الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإقدام والتحدي في شعر الحب الجاهلي

سعد سوسه

2020 / 6 / 17
الادب والفن


ان الناظر في الشعر الجاهلي يجد فيه الكثير من الصفات والخصال التي يحبذها المجتمع ويتمنى وجودها في الرجل وهي ان يكون شجاعا مقداما متحديا لا يخاف المصاعب متجاوزا لكل ما يعيق طريقه وهذه الشجاعة لا تقتصر على الرجل الفارس بل على الرجل العاشق وغير العاشق أيضا، لان أولئك العشاق ((رجال آمنوا بالحب، فعظموه ومجدوه واستهانوا من اجله بما يقاسي عباد الجمال، من مصاعب وأهوال. لقد طاب لهم ان يفتضحوا بالحب، وان يجعلوه نصيبهم من المجد)) ( 1 ) . فانشد عنترة:
تغالتْ بي الأشواقُ حتَّى كأنمـا بَزندينِ في جوفي من الوجدِ قادحُ
وقد كنتَ تخفي حبُّ سمراءَ حقبةً فبح لان منها الذي أنتَ بائـحُ
وقد استطاع الإنسان ان يعبر عن عاطفة الحب بأشكال متنوعة كأن الشعر والبطولة والحرب والأسطورة والرمز صورة من صور الحب ولونا من ألوانه ( 2 ) .
وقد كان للبيئة العربية أثرها في بلورة هذه العاطفة وساعدت على تكوين أخلاق وتقاليد جديدة سرت في روح العربي وتمكنت من نفسه.. وهي صفات الفروسية التي آثارها في عاطفته وحبه فهو يحب ان يظهر أمام حبيبته بمظهر القوي الذي يحميها ويخاطر في سبيلها( 3 ) . قال امرؤ القيس:
جَزِعتُ ولم أجزعْ من البينِ مَجزَعا وعزَّيتُ قلباً بالكـواعبِ مُولعا
وأصبحتُ ودّعتُ الصِّبا غير إننَّـي أراقبُ خلاَّتٍ من العيشِ أربعا
….
إذا أخذتها هزَّةُ الرَّوعِ أمسكتْ بمنكبِ مقدامٍ على الهولِ أروعا ( 4 ) .
فهو غير مبال بالموت اذا حل به ما دام مملوء قلبه بحب حبيبته.
ويبدو ان الشاعر العاشق قد جعل (( من الحب ملحمة يتغنى فيها بحسن بلائه وعظيم جهاده، ويفنن فيها في جلاء مظاهر بطولته تجاه ما يعاني من صنوف العذاب وصار بذلك بطلا لملحمة من نوع جديد)) ( 5 ) . قال عروة بن حزام:
تحمّلتُ من عفراءَ ما ليس لي به ولا للجبالِ الرّاسياتِ يدانِ ( 6 )
وان هذا الشعور بالقوة والسمو راجع إلى اثر الحب في تهذيب العاشق واكتمال خلقه وشخصيته فان الحب هو الينبوع والمصدر لكل الأشياء الخيرة، ولولاه ما عرف الإنسان معنى اللطف والمجاملة والتظرف. يقول (اندرياس):ان الحب يحول الرجل الفظ الغليظ إلى ظريف لين العريكة، ويزود الرجل الوضيع المنشأ بالخلق النبيل… وان المحب لقادر على البذل مستعد لإستداء المعروف لأي كان من الناس( 7 ) .
وينبغي لنا ان نتأمل النموذج الشعري الذي يعمد الشاعر إلى صياغته فترى ان الأغراض التي عرض لها الشعراء الجاهليون، لم تكن في كثير من الاحيان مقصودا إليها قصدا، ولا متعمدا تعمدا، بل كانت روح الحب وعواطف الهوى هي التي يبتغيها ،وهي التي تكمن ورائها، وكانت هذه الأغراض تتصل بالغزل بهذا السبب او ذاك، فمثلا التغني بالشجاعة والإقدام الذي انشده عنترة في معلقته، لم يكن بعيدا عن روح الغزل بل كان منه منبعه ومصدره فذلك مهره للمرأة الحبيبة عبلة ( 8 ) . فهو القائل:
هلاَّ سَألتِ الخيلَ يابنةَ مالكِ أن كنتِ جاهلةً بما لم تعلمـــي
إذ لا أزالُ على رحالةِ سابحٍ نهدِ تعاورهُ الكُمأةُ مُكلَّـــــمِ

