الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المعرفة والروح في قصيدة -دلني يا حلم- كميل أبو حنيش

رائد الحواري

2020 / 6 / 16
أوراق كتبت في وعن السجن


المعرفة والروح في قصيدة
"دلني يا حلم"
كميل أبو حنيش

مخاطبة غير العاقل، غير البشري/الإنساني تثير المتلقي وتجعله يتوقف عن المبرر والهدف من وراء هذا النداء الخطاب، وعندما يكون هناك فعل أمر، فأنه يستوقف القارئ، فهل هو أمر، أم استجداء، أم دعاء، أم رغبة متخيلة/وهمية، ففي حالة الأمر يظهر الشاعر وكأنه سيد، أو أنه يطلب من زميل/رفيق/صديق موازي له ومتماثل معه في كل شيء، وفي حالة الاستجداء يكون هناك ضعف ووهن، وفي حالة الدعاء يكون هناك إيمان بأن الطلب/الدعاء سيستجاب ويتحقق، وعندما تكون رغبة متخيلة تكون هناك (فانتازيا) يعتمد عليها الطالب، إلى أن يحين إتيان ما هو جديد.
يفتتح الشاعر بمخاطبة الحلم، "دلني":
دُلَّني يا حِلمُ كيفَ سأقتفي أثرَ الدّروبِ
المُفضياتِ إلى البِداياتِ السَّحيقةِ في الزَّمانِ
و عُد بنا نحو الوراءِ
لعلَّني أُشفى مِنَ الشوقِ القصيِّ
يطلب الشاعر "الحلم"، لكن صيغة الخطاب تبدو وكأنها صادرة لإنسان، لصديق/لزميل، وليس إلى شيء غير عاقل، فهو يطلب من (صديقه) المعرفة وإرشاده إلى معرفة سلوك الدرب، فالشاعر لا يطلب ما هو مادي، بل ما هو روحي/معرفي، وفي طلبه نجد رغبة في ولوج الزمن والعودة به إلى "الوراء"/البدايات، وهذه العودة/الوراء الغاية منها أخذ مزيد من العاطفة "الشوق" ليقتات بها ومنها على ما سيكون، إذن هناك (طلب) وليس أمر، واعتقد أن ترفع الشاعر عما هو مادي/جسدي يشير سمو طلبه، كما يؤكد على ترفعه عن الماديات، فهل لهذا الترفع علاقة بحالة (صوفية) يسعى الشاعر لتحرر من جسده ومن محيطه ليصل ويحل في المطلق، في الحلم/الإله؟ المقطع التالي يجيبنا:

