الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسرحيات اوجين اونيل بين ثلاثي. . . الواقعية والرمزية والتعبيرية. 1-الامبراطور جونز

صباح هرمز الشاني

2020 / 6 / 16
الادب والفن


مسرحيات اوجين اونيل بين ثلاثي. . .الواقعية والرمزية والتعبيرية


1-الامبراطور جونز

تتكون هذه المسرحية من اربع شخصيات ، وهي (بروتس جونز) امبراطور ، (هنري سمينرز) تاجر، (مواطنة عجوز) (ليم) شيخ قبيلة الا ان الشخصية الرئيسية فيها هي شخصية جونز ، مثلها مثل شخصية (يانك) في مسرحيته (القرد ذو الشعر الكثيف) وتجري احداثها في احدى الجزر الهندية الغربية التي لم تنل على ايدي البحارة البيض حق تقرير المصير ، وتتكون من ثمانية مشاهد صغيرة، اذ باستثناء المشهد الاول يجري الحدث في المشاهد السبعة الباقية في الغابة . كما ان الوقت في المشهد الثاني والاخير يجري ليلا، والمشهد الاول بعد الظهر في قصر الامبراطور جونز.
وتدور حوادثها حول رجل زنجي يدعى (جونز) نصب نفسه امبراطورا على مجموعة من الزنوج الساكنين في احدى الجزر الهندية الغربية، بالاحتيال عليهم ،بأن لديه تعويذة تحميه من اي رصاصة ، وانه قوي لدرجة لاتقتله الا رصاصة فضية ، وهكذا سجد له الزنوج كما انه معجزة من معجزات الكتاب المقدس . وهو في الحقيقة ليس الا مجرم هارب من السجن بعد ان قتل رجلا ابيض ، وكان يعمل حمالا ً في امريكا بعربات البولمان لمدة عشر سنوات . وساعده سمينرز وهو رجل ابيض، اثر التحاقه بهذه الجزيرة ان يتغلغل بين صفوف الهنود ويفرض سطوته عليهم ، بعد ان قام بتشغيله باعمال قذرة لحسابه ، وهي اغلب الظن (القوادة) ولم يأخذ وقتاً طويلا من عمله هذا حتى جعل الزنوج يفعلون مايريده في غضون عامين بدفع الاجرة له، وجمع مبالغ طائلة واودعها في مصارف اجنبية ، عبر تمسكه بوظيفة الامبراطور لاستهواء عقول الزنوج الذين يعملون في الغابات لانهم يريدون عرض السيرك الكبير مقابل مايدفعون من مال له.

( لقد استوحى اونيل فكرة هذه المسرحية من قصة رئيس جمهورية هاييتي الذي كان يزعم انه لايمكن ان يصيبه الرصاص العادي ، وانه سوف يقتل نفسه برصاصة فضية)1
وهاهو الان قد اصبح امبراطوراً ، يطبق تجربة ماضيه في هذه الجزيرة، وهي التجربة الامريكية التي تنص ان السرقة الصغيرة تزج صاحبها في السجن ، بينما السرقة الكبيرة تجعل منه امبراطورا، لذلك فقد فرض الضرائب على الزنوج واستنزفتهم حتى اصبحوا عيدان جافة، وعند هذا الحد ثاروا عليه ، بالتجائهم الى تلال المدينة ، بينما كان هو يغط في نوم عميق بقيلولته في قصره الرحب في المشهد الاول من المسرحية.

اذا كان اونيل قداستخدم اسلوب الواقعية الخالصة في مسرحيته (التيه) والواقعية الرمزية في مسرحية (وارء الافق) و(انا كريس) و(رغبة تحت شجرة الدردار ) فانه يستخدم في المسرحية التي نحن بصددها الان اسلوب التعبيرية الذي استخدمه في ثلاث مسرحيات اخرى وهي (القرد ذو الشعر الكثيف = الغوريلا) و(كل ابناء الله لهم اجنحة) و( الاله الكبير براون).
ويعرف الدكتور عبدالله عبدالحافظ مقدم هذه المسرحية التعبيرية على النحو التالي ( لقد تطورت التعبيرية على ايدي الكاتبين الالمانيين توللر وقيصر اللذين كانا يهتمان بقضايا سياسية تتعلق بالدمار الذي يشيعه الحرب والمشاكل الاجتماعية . ولقد تاثر هذان الكاتبان بفرويد ودراساته للاوعي، ولهذا كانوا يعتقدون ان الواقعية الخارجية لاتصور الحقيقة لكائن معقد كالانسان ، مما دفعهم لاستخدام الرمز والمناظر القصيرة المتتابعة والاشخاص النمطية والحوار المتقطع التلغرافي والمناظر التي توحي بالشخصية والحدث... الا ان اونيل لم يتاثر بالكتاب التعبيريين الالمان وانما تعود جذور تعبيريته لسترنبدرج كما اعترف هو بذلك مراراً ، ولايشغل نفسه قط بقضايا سياسية ، بل بمعالجة الفرد والمجتمع وصراعه مع قوى اجتماعية ونفسية)2
كما يقول الدكتور في مكان اخر من مقدمته المكتوبة خصيصاً لهذه المسرحية: (ولقد نجحت مسرحية الامبراطور جونز نجاحاً كبيراً باستخدام اونيل الرمز في المناظر والاحداث والحبكة ، لدرجة حازت على اعجاب النظارة، وجلبت لفرقة برفستان التي قامت باخراجها عام 1920 اول اعتراف من جماهير ومديري المسارح في حي برو دواي في نيويورك)3
وساحاول في هذه المسرحية ومسرحيته (القرد ذو الشعر الكثيف) الاشتغال على كيفية استخدام المؤلف لهذا الرمز في مناظر واحداث هاتين المسرحيتين.

يتجلى استخدام الرمز، شروعاً من منظر المشهد الاول ، مع انه ليس مشهدا تعبيريا وانما واقعيا ، بتوظيف لونين متناقضين فيه ، احدهما ابيض والاخر قرمزي صارخ باكساب القصر كبناية هي هيكله المتكون من الارض والسقف والجدران اللون الابيض ، للدلالة على ان الحاكم ينبغي ان يكون عادلا في حكمه ويسعى الى استتباب الامن والطمانينة والسلام في بلده، مانحا الاثاث التي تحتوي القصر كالكرسي والمقعد والبساط، اي الاشياء التي يستعملها الحاكم ، الوانا قرمزية صارخة ، للدلالة على ظلمه وعدم عدالته ،وبالتالي دمويته.
ويشترك هذا المشهد مع المشهد الاخير فقط بالحوارات التي يجريها جونز مع بقية الشخصيات . اما المشاهد الستة الاخرى فتقتصر على المنولوجات التي يلقيها فقط.
يعمد المؤلف من خلال وصف منظر المشهد الاول ، بالترميز الى قصر الامبراطور الرحب، وسقوفه العالية وحوائطه العارية وقبواته واعمدته ووقوعه على ارض عالية ، ودخول عجوز شمطاء فيه، وهي عارية القدمين، وترتدي راداءً رخيصاً من البفتة، ويغطي شعر رأسها منديل احمر براق ، فلايظهر من شعرها سوى بضع شعيرات بيضاء متناثرة هنا وهناك ، كما انه تحمل على كتفها ومعلقة في طرف عصاها حزمة مربوطة بقماش ملون ، يعمد ان يعيد جونز الى اصله ، بعجزه عن الهروب من ماضيه، عبر رسم صورة القصر على هيئة كهف او مغارة، يدخل فيه كائنا بشرياً اقرب الى الحيوان منه الى البشر.
وفي منظر المشهد الثاني يعتمد على الرمز من خلال تقارب ظلال جذوع الاشجار لاشاعة الظلام في الغابة ، وترديد نغمة كئيبة للريح للدلالة على جمودها ، وفي كلا الرمزين تاكيد على عدم وجود الحياة فيها ، وان الموت مصير من يتحدى تجربة التوغل اعماقها .