يُخبركِ من شهدَ الوقائعَ أنَّني أغشى الوغى وأعفُّ عند المغنمِ ( 9 ) .
ففي هذا الفخر لم ينس الشعراء فخرهم بأنفسهم أمام محبوباتهم فتغنوا بسجاياهم الكريمة وصفاتهم المحمودة في حدود المفهوم الاجتماعي والخلقي الذي تعارف عليه المجتمع الجاهلي(10 ) . فعنترة لا ينسى فخره بفروسيته المادية التي تتمثل في شجاعته الحربية وفروسيته المعنوية الخلقية التي تتمثل في عفته وخصاله التي يفخر بها أمام ابنة عمه عبلة.
وان الشعراء الفرسان ولا سيما العشاق يتغنون بمجموعة من الفضائل والخصال وهو جانب واضح في شعر عنترة… وقد ظل عنترة يتغنى بحب عبلة طوال حياته تغني المحب المحروم ويمكن ان يعد ابا لشعر الحب العذري عند العرب. كما يعد فعلا اباً للفروسية العربية ( 11 ) . فهو يتذكر حب عبلة في أحرج أوقاته واعظم مفاخره فقد ذكرها والسيوف تتصافح وبلغت به شجاعته وحبه معا انه ود ان يقبل السيوف لأنها تبرق وتلمع كما تلمع ثناياها. فهو القائل:
ولقد ذكرتكِ والرِّماحُ نواهلُ مني وبيضُ الهندِ تقطرُ من دمي
فوددتُ تقبيل السُّيوفِ لأنها لمعتَ كبارقِ ثغركِ المتبسّـــمِ
فهو دائم الذكر لها في وغى الحرب، وحتى حين تعبث به سيوف أعدائه ورماحهم انه من اجلها يحارب ويخاطر ويغامر. وان ((وجع الحب، هو الذي جعله يتصور حبيبته معه أينما ذهب، فان عبلة لم ترافق عنترة في شعره الحربي وحده، بل رافقته في شعره الحماسي))( 12 ) . فهو (( شعر ممزوج بالعاطفة المتأججة المتألمة))(13 ) . وما كانت فروسية عنترة إلا وليدة صدقه في الحب فهو (( بطل الحب العفيف المعذب، الذي يغامر في سبيل ابنة عمه، ويغالي في طلبها)).
يا عبلُ لولا أن أراكِ بناظري ما كنتُ ألقى كلَّ صعبٍ مُنكــرِ ( 14 )
وكانت الحبيبة تثير في نفس المحب اهتمامه الكبير بشأنها ولهذا نجدها موضع عنايته يتوجه إليها بجليل أعماله، فهو يبين قوته وغيرته على حبه فهو القائل:
إذا لعبَ الغرامُ بكلِّ حــرِّ حمدتُ تجلُّدِي وشَكرتُ صَبري
وفضلتُ البعادَ على التَداني وأخفيتُ الهوى وكتمتُ سرِّي
ولا أبقي لعذَّالي مجـــالاً ولا أشفي العدُّو يَهتكُ ستري
وان التحديات التي عانى الشعراء من وطأتها تمثلت باضطهاد اسري او حرمان من حس مادي او معنوي او إخفاق من وشيجة اجتماعية ( 15 ) . وربما قد تشكل الأحداث الشخصية منفذا آخر من منافذ المعاناة التي تشكل تحديا يستدر استجابة فكرية يحاول الشاعر من خلالها تنظير الصيغة التي يقررها طموحه الإنساني، وقد رأينا ان تحديات الفقر والضعف وعقد النقص والغربة الذاتية شكلت منطلقا لمواقف متعددة استوعبها الشعر استجابة للتحدي المباشر ( 16 ) .
وذلك كله باعثا على معاناة من أنماط أخرى لعل أوضحها ما كان يعانيه بعض الشعراء السود لاسيما العشاق منهم، غربة قاسية تباينت وسائلهم في محاولة تجاوزها فيسلكون سبل شتى للتعويض عن عقد النقص . وعليه ترى ان العربي في الجاهلية كان صاحب أنفة وشرف ويأبى الضيم ويغار على العرض… ولم يكن اشد منهم غيرة على العرض، وفي إخبارهم ما لا يحصى من الدفاع عن المرأة وعرضها. فقد اظهر الفرسان الشعراء بطولات نادرة مصبوغة بالغرام والحب لاسترجاع الفتيات الأسيرات في مناسبات تفوق الحصر. وكان الحب في نظر العرب نعمة يبعث الشعور الصادق، والعاطفة النبيلة، ويوقظ صفات الرجولة والبسالة. فكان لكل فارس حبيبة تومئ إليه بأمثلة الشجاعة فكانت فروسية العرب فروسية حقة تمتاز بالإخلاص والجمال . وخير دليل على تلك البطولات التي خاضها الشعراء العشاق الفرسان من اجل فك اسر الحبيبة من يد الأعداء هو ما فعله وافصح عنه ابو نصر البراق:
لأفرجنَّ اليومَ كُلَّ الغُمـَــمِ مِن سبيهم في اللَّيلِ بيضَ الحرمِ
صبراً إلى ما ينظرونَ مقدمي أنيّ أنا البرَّاقُ فوقَ الأدهـــمِ
لأرجعنَّ اليومَ ذاتَ المـبسمِ بنتَ لُكيزَ الوائِليِّ الأرقـــــمِ ( 17 )
وقوله :
أمن دونِ ليلى ، عوَّقتنا العوائـِقُ جنودٌ وقفرٌ ترتعيهِ النَّقانِـــــقُ
وعجمٌ ، وأعرابٌ ، وأرضٌ سحيقةٌ وحِصنٌ ، ودورٌ دُونها ، ومغالِـــقُ
وغرَّبها عنِّي لُكيزٌ بجهلـــــهِ ولمَّا يعقهُ ، عند ذلكَ ، عائـِـــقُ
وقلَّدني ما لا أطيقُ ، إذا ونــتْ بنو مُضرَ الحُمرُ ، الكرامُ ، الشَّقائِقُ
وأنِّي لأرجوهم ،ولستُ بآئــسٍ وأنِّي بهم ياقومُ، لا شكَّ ، واثـِـقُ
فمنْ مُبلغٌ بُردَ الأيادي وقومــهُ بأنِّي بثأري. لا محالةَ لاحِــــقُ
رمى اللهُ من يرمي الكعابَ بريبةٍ ومن هو بالفحشاءِ والمكرِ ناطِقُ
ويصف مضاض الجرهمي بطولته وقوته من خلال ما صرح به امام حبيبته قائلا:
صريعُ هوى نائي المحلةُ نـازحُ سبحاً بعد أشراقِ الصباحِ نهـارهُ
على أنهُ قرنٌ إذا هبَ طــارقٌ فَليث عرينَ لا يشقُ غُبـــارهُ
وترى ثمة شعراء عانوا من ظروفهم الشخصية حد اليأس ولكنهم ظلوا يواجهون قدرهم من موقع الطموح لاحتلال مواقعهم الاجتماعية التي تليق بهم. ولعل امرأ القيس الذي عانى من اضطهاد الأب في شبابه وحمل مسؤولية إعادة بناء مملكة كندا المنهارة بعد مقتل أبيه يمثل واحدا من أوضح أمثلة الاستجابة البطولية لمجرى الحياة الشخصية المأساوية على الرغم من هذه اللمحات العابثة التي تمتد إلى شعر ما بعد مرحلة الضياع الأولى من حياته . ويبدو ان من ضروب مفاخرة الفتيان هو مودة النساء وذكرهم لأكثر من امرأة في شعرهم وان القدرة الفنية للشاعر تبين لنا السر الذي دفعه إلى تصوير حالته النفسية وتصوير شجاعته، وان الحديث عن تلك المغامرات ربما لا تحمل محملا واقعيا، وانما هي من خيال الشاعر التي ساقها للدفاع عن نفسه، لأنه بحاجة إلى تأكيد هذه الصفات كي يعلل نفسه لتتجشم الأهوال.
وإذا التمسنا المغامرة الليلية في شعر امرئ القيس ، فأول ما يطالعنا تلك المغامرة التي عدها ضربة من الشجاعة والتحدي متجاوزا الأجراس والأهوال في سبيل لقاء من يحب وذلك ما افصح عنه في قوله:
وبيضةِ خدرٍ لا يرامُ خباؤهــا تمتَّعتُ من لهوٌ بها غير مُعجلِ
تجاوزتُ أحراساً وأهوالَ معشرٍ عليَّ حراصٍ لو يشّرونَ مَقتلي ( 18 )
لقد وصف الشاعر لنا مغامرته الليلية وكيفية تجاوز ما يحيط بحبيبته من الحراس والأهوال بطابع من التستر والتخفي وهو يعرض شدة شوقه للقاء الحبيبة وكيف استسهل الصعاب والأهوال وصولا إلى مراده. ونجد ان امرأ القيس قد ((فخر بما يلائم حياته اللاهية… وبانه يستطيع الدبيب إلى حيث يهوى من غير خشية او اشفاق من الاحراس الحراص على مقتله)) ( 19 ) .
ولوجود المرأة إلى جانب الرجل كان لابد له ان يتوجه اليها بكريم خصاله وجليل فعاله وخالص حبه وولائه وعطفه واحترامه فضلا عن اقدامه وتحديه للمخاطر، وذلك حسب منزلتها في نفسه وصلتها به . واستسهاله للمصاعب في سبيلها واللحاق بها اينما ذهبت حتى وان حلت بارض بعيدة من ذلك قول المرقش الأصغر:
ألا يا أسلمِىِ ثُمَّ أعلمي أنّ حاجتي إليكِ فرُدِّي من نوالكِ فاطِما
أفاطمَ لو أنّ النساءَ ببلـدةٍ وأنتِ بأخرى لاتَّبعتُكِ هائمِــا ( 20 )
وان بعض الشعراء تجد الهمة والقوة لديه بحيث انه يستطيع ان يلمس النجوم بيده وهذه القوة تاتي من عشقه الكبير وهذا ما نتأمله في قول عبد الله بن العجلان:
لقد كنتُ ذا بأسٍ شديدٍ وهمةٍ إذا شئتُ لمساً للثُريا لمستُهـا
أتتني سهامٌ من لحاظِ فأرشقت بقلبي ولو أستطيعُ ردّ أرددتها
وقد يصل العشق بالشاعر ان يبلغ به التحدي حدا انه يرتكب جريمة قتل في سبيل من يعشق كما فعل خزيمة بن نهد حين قتل والد حبيبته الذي رفض تزويجه اياها فقال معترفا بذلك:
فتاةٌ كأنَ رضابَ العبيـــرِ بفيها يُعلُّ به الزنجـبيلُ
قتلتُ أباها على حُبِهــــا فتبخلُ أن يخلفُ أو تنيلُ
ومن ملامح العشق الصادقة الذي غرسته المرأة في قلب العربي العاشق التضحية الصادقة والاستبسال لاجل الحب فاصبح العاشق لا يخشى أي شيء فلا غرو اذا ما استهانوا بالموت وتمنوا وقوعه. وذلك ما نطالعه في تجربة قيس بن الحدادية العاطفية:
وأن الذي أمّلتُ من أمُّ مالكٍ أشابَ قُذالي وأستهامَ فُؤاديا
فليتَ المنايا صبَّحتني غدَيَّةٍ بذبحٍ ولم أسمعْ لبينٍ مُناديا
فهذا الشاعر الصعلوك العاشق ((يريد ان يثبت القوة لنفسه حيث يظن به الضعف)) . لذا فان( الموت في اثناء الصراع والقتال ، فتلك نهاية جديرة بالصعلوك الثائر، وفي معنى الاقدام والمخاطرة بالنفس والاستهانة بالحياة) .
وهذا ما تراه في موقف الشاعر بشر بن عوانة حينما استهان بالموت في سبيل الحصول على مهر ابنة عمه التي من اجلها لاقى اشد الحيوانات ضراوة وكانما اراد من خلال هذه المواجهة ان يؤكد (( صفة الشجاعة لنفسه)) وهو قد أكدها في هذا الخطاب الشعري:
أفاطمُ لو شهدتِ ببطنِ خبتٍ وقد لاقى الهِزَبرُ أخاكِ بِشراً
إذاً لرأيتِ ليثاً زارَ ليثـــاً هِزبراً أغلباً لاقى هِزبــرَا
اذا كان الشعر في عصر البطولة الوسيلة شبه الوحيدة للتعبير الادبي عن الأفكار وعن عاطفة العشق والهيام وكانت القصيدة تعتبر الطراز الامثل والاوحد في الفن الشعري .