"ونجّني مِن هاجسٍ يحتلُّ روحي كُلَّما أزف
َ الظَّلامُ
السَّرمديُّ فلا أرى غيرَ المَزيدِ مِنَ العَماءِ"
الشاعر يسعى للنور، للفضاء الرحب، لهذا نوه إلى ما يعانيه من أذى: "الظلام، فلا أرى، العماء" واللافت أن هذه الألفاظ لا تتعلق بحاجة الشاعر للمشاهدة فحسب، بل بحاجته إلى البصيرة الرؤية، وبنقاء النفس وصفاء الروح من التشويش والتشويه، لهذا قال "يحتل روحي" وهنا يتقدم في طلبه، وفي الوقت ذاته يرتفع (صفة/طبيعة) المطلوب منه، فهو هنا أقرب إلى الإله منه إلى من هو بشري، وهذا التوزان بين حجم الطلب والمطلوب منه، يشير إلى تقدم حالة الشاعر الروحية واستمراريته في رفع (سقف) حاجاته الروحية والمعرفية، فهناك تسلسل منطقي في الطلب، الذي أخذ يقترب من شكل دعاء.
الشاعر يستمر في طلبه/دعاءه:
"و فُكَّني مِن قَيدِ صمتي كي أُفتِّشَ عَن كلام
ٍ لائقٍ في الأبجديَّةِ
ينتشِلُني مِن حكاياتِ التَّلعثُمِ و الهراءِ"
ما حاجة الشاعر إلى اللغة، ما دامت حاجاته في السابق غلب الطابع الوحي عليها؟، نجيب أنه في البداية تحدث "دلني" بمعنى أنه يسعى للمعرفة أضافة إلى صفاء الروح، فهو (يؤمن) بأن الحلول في الروح/المطلق لا يعتمد على الأنا فقط، بل يجب أن تكون هذه الأنا على قدر من المعرفة لتكون منسجمه وقوية في (إيمانها/قناعتها)، بحيث لا تتوه/ترتبك في أتون الأحداث ومواجهة المنغصات، لهذا ركز على "التلعثم والهواء"، وهذا يأخذنا إلى دور/حال جديد للشاعر، فهل يريد أن يقوم بدور النبي، الذي يعرف الحقيقة ويريد للآخرين أن يستمتعوا/يصلوا إلى ما وصل إليه ويستمتعوا معه؟.
نجد الإجابة فيما يلي:
"و مُدَّني يا حِلمُ بالعَزمِ المُهِمِّ لرحلتي و أمسكْ
زمامي جيّداً
كي لا أحيدَ عن الطَّريقِ
و هُزَّني كي لا أغُطَّ بغفوتي لأرى السَّديمَ
و لحظةَ الخلقِ البديعةِ في انفجارِ الإبتداءِ"
هذه المرة الثانية التي يخاطب/(يستعين) الشاعر "بالحلم"، وهذا يشير إلى أنه لفظ "الحلم" أبعد وأوسع وأكبر من معناه المجرد، فهو شيء أعلى مما هو بشري، مادي، وهذا ما يجعلنا نقول أنه بمكانة/بمثابة (الله)، فالشاعر ما زال يطلب مطالب متعلق بالقوة الروحية "العزم"، ولم يتناول ما هو مادي بتاتا، وهو ما يؤكد على أن هدفه وغايته روحية/معرفية
ورغم أن مطلبه يبدو (شخصي/ذاتي)، إلا أننا نجد فيه روح الجماعة، من خلال اللغة التي أرادها أن تكون مانع أمام التلعثم، فحاجته إلى لغة ليست شخصية، وهذا ما أكده عندما قال: "هزني كي لا أغط بغفوتي"، فهو لا يخاف على ذاته، بقدر خوفه من عدم إيصال المعرفة/الرسالة للآخرين، وأيضا لنا نحن المتلقين، فهو ـ بطريقة غير مباشرة ـ يقدمنا من جمالية وعظمة الله/الروح/المعرفة ويحببنا بها من خلال: "لأرى السَّديمَ و لحظةَ الخلقِ البديعةِ في انفجارِ الإبتداءِ".
فجمالية المشهد تكمن في (إخفاء) النبوية وتسترها بستار شفاف، ستار مثير ومحفز للمتلقي كي يتقدم بلهفة لمعرفة ما يخفيه الستار، وهذا ما نجده في فعل "هزني" فهو شديد ولا يتناسب (والطلبات الروحية والمعرفية) السابقة، فكان موضع "هزني" يهز المتلقي ويحثه على التفكر والتقدم من المعرفة، من الروح، من النبي، من الله.
"و شُدَّني حتى أعي كينونةَ السِّرِ العظيمِ
و كي أرى كيفَ الوجودُ يفِزُّ مِن وسَطِ الخواءِ
و خلِّني مِن فوق أجنحةِ الهيامِ أشمُّ رائحةَ
الضَّبابِ الأوليِّ
و كي أرى كيفَ الوِلادةُ و الحياةُ تجيء
مِن رحمِ الفناءِ"
بعد فعل هزني يأتي بفعل شديد "شدني" وأيضا متعلق بما هو روحي ومعرفي "السر العظيم، أرى"، وهنا تتوسع دائرة المعرفة التي يردها/ينشدها الشاعر، فيريد معرفة ومشاهدة عملية الخلق، وهنا يأخذنا إلى قصة الخليقة ونشأت الكون، حسب ما جاءت في الكتب المقدسة وما وصلنا من رقم طينية، فهل هذا شكل من أشكال الحلول الصوفية التي يريدها الشاعر، مشاركة الخالق في مشاهدة عملية الخلق؟، الإجابة نجدها في:
"و مُسَّني يا حِلمُ حتّى أستحيلَ لنُطفةٍ
و تسيحَ في وسطِ الحساءِ
و أبدأ التَّكوينَ مِن عدمٍ لأحيا مِن جديدٍ
و أستحيلَ إلى هواءٍ"
إذن هناك رغبة من الشاعر ليس لمشاهدة عملية خلق الحياة فحسب، بل (مشاهدة/رؤية) خلق نفسه، وبما أنه استخدم لفظ "حلم" الإله الذي يستعين به ويدعوه ليستجيب له، فإن يؤكد مرة أخرى على أن "الحلم" هو شيء على وأكبر من معناه المجرد.
وتبقى عملية الحلول بين الشاعر وبين "الحلم" مستمرة ومتواصلة تصاعديا، بمعنى أن يشاهد خلق نفسه أضافة إلى مشاهدة خلق الحياة، وبهذا يكون قد (شارك) الإله وحل فيه، فهو يرى ما لا يراه إلا الإله، وما كان لبشر أن يروا عملية الخلق من الخواء.