ولاثبات ذلك يوظف مجموعة من الحيل الحسية ، كتحاشي جونز النظر الى الغابة ، خوفا منها وسماع دقات الطبول ، وتمتمة الكلمات لتشجيع نفسه ، وضياع صندوق الطعام لقلقه ، واشعال عود الثقاب لنفس السبب، وتوهمه زحف اشبه بديدان نحوه، بالاضافة الى الضحكات الساخرة التي تتحول الى حفيف الاشجار وتحوم حوله ، ظنا منه انها حيوانات صغيرة كالخنازير او الاشباح...
وفي المنظر الثالث للمشهد الثالث ، يستخدم القمر رمزاً ، ليحدث التناقض بين مقدمة ومؤخرة الغابة، مانحا النور للمقدمة ، والظلمة للمؤخرة، بالاضافة الى الترميز الى ماضي جونز، من خلال جز رقبة(جيف) بالشفرة، وهو يراه جالسا القرفصاء ، يرتدي زي حمال في عربة بولمان ، كانه يرى نفسه عندما كان حمالا في امريكا ، يرمي الزهر على الارض امامه، ثم يلتقطه ويهزه ثم يرميه بحركة الية كما لو انه الة اوتوماتيكية ، لابراز نفس حالة التناقض للقمر ، ولكن هنا يتذكر الحدث الذي وقع في الماضي ، وتقمص جيف لشغل جونز، اشارة الى براءته بالمقارنة بين الشفرة والورد.
ويعود جونز ثانية الى جيف اثناء القاء منولوجاته في هذا المشهد،بسماعه صوتا غريبا وكأن شيئا حادا يسقط على الارض ، ويترأى له انه اشبه بصوت زنجي يرمي الزهر، ثم يقف مشدوهاً عندما يرى جيف.
وهو في الحقيقة لايوجد صوت ولا أي كائن بشري، الا انه نتيجة خوفه وصراعه النفسي مع حاضره وماضيه، يعيش في هذه الاوهام، ويتمثل الصراع مع حاضره في ضربات الطبل القوية واالسريعة التي كلما مر الوقت تقترب اكثر وماضيه قتل جيف بشفرة الموسى:
جيف!! انني سعيد لرؤيتك ! قيل لي انك مت جراء الجرح الذي اصبتك به بحد الموسى ، ولكن كيف اتيت الى هنا. الاتكلمني؟ هنا انت .. انت شبح (يخرج مسدسه في نوبة ممزوجة من الغضب والفزع) ايها الزنجي لقد قتلتك مرة .. هل لي ان اقتلك مرة ثانية؟ خذ اذن يطلق الرصاص ، وعندما انقشع الدخان كان جيف قد اختفى.
وهو في الوقت الذي تحاصره فيه الزنوج، وتترآى له الاوهام، لايتوانى ان يرى صعوبة التخلي عن وظيفة الامبراطور.
وهنا يقول الناقد روبرت ويتمان معلقا على الامبراطور جونز : ( انها مسرحية تدور حول شخصية واحدة، ففي شخصية بروتس جونز شخصية قوية لفرد دمرته نوازع متضاربة كامنة في طبيعته ، فمن ناحية نجده امبراطوراً متعجرفاً مغروراً يهزأ بخنوع بني جلدته وايمانهم بالخرافات ومن ناحية اخرى نراه زنجياً حائراً خائفاً ، يقع فريسة ماض ٍ ، سواء أكان ماضي جنسه، او ماضيه هو بالذات)4
وفي المنظر الرابع يتكرر هذه التناقض مرة اخرى ، ليصور الصراع الدائر في دخيله جونز بين وعيه ولاوعيه ، عبر وجود في الغابة شيئان لايجتمعان مع بعضهما ويتنافران عن الاخر ، وهما قذارة الطريق الواسع، وسطوع القمر . وهذا التناقض يتضح اكثر ، عندما ينتقل البطل الى الحدث، ويبدأ بالقاء منولوجاته ، ذلك ان القمر الساطع يزيد من مخاوف رؤيته للاشباح ، وها هو يقول :( ياالهي لاتدعني ارى هذه الاشباح ثانية). ولكن يصل الى ذروته عندما يرى الزنوج المسجونين يعملون في الطريق ، ويشير اليه حارس السجن ان يأخذ مكانه بينهم. واثناء قيامه بأخراج القاذورات، يخطر بباله مايريد الهروب منه ولايستطيع ، وهو ماضيه المتمثل بـ سجنه، وعمله حمالا ً ، وها هما هنا في الغابة يتعقبان اثره ومن ثم سوط ظهره من قبل الحارس ، والثاني بمحاولته في قتل الحارس الابيض ، باطلاق الرصاص من مسدسه عليه ، اذ في الحال تقترب حافتا الغابة ، ويختفي الطريق والمسجونين وسط ظلام دامس.
ومن المشهد الثالث يستجد اونيل تقنية ثالثة بالاضافة الى استخدام الرمز والوسائل الحسية، الا وهي فن البانتومايم (التمثيل الصامت) ،ففي هذا المشهد يتخيل وصف وهو يرمي الورد بحركات الية منتظمة ، والمشهد الرابع بحركات زنوج المسجونين الشبيهة بحركات جيف في المشهد السابق، الية بطيئة جامدة وكانهم الالات الاتوماتيكية، والمشهد الخامس بدخول مجموعة من الناس الى الارض الفضاء ، كلهم يلبسون زي اهل الجنوب ، انهم في منتصف العمر ويبدو انهم مزارعون اثرياء.... يتبادلون جميعا تحيات رقيقة كانهم في استعراض صامت ، وعندما يتحدثون فأن حديثهم هادئ، اما حركاتهم فخامة الية، وغير واقعية، اشبه بالعرائس، وفي المشهد السادس برؤيته لصفين من الاشباح وهم زنوج عرايا صامتين ، ثم يأخذون في التمايل الى الامام ثم الى الخلف في حركة واحدة منسجمة، وفي الوقت نفسه تنبعث منهم تمتمة حزينة ، وترتفع في تناسق متدرج وكأن دقات الطبول توجهها وتضبط نغمتها، ترتفع حتى تصبح عويلا ً يائسا ً يصل الى درجة حادة لاتطاق ، ثم تنخفض بالتدريج حتى تستحيل الى صمت ، وهكذا دواليك ، وفي المشهد السابع ابتداءً من تمايل الساحر وضرب الارض بقدمه على نغمات الخشخشة ويعلو صوته وينخفض الى ترنيم غريب لاتتخلله اية كلمات، وشيئاً فشيئاً يبدو في وضوح ان رقصه يحكى قصة (بانتومايم).
ومن المشهد الخامس يبدأ اليأس يدب في نفسه من خلال تضرعه الى السماء، وبالعودة تدريجيا الى اصله ، عبر تمزق سرواله وحذائه.
ويومئ اونيل عبر هذين الرمزين في ساحة المزاد العلني ، حيث المزارعون الاثرياء يفحصون مجموعة من العبيد ويقيمون كل واحد منهم ، وجونز جالس على جذع الشجرة، يومئ اليه عبرهما زائدا ً جلسته هذه وكأنه حيوان معروض للبيع ، سيما وان الدلال يشير اليه ويطلب من الفلاحين ان ينظرو الى اعضاء جسمه السليمة والقوية .. انظروا الى ظهره ، انظروا الى كتفيه ، انظروا الى عضلات ذراعيه وساقيه القويين ، انه قادر على اي عمل شاق.
وفي المشهد السادس يتمزق سرواله حتى ماتبقى منه لم يعد افضل من خرقة تستر العورة ، ويتخيل صفين من الاشباح ، كلهم زنوج عرايا على شاكلته.

وفي المشهد السابع يصبح جونز تحت تاثير مغنوم مغناطيسي ويشارك في التعاويد وفي الصيحات ، ويشير الساحر بعصاه الى الشجرة المقدسة، ثم الى النهر والى الجذع واخيرا الى جونز امرا ان ارواح الشر تطلب القربان ، اي ان يضحي هو نفسه للتمساح.
وفي المشهد الثامن يتبين ان الزنوج قد تأخروا في قتل جونز او حتى في القاء القبض عليه ، بسبب ايمانهم انه لايموت الا بالرصاص الفضي، ولذلك فقد انشغلوا في صنعه، ومتى ما اصبح جاهزا تمكنوا من قتله، وتنتهي المسرحية بهذه الجمل من ليم: ايه هذا جزاؤك ياجونز يابني . انك ميت كالسمكة! (في سخرية) اين كبرياؤك وجبروتك واين عظمتك! (ثم ببسمة عريضة ساخرة) الرصاص الفضي يا الهي ! ايه مت من احسن مايكون الموت ، على اية حال!..
اما مسرحية (القرد ذو الشعر الكثيف) او (الغوريلا) التي كتبها اونيل عام 1921 . اي بعد عام من كتابة مسرحية الامبراطور جونز، فتتكون من اثنتي عشرة شخصية وقوعا ً تحت تأثير انتحار احد البحارة الايرلنديين ويدعى (دريسكول) ، اذ اثار خياله ودفعه ان يبحث عن الاسباب التي ادت به الى هذه الخاتمة، فكان ان وثبت هذه القطعة الفنية الرائعة من بين انامله. التي يعلو فيها صوت (يانك) على اصوات شخصيات المسرحية، ذلك لانه الشخصية الرئيسية الوحيدة فيها، ومحورها، ومحرك احداثها. اما بقية الشخصيات كـ(بادي) و(لونج) ماهما الا شخصيتان يلعبان دور الكورس كبقية الاصوات التي تتردد بين فينة واخرى من بداية المسرحية الى نهايتها، وان ارتفعت اصواتهما احيانا، الا انها سرعان ما تتلاشى حيال قوة صوت يانك المؤيدة له الاصوات الاخرى. و(ميلدرد) هي الشخصية الاستثنائية ، على الرغم من ظهورها المتواضع وفي المنظر الثاني فقط ، تقابل شخصية يانك، بفعل الدور الجوهري الذي تلعبه في التغير الذي طرأ على شخصيته من جهة، وتمثيلها للطبقة الرآسمالية التي تنتمي اليها من جهة ثانية.
يبدأ المنظر في حجرة الوقيد بسفينة تمخر عباب بحر الاطلنطي منطلقة من نيويورك ، وهي مزدحمة برجال يتصارعون ويتشاتمون ويضحكون ويغنون، تحيط الحجرة ثلاث طبقات من اسرة ضيقة من الصلب في الجوانب ومدخل في المؤخرة وارائك على الارض امام الاسرة ، وسقف الغرفة واطئ ، وهو اشبه بسجن ،ذلك بالاضافة الى الطبقات الثلاث المحيطة بالحجرة ثمة سقف يجثم فوق رؤوس العمال الذين يعملون فيها، فلا يستطيعون ان يعتدلوا في وقفتهم وهم بذلك اشبه بالصور المتخيلة عن مظهر انسان النياندرتال .
وما ان ترفع الستارة عن هذا االمظهر حتى يبدو يانك جالسا في المقدمة اكثرهم انسجاما مع هذا الجو من العمال الباقين، لايكف عن معارضة الذين يتوقون الى بيوتهم كأحدا السكارى من المطربين، او الذين يرمون لوم الجحيم الذي يعيشونه على عاتق اولئك الخنازير الكسالى المنتفخين ركاب الدرجة الاولى .. طبقة الرأسمالين الملاعين كـ لونج، او الذين يحلمون بماضيهم ومستقبلهم كـ بادي، بتبرير ان السفينة التي يقلونها هي بيتهم ، وان البيت هم الجحيم ، وان مهنتهم مهنة الرجال، مهنة اصيلة، لذا فأنهم احسن حالا من طبقة الراسماليين..........
نفهم عبر معارضة يانك واجاباته على طروحات الشخصيات الثلاث الانفة الذكر ، انه ليس راضيا عن المكان الذي يعمل ويعيش فيه فحسب وانما بالاضافة الى ذلك لايرى مكانا اخر افضل منه، وعملا اخر اشرف منه، وانه ينتمي اليه انتماءاً تاما، لذلك فهو يعيش في الحاضر وليس في الماضي ولا المستقبل ، ولكن هذا لايعني انه في منآى عن الاحلام، لقد فصل كما يقول ايليا حاوي( سعادته على واقعه ، كما انه ابتنى عليه احلاما زاهية ، دفعته الى تنظيم قدره والشعور بأنه ليس طارئاً) 5
ولكن سرعان ماتتبخر الهالة التي وضعها اعطافه ، في اول لقاء بـ ميلدرد ، ابنة مدير المصنع الذي يشتغل فيه، وهي تنزل فتحة الفرن تحت ذريعة معاضدة عماله، عندما يقع نظره عليها، فتخرج صيحة اليمة وصرخة مخنوقة منها ، وتبتعد واضعة يديها امام عينيها لتخفي وجهه تحمي نفسها وهي تقول : أبعدوني عن الوحش المفترس!
وتغشى يانك سورة من الغضب والارتباك ويشعر كأنما أهين بطريقة منكرة في صميم مالديه من كبرياء ويجأر عليك اللعنة.
ومن هنا تبدأ نقطة التحول في حياته ، وبعد هذا اللقاء، كما يقول الدكتور رشاد رشدي ، (يفقد الشعور بالانتماء وكأن كل شئ قد تحطم فجأة وبلاسبب ، فأدراكه الضعيف للامور ابسط من ان يتبين السبب، فميلدرد قد اصابته في الصميم ، فقد حطمت الصورة المثالية التي تجعل لحياته اتجاها ومعنى، فقلت منابع الثقة في نفسه والفخر بالمهمة التي يؤديها).6
ويبدأ بالبحث عن ميلدرد للانتقام منها. ظنا منه ان قوته الجسدية ستعيد اليه كرامته وعزة نفسه، بالاضافة الى الثقة المفقودة في نفسه، فيخرج الى الشارع، حيث يزدحم الاثرياء من ابناء الطبقة الرأسمالية للاعتداء على من يلقاه منهم ، وعندما لايستجيب احد من المارة على تعليقاته وتحرشاته، يسعى الى ان يثبت بأنه هو الاصل، وليس الحيوان الذي ظنوه ويانك الانسان الذي يحرك العالم مشيرا الى ناطحة سحاب لاتزال في طور البناء بتفاخر: هل ترون هذ البناء الذي يقيم هناك؟ هل ترون مافيه من اعمال الصلب ! هذا الصلب هو انا! انتم تعيشون عليه وتظنون انكم شيء ما ، ولكنني في داخلي ، اتفهمون؟ انا الالة الرافعة التي تقيمه ! انا هو ... قلبه وقاعه! ولاريب فأنا الصلب والبخارا والدخان وبقية هذه الاشياء ، انها تتحرك وتسرع .. خمسة وعشرون طابقا .. وانا اتحرك معها في القمة وفي القاع ! اما انتم ايها المتعجرفون فلا تتحركون ، انتم مجرد دمى اديرها واشاهدها وهي تدير ، انتم حثالة ، انتم قمامة، انتم الغبار ، الذي نلقى به جانبا..... كلاب.....
ان تكرار مفردتي افكر والصلب ، لم يأتيا اعتباطا على لسان يانك ، وانما بهدف توظيفهما للتغير الذي طرأ على شخصيته ، وهو في السجن ، عندما تراوده بعض الافكار المزعجة بشأن والد ميلدرد العجوز ، رئيس اتحاد الصلب الذي ينتج ما في العالم من صلب...... الصلب الذي كان يانك يظن انه ينتمي اليه .... يمخر...ويتحرك على هذا النحو فيصنعها (هي) ويحبسه (هو) لكي تبصق ميلدرد عليه.
وتتكرر مفردتا الاصيل وغير الاصيل بحدود اربعين مرة لنفس الغرض ، وياتي ترديد المفردة الاولى لاظهار يانك على قوته الجسدية في قهر طبقة الراسماليين وقدرته على تشغيل الات المصنع ، اما الثانية فيأتي ترديدها للاستخفاف بقدرة هذه الطبقة ، باعتبارها كسولة وتعتمد على كد الاخرين وانتاجهم في تكديس اموالها وجمع ثرواتها ، ولكن عندما تبوء كل محاولاته بالفشل في الوصول الى ميلدرد وعدم استجابة الاخرين لاعتداءته ينقلب الصلب الذي يتباهى بصنعه ضده، وليصبح هو غير الاصيل ، بوضعه في القفص، وتحوله الى قرد حقيقي .
ويعيد ايليا حاوي الوهم الذي خلقه يانك لجسده الى (توحد الواقع والمثال بالغبطة في نفسه، معلقا على ذلك بقوله: ولعل اونيل اراد ان يشير بذلك الى ان الجهل والقوة والحلم قد تولد حالة من السعادة الفعلية ، اذ حسب السعادة ان تكون في النفس، سيان اكانت بهيمية وهمية، ام انسانية ، فكرية)7

ويتفق الدكتورعبدالله عبد الحافظ مع الدكتور رشاد رشدي ، ان الموضوع الاساسي في مسرحية (الغوريلا) هو الانتماء ، باعتباركما يرى الاول (انها ترمز للانسان الذي فقد انسجامه القديم مع الطبيعة، الانسجام الذي اعتاد ان يتمتع به عندما كان حيوانا والذي لم ينله بعد كانسان له روح ، وهكذا عندما عجز عن ذلك على الارض، ولا في السماء وجد نفسه معلقا بينهما ، محاولا ايجاد هذا التلاؤم الذي ينال في سبيل تحقيقه الضربات تلو الضربات)8 ، والثاني ( ان يانك هو رمز للانسان ، ورغبته في الانتماء ليس مجرد رغبة فردية بل هي مشكلة جماعية ، مشكلة الانسان في كل زمان ومكان)9 .
واذا كانت الحيل التعبيرية في مسرحيته (امبراطور جونز) تكمن في المناظر والحدث والحبكة، فأنها في هذه المسرحية وكما يقول الدكتور عبدالله عبد الحافظ تكمن (في المشاهد، فالمشهد الاول يقع في مقدمة السفينة في مكان الوقادين. ويقول اونيل عن هذا الشمهد ، ان معالجة هذا المشهد او اي مشهد اخر في المسرحية لايمكن باية حال من الاحوال ان يكون واقعيا ، اذ ان الاثر المطلوب هو تصوير مكان خانق في بطن السفينة يحيطه الصلب ، مما يوحي بقفص او سجن...10)
ويبرز التناقض في هذا الشمهد ، اي الصراع بين وعي ولاعي يانك، بين المكان الذي يعمل فيه الاقرب الى السجن ، والمعنويات العالية التي يتمتع بها .
وفي المشهد الثاني على سطح الباخرة ، يظهر هذا التناقض بين اشعة الشمس على ظهر المركب الذي يهب عليه هواء البحر البكر،والشكلان المتنافران والمتكلفان والخاليان من الحيوية والانسجام ، اولهما العجوز الشبيهة بكتلة من العجين الخمران مخضبة بالدهان الاحمر، وثانيه هي ميلدرد ، الفتاة التي تبدو كأن حيوية عنصرها قد غادرت حتى من قبل ان تحملها في بطنها بحيث لم تعد تمثل طاقته الحيوية وانما اصبحت تعبيرا عن مجموع الصفات المصطنعة التي تكسبها الطاقة اثناء عملية تشغيلها وتصريفها.
والمشهد الثالث في موقد السفينة، بين زي ميلدرد الابيض الناصع ، والدخان الكثيف الاسود المتصاعد في مكان الوقادين، والمشهد في احد اركان الشارع الخامس في نيويورك بين يوم الاحد والجو مشرق فيه وذهاب الناس الى الكنيسة، حيث يدعون المزيد من الجاه ، والمشهد السادس في سجن جزيرة بلاكول ، والسابع بالقرب من الشاطئ ، احد المكاتب العالمية لمنظمة العمال الصناعيين في العالم . والثامن في حديقة الحيوان ، ومن خلال تسلط الضوء على احد الاقفاص ، والظل على الاقفاص الاخرى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-