الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بضعة أعوام ريما: مستهل الفصل الثاني عشر

دلور ميقري

2020 / 6 / 16
الادب والفن


1
برغم سنّها، المتجاوزة الثمانين، أشرفت السيدة شملكان على تحضير العشاء مع نساء ابنها، الثلاث. المطبخ، وكان مملكتها مذ أن حلّت في هذه الدار، لاحَ على أكمل وجه وفرةً وتنوعاً: غلال الحبوب ( قمح وبرغل ورز وعدس وحمّص وفاصولياء)، حفظت في أكياس خيش؛ البطاطا والبصل، قبعت في سلالها كي تصمد أمام تقلّب الفصول؛ أعواد الثوم والبامية المجففة، علقت على الجدار بواسطة خيوط تلفها أو تخترقها؛ أكياس من الدقيق الأبيض والرماديّ، عزلت على الأرفف كيلا تعبث بها الفئران؛ براميل مخلل، مختلفة الأنواع؛ قطرميزات الزيتون والباذنجان المحشو بالجوز والفليفلة الحارة، غارقة بزيت الزيتون؛ أوعية زجاجية، تحتوي على الجبنة الناصعة كالفضة، تسبح في الماء المالحة، المُنقّطة بحَبّة البركة..
المنزل، من ناحية أخرى، عاشَ في شبه سلام متصل لعقد من الأعوام تقريباً؛ وتحديداً، من وقت قدوم ريما كعروس. سحر شخصيتها، لعبَ دوراً مؤثراً في تصويب مسلك الزوج وكبح نوبات انفعاله وكان في السابق سبباً للخصام والمشاحنة، المؤدية في بعض الحالات لطلاق هذه أو تلك من نسائه. على ذلك، لم يكن غريباً أن تتسم علاقتها مع ضرّتيها بالود والاحترام لدرجة أن أولادهما كانوا يخاطبونها بصفة الأم. وكان هذا يعزيها عن حرمانها من الأمومة، عقبَ وفاة ابنها خالد وكان في الرابعة من عُمره. لكنها أعطت دلائل في هذا الصيف على كونها حامل، ما يعني أنها ستنجبُ طفلها في ربيع العام القادم. وسنستبق الأحداث للقول، أن المولود أتى بالفعل وكان بنتاً: إنها والدة كاتب هذه السيرة، وقد رُزقَ بها صالح بعد ثلاثة أولاد؛ بنت وصبي من حواء، وابنة من مليحة.

***
عشاءات الخميس، كانت تعدّ بصورة دائمة من أجل ضيوف عديدين، سيقضون السهرة، التي تحييها أم كلثوم أول كل شهر وتنقلها الإذاعة المصرية. صالح، كان من أوائل مَن اقتنوا جهاز راديو في الحارة. كان ذلك بعدما أدخل لأول مرة الحافلة الكبيرة، ( الأوتوبيس )، كي تعمل بين حي الأكراد ومركز الشام. في البدء، اشتغل بنفسه على الحافلة. لكنه كان يخجل ممن يعرفه، فلا يأخذ منه ثمن التذكرة. كيلا يخسر المشروع، نتيجة كرمه المتهوّر، استخدمَ سائقاً شاباً، أصله من ديركا جبل مازي. الشاب، كان يُدعى " علي دينو "، وذلك بسبب عصبيته وسهولة إثارته. لما كبرَ ابن صالح البكر من حواء، " ديبو "، حلّ بمكان ذلك الشاب.
أيضاً سنخالف تسلسل الأحداث، لنذكر أن أول أوتوبيس عمل في الجزيرة، في شمال شرق سورية، كان بهمّة زوج ريما. كانا قد انتقلا للعيش هنالك، بغيَة استثمار مزرعة كبيرة بالقرب من بلدة رأس العين ( سري كاني ). إذا كانت إيرادات الأوتوبيس لم تعُد تغطي ثمن المازوت وأجرة الميكانيكي، فلأن الابن ديبو سار على شيمة الأب لناحية الكرم: كان الكثير من الركاب القرويين يستعطفونه، بأنهم لا يملكون ثمنَ التذكرة، فيشفق عليهم ويركّبهم مجاناً.

***
ذاتَ خميس، مرّ صالح بسيارته في سوق الجمعة وابتاع كمية كبيرة من المصران لأجل الطبخة المعروفة عند أهالي الشام ب " الحَفاتي ". لدى وصوله للحارة، جال على أقاربه وجيرانه كي يدعوهم كالعادة لسهرة الخميس، قائلاً: " وستتذوقون الحفاتي من مطبخ منزلي ". نفس البلاغة كررها على مسمع أمه، لكنها بسبب ثقل سمعها ظنت أن الوليمة لليوم التالي. وكانت محقة في ظنها، طالما أنه حضرَ إلى الدار عند الأصيل؛ وهذه الأكلة تحتاج لوقت طويل كي يتم تنظيف المصران وحشوه بالرز واللحمة الناعمة ومن ثم طهيه.
" هل أعدتم المطبخ القديم للخدمة، لكي تبقى رائحة الحفاتي بعيدة عن أنوف الضيوف؟ "، تساءل صالح فيما كان يلقي نظرة على نسائه المنهمكات بإعداد العشاء. انبرت ريما للجواب، متسائلة بدَورها في استغراب: " أيّ حفاتي هذه، وقد غربت الشمس؟ "
" رباه، ماذا تقولين؟ لقد طلبتُ منذ عدة ساعات من السيدة الوالدة أن تدعوكم لتحضير هذه الأكلة، لأنني وعدت بتقديمها لضيوف سهرة الخميس "
" العشاء جاهز تقريباً، وفي وسعك دعوتهم على الحفاتي غداً الجمعة على الغداء كونه يوم عطلة "
" لا، الوعدُ وعدٌ! بادروا إلى العمل بسرعة في تنظيف المصران وحشوه، لأننا في بداية السهرة سنقدم الفواكه والنقل بينما هم يستمعون لأم كلثوم "، قالها بنبرة قاطعة ثم انسحبَ من المطبخ كيلا يسمع المزيد من الاعتراض.
انتهت وصلة أم كلثوم، والحفاتي كانت ما تفتأ على النار. بين فينة وأخرى، كان صالح يطل على المطبخ لحث نسائه على الاستعجال أو السؤال عما بقي من وقت. في الأثناء، كان يُسلي ضيوفه بالأحاديث وكان غالبيتهم رجال من جيرانه. أخيراً، نادت ريما زوجها كي يرى الأكلة وقد نضجت. انهمك في المطبخ في المساعدة بصب الحفاتي في الأواني الخزفية، لحين أن طلبت منه امرأته العودة إلى ضيوفه. لما خرجَ إلى صحن الدار، أينَ جلس الضيوف تحت عريشة عنب، فاجأه ما يُشبه صوت خرير الساقية. على ضوء المصباح الكهربائي، الوحيد والشحيح، رأى صالح ضيوفه قد غطوا في النوم وشخير بعضهم عكّرَ هدوء تلك الساعة المتأخرة من الليل.

2
جروس، كان من أولئك الجيران، المنتمين لعشيرة آله رشي. لقد تعرفنا عليه في بداية الحكاية، لما أرشد الفتى حدّو إلى منزل صهره صالح. هذا الأخير، كان في كل مرة مرَّ بسيارته من قدام دكان الرجل، يجعله ضحية أحد المقالب، المثيرة ضحك مَن يتواجد هنالك على الجادّة. شكل صاحب الدكان، الكائن بمقابل الزقاق، كان يُضافر في إضفاء المرح على المقلب. لعلنا عرفنا أن الرجل، المناهز الثلاثين من العُمر، كان ضئيل الجسم وسمرته شديدة. بكلمة أخرى، كان شبيهاً لأحد الأشباح، التي تتوارى في عتمة الدهليز، الطويل والضيق؛ أينَ تنفتح أبوابُ بيوت آله على بعضها البعض.
هيَ ذي سيارة الفورد، تتهادى على مهل في درب الزقاق المترب إلى أن أضحت عند مدخله. كان الوقتُ في ساعة متأخرة من الصباح، ضجَّت الجادّة فيها بحركة الباعة والمتسوقين. جروس، كان إذاك يراقب عنزته السوداء وكانت تقضم الحشائشَ، الموضوعة على طرف الدكان من جهة نزلة البستان، المعروف على لسان الأهالي ب " رزّي آنا "؛ أي كرمُ الأم. هذه العنزة، سبقَ واشتراها جروس قبل بضع سنين لتكون أضحية العيد الكبير. لكنه في كل مرة كان يؤجل ذبحها إلى العيد القادم، إلى أن صارت أشبه بجمل صغير. لكن جيرانه كانوا يشبهون الماعز بصاحبها، بالإحالة للونهما، قائلين أنهما تآخيا بالفعل.
" مرحباً، صالح آغا "، حيا جروسُ سائقَ السيارة في ود وكان هذا عندئذٍ يمر بها على مهل من قدّام الدكان. هنا، وعلى حين فجأة، عمد صالح إلى إطلاق بوق السيارة بقوة. فإذا بالماعز تجفل، وكان حبلها ملفوفٌ على ساعد صاحبها. مع اندفاع الحيوان بذعر، سُحِلَ جروسُ عدة أمتار على أرض الجادّة إلى أن انفك الحبلُ من تلقاء ذاته. في الأثناء، كان صالح يتابع المشهدَ مقهقهاً من خلال مرآة سيارته، الجانبية.

***
" فاتو "، امرأة جروس، كانت من الجارات المقربات لريما. للمصادفة، أنهما كلتاهما أنجبت ابنتها البكر في نفس العام. كون منزليهما الباب للباب ـ كما يُقال ـ كانت الجارة تحضر إلى دار السيدة شملكان بالثوب البيتيّ والشبشب في قدميها. باب البيت التحتاني، باتَ في ذلك الوقت يُترك مفتوحاً كي تتمكن فاتو وقريباتها من الدخول دونَ إزعاج نساء المنزل بالطرق المتواصل. ذلك أن أعمال النسوة كانت تتم في القسم الفوقاني من المنزل، فيما الحديقة ومصنع المياه كانا في القسم التحتاني. مثلما سبقَ وذكرنا، كان الحيران يستفيدون من أريحية السيد صالح، فيستخدمون المصنع كحمّام مفتوح في أيام الدفء، وذلك في وقت معيّن للنساء وآخر للرجال. لكن فاتو كانت تأتي غالباً في الصباح، لتشارك نسوة الدار في الأعمال البيتية. ذات مرة، اقترحت على ريما أن تزودها بعدد من الطيور المدجنة كي تسرح في الحديقة. لكن المضيفة لم يعجبها الاقتراح، وقالت موضحةً: " أبو عثمان حريصٌ للغاية على حديقته، والطيور ستعبث بها وتوسخها ". في صباح اليوم التالي، جاءت فاتو وأطلقت عدداً من الدجاجات في الحديقة. على الأثر، جهزت هنالك قناً مناسباً لتلك الطيور. لم تستطع ريما الاعتراض، بالأخص حينَ رأت أولاد الدار يندفعون وراء الدجاجات وهم بغاية السعادة.
" رباه، ما هذه الفوضى في الحديقة؟ الأرضية ملطخة بزرْق الطيور، وآثار أقدام الأطفال في الأحواض "، هتفَ صالح بانزعاج حالما صعد إلى البيت الفوقاني. عند ذلك أخبرته ريما بجليّة الأمر، ثم اختتمت ضاحكةً: " لقد ردت لك فاتو، هذه المرة، ما فعلته أنتَ برجلها من مقالب! ". لكن في اليوم التالي، تمت إزالة القن من الحديقة وردّ الطيور إلى صاحبتها. ذلك كله، جرى وسط احتجاج أطفال المنزل.

***
" علي بطة "، كان كبير وجهاء عشيرة آله رشي. اعتاد على الجلوس صباحاً في المقهى، المعروف باسم صاحبه؛ " فيصل دقوري ". أيام الدفء، كان الرجل يجلس إلى إحدى الطاولات، الموضوعة خارجاً بإزاء الجادّة. أحياناً، كان صالح يشاركه مجلسه مع عدد من رجال الزقاق. في ذلك الزمن، كانت مألوفةً عادةُ استعمالِ مادةٍ تجلبُ العطسَ، يضعها الرجالُ المقتدرون في علب فضية صغيرة. في أحد الأيام، راقبَ صالحُ كبيرَ الوجهاء ذاك حينَ كان يُضيَّف مادةَ العطّيس. قال له ضاحكاً: " علي آغا، لِمَ تستولي كل مرة على جلّ ما في علبة مضيفك؟ "
" لأنّ أنفي عظيمٌ، كما ترى، ويحتاج من العطّيس لأضعاف ما تحتاجه أنوفكم الصغيرة! "، رد علي بطة ضاحكاً وقد تضرج وجهه. مع كون الرجل ليسَ من الأصدقاء المقربين لصالح، فإن هذا دأبَ على دعوته إلى سهرات الخميس. ذاتَ يوم، انحنى صالح على الوجيه، ليقول له هامساً: " هذه الليلة، سنقارعُ أقداحَ العَرق ". عندما حضرَ علي بطة مساءً إلى منزل صالح، وجد عدداً من أقارب المضيف وكان منهم سلو وفَدو؛ ابنا زعيم الحي السابق. استمرت السهرة حتى طلوع الفجر. من عادة الرجال، أن الواحد فيهم لو كان ضيفاً لا يطلب استعمال المرحاض. في نهار اليوم التالي، لما التقى علي بطة مع صالح، قال له متأوهاً: " آه، يا أبا عثمان. لقد قضيتُ ليلة سيئة، عقبَ خروجي من منزلك. لأنني حينَ أردتُ التبوّل، حاشاك، تعذّر عليّ ذلك لأن المجاري حُبست طوال ليلة كاملة! ".

* مستهل الفصل الثاني عشر/ الكتاب الخامس، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا