد العائلة الحاكمة بالثوب والغترة ومقابلة أفراد الجيش البريطاني بالبذلة الرسمية وهذه الازدواجية كان ينظر لها تقي باعتبارها تفسيراً لشخصية الرجل الذي يعرف من أين تؤكل الكتف.
"لا أستطيع أن أُطَلْقها ولا أستطيع أن انْفَصل عنها ما دامت ترعي ابنتي الصغيرة وهذا عيب الشرط الذي وقعته مع خالتها ووثقته.
لم يكن يتوقع تقي من والده أن يقول شيئاً لم يخطر على باله كتلك العبارة الصاعقة التي نزلت على رأسه كقنبلة يذكر صوتها جيداً منذ وصوله لندن قبل سنوات حينما تم تفجير بعض القنابل التي لم تنفجر خلال الحرب والتي ألقت بها الطائرات الألمانية.
"هل هي جميلة؟
ابتسم الابن في سره وأدرك أن الرجل وقع في الفخ، رد بعبارة يكسوها الخيلاء.
"أجمل من الجمال أبي.
"تقدر أن تجلبها معك البحرين إن شئت، من يعلم؟ قد تكون حفيدتي إنجليزية وتحدث فرقاً في العالم، الله يضع سره في أضعف خلقه، إتكل واحْضرها مع ابنتك، ماذا أطْلَقت عليها؟
"جيني.
رد الأب وكأنه قرر منذ الآن التدخل وتقرير مصير حفيدته.
"جميلة، اسمها جميلة وسنصدر لها جوازاً بحرينياً أيضاً.
سرح الأب وانْفرجت أسارير الابن وتبدى له عبدالرحيم المرجاني ملاكاً بعد أن كان حارساً للفضيلة الأرضية، كاد يفزع وهو يتخيل ابنته الصغيرة ذات الوجه البرتقالي الشكل والبشرة البيضاء كالحليب والعينين السماويتين اللون، تهيئها وهي تجلس في حضن جدها المنامي الذي ينتمي للعاصمة المنامة بما تمثله من وجه البلاد المدني فيما تبدو الصورة غرائبية بين حضارتين وعالمين وثقافتين، رَجفَ قلبه لوهلة وكاد يفلت المقود من يده وهو يتحين فرصة التوقف عند باب العمارة، كانت هناك بعض الأخشاب والمواد المغلفة بأكياس الخيش تسد الطريق وتضيق بالمكان، حينما توقفت السيارة وخرج منها عبدالرحيم لاذ الابن بالفرار بعيداً عن واجهة المكان، توقف عند فسحة فارغة على بعد أمتار من العمارة، أشعل سيجارته وفتح نافذة السيارة وهمس لنفسه بعبارة حملت البهجة.
"أصْبحْتُ أملك العالم.
في اليوم التالي ذهب تقي لمركز الاستعلامات التابع لمقر جيش الاحتلال بتوصية من والده وهناك قابل أحد الضباط وسلمه صيغة التلغراف الذي سيرسله للندن وفيه "عبارة"welcome to Bahrain Evelyn
كانت تلك البرقية إلى إفيلين تبشرها اسْتِجابَة الرجل الكبير لشغف ابنه وهو ما يعني بداية حقبة تقي المرجاني، في تلك اللحظة طفا فجأة على سطح ذهنه طيف جوري.
***
كانت السماء وردية امتلئت بالغيوم البيضاء الناصعة كالحليب، ولشدة بياض السحب برزت السماء وردية داكنة، هكذا رأتها عينا تقي المرجاني من نافذة طائرته العابرة البحار من لندن عبر سماء الهند حتى مطار بومبي وهي تحلق في فضاء البحرين بعد أربع سنوات ونصف السنة، أتى من قبل خلال السنوات الماضية مرات عدة في كل مرة ولا تزيد عن أسبوعين ولكنها هذه المرة النهائية بعد أن نال البكلوريوس في إدارة الأعمال والتجارة، كان قلبه يَخْفق وكاد يتوقف نبضه لسببين، عُنْف المطبات الهوائية والاهتزازات الْمُرَوّعة للطائرة ذات المحركات الصاخبة، فبدت له تلك اللحظات القريبة من الأرض التي ودعها، وقد صارت أبعد مما توقعه، حتى خُيل له أن الطائرة لن تُلامسّ السطح، والسبب الثاني لخفقان قلبه، شعوره ببهجة تفوق طاقته على الفرح، مع ذلك أحس بأنه عائد للبحرين فحسب، هكذا بلا سبب. حين حطت الطائرة على الأرض وأفاق من كابوس المطبات والاهْتزازات واحْتِمال الموت في أتون السماء، خرج حاملاً حقيبة بيده والأخرى يجرها وراءه ليصل إلى حيث ينتظره سائقه الذي بدا له مختلفاً عن المرات السابقة التي كان خلالها وَجْهَهُ يشع بالانْشراح، بدا هذه المرة وقد ساده الوُجوم وبجانبه خالته وتدعى آمنة التي بدت تزهو في الثمانينات من عمرها، غاص وجهها في أخاديد أسفل الجبين، برزت بشرتها بيضاء ناصعة مع ندوب صغيرة حمراء جانبيْ الخدين، رغم عمرها المديد احْتفظت بشعرها البني الفاتح، لم يسبق له أن كان معها وحدها إلى جانبه.
"عبد الرحيم المرجاني في ذمة الله.
هكذا ردت عليه بعد إلْحاح على السؤال عن سبب تغيب والده الذي دأب على حضوره المطار، وقد ثابر في كل مرة يصل فيها من خلال معرفته بموعد الطائرة عن طريق مكتب مُسْتشار الحكومة الإنجليزي، لن يَره للأبد ولن يسمع صوته ولن يشم رائحة دُخانه في العمارة، سيخيم السكون على المجلس الكبير الملحق بالمنزل ولن يركب السيارة معه، فقد انطفأ الرجل الكبير كما هي كنيته في البيت وخارجه، اختلطت مشاعره كلها تلك الساعة وزالت بهجته بالوصول وانشراحه عقب هبوط الطائرة على الأرض. تزامن فصل الخريف الْمُتَأَجَج بالحرارة في البحرين مع إحساسه بانْفصام عمره عن عمر الرجل الكبير الذي ظَللَّ وجوده الأمكنة بالسلام والطمأنينة، إذ لم يشعر أحدٌ حوله طوال حياته بالتهديد، حتى مع غضب الإنجليز في جيش الاحتلال منه بضع مرات خلال تعامله التجاري إلا أنه حافظ على علاقة التوازن معهم ولم يخفق في حياته مرة، ولكنه إنْ خَسر حيناً سرعان ما يقف على قدميه بسهولة، حتى إنه جعل من خسائره المحدودة درجات سلم صعد عليها نحو مزيدٍ من النجاح، دارت كل هذه التداعيات في رأسه المزحوم بالغضب والْغَيظ من كل ما حوله، لم يقدر على نزع السُخْط من شعوره بالْلَوم حين تأخر في الرجوع بضعة أسابيع، مخالفاً وعده للمرحوم متحججاً بانتظار استلام شهادة التخرج الأصلية، ورغم ذلك لم يستلمها ووعدته إدارة الكلية بابتعاثها مع بعثة الدولة الرسمية بواسطة بريد المُسْتشار.
"كيف قَضى؟ هل أَسْلَم الرُّوحَ بأَمان؟
سأل عمته التي كان يجلس بجانبها في السيارة والهواء الخارجي الساخن والجاف لَفْح وجهه عبر فتحة النافذة التي ترك نصفها مفتوحاً، كانت في البداية تحاول جره للحديث عن لندن والدراسة ولكنه تجاهل التجاوب معها فقد ظل منزوياً طوال الطريق، حتى وجدت المرأة ضالتها في سؤاله لتمسك به وتواصل الحديث.
"خَلَد بهدوء كما هو أثناء حياته، رمى سره وحده، مع غروب الشمس وفي سكون وافاه الأجل.
"متى تَوارَى؟
بمحاذاة البحر وعلى امتداد الجسر نحو العبور للعاصمة، كان هناك في الأُفق سرب من طيور النورس يحوم في السماء على خط متعرج كأنها مصابة بالدوار، لاحقت عيناه السرب حتى أصبح فوق السيارة فعاد ينظر للخارج وقد لاحظ التغيير في بعض الأماكن وكأن نهاية الحرب قد عَجَلَت بالتغيير.
"تقي، لا تستجيب لأفكارك، لا تستغرق في بحور مشاعرك وأمواجها المتلاطمة، لقد كان رحيله مريحاً، فقد كان يعاني من مرضٍ خبيث منذ سنواتٍ ثلاث وقد أخفى علينا كلنا ذلك حتى الأيام الأخيرة، لم يُخْبرُكَ حتى بسفره للعلاج في الهند.
صمتت لوهلة تلتقط نفسها، وقد انعكست على ملامحه الصدمة من كل كلمة قالتها، زاد ذلك من تأثره وقد لاحظته فاستدركت بنبرة هادئة تطمئنه.
"ارتاح، لم يقدر أن يتقبل رؤيتنا له عاجزاً، عبدالرحيم المرجاني لا يقبل الرأفة من احد، كان يردد مع نفسه" لن أبقى حتى أرذل العمر" بعدها تركنا ورحل بشفافية الموت ذاته الذي لم يستغرقه سوى شهادة ثم فوض أمره وغاب، لا تحبس أفكارك في معاناة لا طائل منها، قضيت حياتي معه ولو من بعيد، لم أُصادفه سعيداً سوى يوم كَشَفْتُ وجهه قبل أن يُدْفَن، كان مشرقاً، سبحان الله.
ربتت على كتفه وقالت مبتسمة مُتَعمدةً تغيير دفة الحديث.
"لم تَسْتغرب مَجيئي وحدي المطار؟ طَلَبتُ منهم ذلك حتى لا يَفْشُون لك الخبر في الطريق، وها أنذا فَعلْتُ الأمر.
ثم راحت تقهقه، عبرت السيارة الجسر وكان البحر في حالة مد تلك الساعة مع بدء زوال الشمس، ما زالت الحرارة شديدة مع لسعة الهواء الساخن، أسند رأسه للخلف وتنفس الصعداء،التفت نحوها قائلاً.
"كيف حال الأُسرة؟
صوبت نحوه نظرة مترددة، أدرك من حدقة عينيها ثمة سؤال حائر يختلج بداخلها، بادرها بنبرة مشجعة.
"أسمع صوتاً بداخلك، ماذا هناك؟
"الأسرة وأنا منهم كنا ننتظر أفيلين تأتي معك.
ابتسامة مقتضبة خرجت من رحم الوجع بداخله.
"أخبركم؟
حين توقفت السيارة عند واجهة المنزل، وفيما السائق أسرع بالنزول للمساعدة في حمل الحقائب، أشار له تقي بإصبعه أن يتقدم منه بعيداً عن خالته التي توجهت نحو الباب.
"أريد السيارة غداً صباحاً قبل الساعة العاشرة.
ابتسم السائق وقال بنبرة مطمئنة.
"هناك سيارة جديدة تنتظرك في المرآب، اشتراها والدك ليفاجئك بها عند العودة.
وقف فجأة، منع نفسه من الانخراط في التأثر وقال بلهجة قاطعة.
"جهز لي هذه السيارة.
ثم سمع بداخله صوتاً كأنه لكائن ولد للتو، يهمس.
" لا تشغل عقلك بالغد بينما لم تنجز ما يتطلبه اليوم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و