"و دُلَّني يا حِلمُ ويحكَ دُلَّني
نحو الطَّريقِ إلى الغَمامِ
يظلُّني ليَكُفَّ كابوسي المخيفَ المُدلهمِّ عن المجيء"
حاجة الشاعر إلى المعرفة تزاد باضطراد، والتي نجدها في تكرار "دلني"، ومن خلال مخاطبة "الحلم" "ويحك"، وبهذا يكون أزال الحاجز/المسافة التي تفصل بينهما، ولكنه ما زال بحاجة "للحلم"، فهو يبقى بشريا، ويبقى الحلم/الإله إله، لهذا يبدي رغبته بالمزيد من المعرفة، دلني".
فبدا وكأن ما أخذه من معرفة وما حققته من متعة عندما تخيل/(شاهد) عملية الخلق وخلق نفسه، زادته رغبه في الحصول على المزيد، وأيضا هي ناتجة عما تعرض له من أذى وألم في الماضي، والتي ما زالت مؤثره فيه: "الكابوس المخيف المدلهم"، فالحياة الأرضية وأثرها السلبي لم ينتهي.
"و دُلَّ صمتي كيفَ يهجِسُ بالكلامِ و بالرَّجاءِ
فليتني أحظى قليلاً بالسَّكينةِ
و القليلِ مِنَ الإجابةِ عن سؤالِ الإغترابِ"
في هذا المقطع يحرر/يفصل الشاعر نفسه عن اللغة/الكلام/صمته، فبدا الكلام شيء/كائن آخر، وهذا يعكس أهمية ومكانة الكلام/اللغة عند الشاعر، وأيضا يؤكد على أن هناك علاقة بين حاجته إلى الغة والدور الذي يقوم به، دوره كنبي، كصاحب رسالة، لا يمكن أن يوصلها دون لغة/كلام.
وتأكيد على أن هناك رسالة تحتاج إلى حامل، إلى لغة لكي يتم إيصالها للناس، يستخدم الشاعر أكثر من لفظ متعلق باللغة، بالكلام: "صمتي، يهجس، بالكلام، بالرجاء، الاجابة، سؤال" فكل هذه الألفاظ متعلقة باللغة، بالكلام.
يعاود الشاعر طرح الحلول والتوحد من خلال:
"لعلَّني أرنو أمامي باحتفاءٍ
كي أقولَ : بأنَّ لونَ الماءِ من لونِ الإناءِ"
لكن هذا الحلول ليس مع الحلم/الإله، بل مع الشاعر نفسه، مع ذات الشاعر، فاللغة، الكلام، الرسالة جعلته في مكانه رفيعة ومتميزة، التي يراها أهلة للمشاهدة.
في خاتمة القصيدة يكشف لنا الشاعر "السر الأعظم" للمعرفة والتي يلخصها "لون الماء من لون الإناء"، والتي تأخذنا إلى أن من يريد أن يكون/يصل إلى ما وصل العارف/الشاعر، عليه أن يكون/يحل بذاته، بنفسه، وأن يكون ذا لغة قادرة على تعريف الآخرين "بالحلم/الإله".
القصيدة منشورة على صفحة شقيق الشاعر كمال أبو حنيش.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جوزيب بوريل يدعو إلى منح الفلسطينيين حقوقهم وفقا لقرارات الأ


.. تونس.. ناشطون يدعون إلى محاكمة المعتقلين السياسيين وهم طلقاء




.. كلمة مندوب دولة الإمارات في الأمم المتحدة |#عاجل


.. فيتو أميركي يفشل جهود عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدة




.. الجزيرة تحصل على شهادات لأسيرات تعرضن لتعذيب الاحتلال.. ما ا