المصادر
1 . العشاق الثلاثة : 3.
2 . الحب والعشق والتوجه الاجتماعي : 48.
3 . الحياة العاطفية بين العذرية والصوفية : 16-17.
4 . ديوان امرئ القيس: ق51/240-242.
5 . الحياة العاطفية بين العذرية والصوفية:22.
6 . شعر عروة بن حزام :ق2/13.
7 . الحب بين تراثين:30.
8 . تطور الغزل بين الجاهلية والاسلام: 24.
9 . ديوان عنترة :ق1/207-209.
10 . دراسات في ادب ونصوص العصر الجاهلي:189.
11 . تاريخ الادب العربي ، العصر الجاهلي :37.
12 . سيرة عنترة بن شداد : 221.
13 . تاريخ الادب العربي ، حنا الفاخوري: 179.
14 . شرح ديوان عنترة: 72.
15 . القبيلة في الشعر العربي قبل الاسلام: 225.
16 . دراسات نقدية في الادب العربي: 181.
17 . شعراء النصرانية: 145.
18 . ديوان امرئ القيس: ق1/13.
19 . معلقات العرب: 339.
20 .شعر المرقش الأصغر: ق2/536.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج المغربي جواد غالب يحارب التطرف في فيلمه- أمل - • فران


.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال




.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر