الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (25)

احمد جمعة
روائي

(A.juma)

2020 / 6 / 18
الادب والفن


"تكمن خيانة الذات في تَحْريف مشاعرك، تنازل عن هويتك الداخلية حتى لو أُصِبْت بإنهيار، فسوف تعيد بناء ذاتك من جديد، صدقني تقي.
كان سفيان وتقي في طريقهما نحو شارع بلجريف سكوير، للسفارة البحرينية عندما رن هاتف سفيان ورد من دون النظر إليه إذ كان في حديث مع الآخر، ليفاجئ بصوت أنجيلا، نطق اسْمها بعفوية فَالتقط الأب الاسم الذي مر عليه من قبل. ابتعد بضع خطوات عن والده الذي وقف على طرف الرصيف ينتظره لم يبتعدا عن موقع الفندق سوى أمتار، اجتذبهما الحديث والهواء وحركة الشارع، كان الوقت قبل الظهر وبدت الشمس دافئة مع طبقة خفيفة من ضباب غير ملاحظ نتيجة الرطوبة المتخفية وراء الشمس حيث تبرز في المساء عندما تَتوارَى الشمس، مكث الأب يتابع حركة شَفتي ابْنه وهو يتفوه بالكلمات وقد بدا من هيئة وجهه وملامحه رقيقاً، كما ظهر عليه التأثر، ابتسم في داخله وتذكر أن ابْنه مدين له بحديث عن شيري فصار الآن حديثان، عن أنجيلا أيضاً. عندما رجع سفيان نحو الأب، سارع بالقول قافلاً الطريق على الآخر.
"أعرف تقي، أيضاً أنجيلا، صدقني لن يفوتك الكثير.
ضحك الآخر ولم يعلق، وقفا يتبادلان النظرات، لاحظ تقي تردد ابنه فأدرك بأنه طرأ تغييرٌ في الخطة اليومية، اعتذر سفيان عن الذهاب للسفارة وعادا للفندق. كان الهدف من الذهب للسفارة هو الاطلاع على شروط اسْتخراج تأشيرة إقامة في حالة رغبت شيري بمرافقة سفيان للبحرين قبل أن يعدها بذلك ثم لا يتحقق الهدف ويقع في الإحراج.
"أعرف من نظرتك تقي، أنجيلا صديقة فقط، هناك بعض الخصوصية معها.
"سفيان، أنا لا أتدخل في حياتك، أنا سعيد بعلاقاتك مهما تكن، كم أنا مُبْتَهج أن أراك وقد تحررت من انْزِوائِك، لقد كُنْتَ خلال السنوات الماضية أسْتَشعر القلق على توحدك، عش حياتك من جديد وحررها من كافة القيود.
غيرا رأيهما ولن يذهبا للسفارة بعد حديث أنجيلا، اعتذر من والده وسيشرح له عند العودة. حين ترك سفيان والده في الفندق، اتصل الأب بشفيقة زوجته وأطلعها على تداعيات حياة ابنها وشرح لها من دون أن يدخل في تفاصيل علاقاته بأنه سوي. أنهى المكالمة، تحسس ذقنه ثم تطلع نحو سقف الغرفة، لأول مرة منذ اعتاد سكن الفندق لمح تبايِناً في ديكور الأسقف من غرفة لأخرى، ضحك من نفسه وأدرك أن شعوره بالوحدة بعد أن غادر سفيان وتركه وراء هذه الحالة، لقد دأب على قضاء النهار والليل معه منذ حل على لندن حتى أنه بدأ يشعر ببهجة وتحسن في مزاجه وصحته التي لم يتصور نفسه أن يتعود على الشراب ليلياً ويتسكع بالساعات من دون الشعور بالإنهاك والمرض عَكْس الحال في البحرين حين يتجرع كأسين أو ثلاثة، مرتين في الأسبوع مع رَهْط من أصدقائه خلال إجازة الاسبوع، أو يمشي بضعة أمتار حتى يشعر بالإرهاق وتعاوده أحاسيس المرض، انتصب بغتة وتناول هاتفه واتصل بسفيان الذي افْتَرق عنه تَوا.
"كَذْب قلبك في الحب، وصدق عقلك في الزواج.
رد الآخر متفاجئاً.
"ماذا؟
أجاب الأب وقد تَفَتَحت أساريره، كما لو اكْتشَف اختراعاً.
"عَرفت سر الدنيا ابني، اذا دعتك امرأة للرقص، واحد من أمرين، أما أَنَّك راقص تتعلم منك، أو أَنّك عازب عينها عليك.
ودعه وأقفل الخط، ضحك سفيان وهو يَلج الشقة حيث تواعد مع أنجيلا للقائها، لم تفصح له عن الموضوع وهي المرة الأولى التي تدعوه فيها بعد الصدمة التي وقعت له معها، لم يظن بعد تلك الواقعة الدامغة أن تجرؤ على الاتصال به، حين فتحت الباب وقفت أمامه بملابس النوم وقد بدا عليها التعب وقد لاح من خلال اللون الأسود المحتقن أسفل عينيها، بدت مُنْهَكة ومُضْنى، قادته نحو المقعد، لاحظ أعقاب السجائر في المطفأة وفي الأسفل عدد من علب البيرة الفارغة، جلس وقد انتابه وَجَس من حالة الوجوم التي كانت عليها الفتاة.
"لم يكن في نيتي مواجهتك أشعر بخيانة لو لم أخبرك، تكلفة التفكير في الموت توازي الموت ذاته.
صمتت ونظرت نحوه بعينين مجهدتين، وظهر شعرها مرتبكاً ومهملاً، بدا عليها الذبول كما لم يرها من قبل، ليست هذه أنجيلا القوية المخاطرة، ذات الروح المرحة والمجازفة.
"ماذا أنْج؟
"أنا أحتضر سفيان، مصابة باللوكيميا وليس معي أحد أتحدث إليه، كنت الوحيد من إنْدمَجت معه وليس بوسعي أن أَفْرِض عليك أي التزام من هذا اللقاء، ألْتَمس منك أن تسامحني، لم أعنِ خداعك، كُنْتُ بحاجة للعلاقة الجنسية تلك تُنْسِيني الآلام، لاني لا أستطيع أن أنسج أي علاقة، مع أيٍ كان، ولا إنسان حولي أُفْصح له، كلهم كانوا مجرد زمرة لهو، أنا آسفة إن سببت لك اسْتياء.
مد يده وأمسك بيدها وراح يُعِمّق النظر في بؤرة عينيها، بدا كما لو كان يتعقب الإشارات الغامضة والإبهام الذي كان يلفها فترة علاقته بها من دون أن يركز أو يأخذ باله منها.
"متى بدأ الأمر؟
"مع بداية معرفتنا.
كانت تجلس القرفصاء على الكنبة أمامه فيما سادت الصالة مسحة كئيبة أشاعَتها إضاءة المكان الخافتة والمعتمة في بعض الزوايا، حل صمت لثوانٍ سرعان ما قطعه متسائلاً بنبرة تعمد طبعها بومضة مرحة.
"هل تفكرين في الانتحار؟
ضحكت فجأة مستغربة ما أزال عن ملامحه لبرهة نهكة الأَسى.
"ماذا؟
تساءلت وما زالت الابتسامة عالقة على شفتيها، أما هو فقد اسْتدرك قائلاً بلهجة مستفزة، وهو يشير بيده لأعقاب السجائر وعلب البيرة الفارغة، ثم إلى وجهها.
"قبل شهرين لم أعد أشعر بالحياة، كُنْت أود التخلص من ذاتي وجسدي وحتى وجودي، وفي ساعات تغيرت بوصلة الحياة والآن أتوق بشغف لامتصاص رحيقها، تعرفين حتى المرض ليس واقعياً يقتلنا لو وسعنا خيالنا، لو وَلَجْنا داخل قوس قزح، أو تسللنا للثقب الأسود، هناك عالم يَفُوتكِ ما يحتويه لأنكِ اسْتَبقتِ موعد رحيلكِ عن الحياة من دون أن تتحدينها وتتغلبي على خدعتها الكبرى التي تُخْبرنا بأنها مع الأصحاء وضد المرضى، لكن الأمر يختلف حين نركن وراءنا هذا الظن ونؤمن بأن كل شيء يتغير لو عشنا خيالاً جارفاً، نعم، عيشي خيالك.
"دَنَت نحوه واحْتضَنتهُ قائلة بصوت رخيم ممزوج بنبرة امتنان.
"لا تتركني أرجوك.
وجد نفسه في الشارع حائراً يلفه ارتياب مما قام به، لم يقدر أن ينفذ من واقع ملموس تعانيه، ولم يرد أن يَفْلت منها وهي أسيرة زلزال ضرب كيانها وقلب حياتها، وعليه أن يَسْقي شجرة حياته شيري قبل أن تتغير رياح الوله وتطفو المفاجآت وتقلب حياته هو الآخر على عقب بعد وضوح رؤية الجسد، وقبل أن يتسلل السأم لمحيطه، كل ما تَطْفو المعاناة كل ما يسود الضجر وهذا ما يخشاه، سار في طريق العودة مفضلاً ألا يطلب سيارة أجرة، أراد بلوغ نقطة وُضوح تَنْجلي معها رؤيته للأبعاد الثلاثة التي يتشكل منها عالمة في هذه الساعة القائمة على الخطوط المتوازية والمتباينة، تقي على الخط المستقيم وهو أسهل الخطوط ولكنه يستهلك طاقة منه، وشيري مع أنجيلا التي أصبحتا تواً تشكل كل منهما أحد جزئَيْ خط الاستواء الذي يُقسم عالمه لجزئين، خَضِل ومُلْتَهِب. قطع مسافة طويلة وهو يدور حول المكان بعد أن تاه في طرق يعرفها، فقد السيطرة في البداية على أحد المخارج فَضّلَ بقية المخارج، كان رأسه مشغولاً بالشخصيات الثلاث من حوله وهي تنسج خيوطاً وأسلاكاً وشبكات من المشاعر والأحاسيس المتضاربة، تفيض مرة بالحب وتنقص مرة منه، تقل العاطفة من هنا وتفيض هناك، يعشق هنا ويحب هناك ويشفق ثم يقسو، ازدحام، وحشد من العواطف وتجمهر من الشخصيات عند بوابة حياته من البحرين ولندن، حتى كاد يغرق في شارع أكسفورد.
"ماذا أصابك سفيان؟
واجهه تقي بالسؤال حينما رأى وجهه مُمْتَقعاً ولون بشرته مُصْفراً، نظر لساعته ثم استطرد وقد بدا قلقاً على ابنه.
"ماذا وراء أنجيلا، منذ تحدثت معها وأنت قلق، ثمة إزعاج على وَجْهك سفيان.
"لا تهتم أبي، تفاصيل لا تَشْغل بالك بها.
"ما رأيك تترك شقتك وتأتي لتسكن معي، الجناح يسعنا ويمكن إذا أردت تغييره لأوسع، على الأقل توفر مشاوير الشوارع والمواصلات وهي فر صة نتحدث أكثر.
ضحك الابن وهز رأسه نفياً وقبل أن يستطرد الأب بادره الابن بنبرة قاطعة.
"تقي، كيف ألْتَقِي بشيري هنا عندك؟
تذكر عبارة والده قبل أن يلتقي بأنجيلا "إذا دعتك امرأة للرقص، واحد من أمرين، أما أَنَّك راقص تتعلم منك، أو أَنّك عازب عينها عليك" لكن مضمون الدعوة كذبت المقولة، فالمرأة السوداء الجميلة التي نادَتْهُ هي مصابة باللوكيميا ولا شأن لتقي بالأمر طالما ظن أن الحياة متوقفة على مكر النساء، لعل هذا الاعتقاد خلاصة تجاربه الشخصية النسائية، أثمرتها سبعة عقود من العلاقات المتباينة، وما رافقها من تضارب بينه وبين المرأة.
"أين انْتَهى أمرك مع جوري؟
تعمد إثارة السرد الذي بدأه حول المرأة كي يفلت من حصاره هو، لم يفطن أن الأب سيلجأ للتفاصيل، كما لم يظن أن العلاقات بينه وبين المرأتين أنجيلا وشيري، ستصطدم بكل هذه التعقيدات، لقد ارْتطم بجدران غليظة أفرزتها الحياة بتلقائية ومن العسير مواجهة المعاناة بالاحْتراب معها، أدرك أنه عندما اسْتدعَى والده وهو مزهو بما اكتشفه في حياته وسعى إلى إطْلاق إحتفالٍ بعالم جديد تخطى فيه الاشتباك مع الحياة، هذا ما بدت عليه الدنيا قبل أن يحل تقي زائراً على لندن.
"هل أتجرأ وأخوض في المحرمات؟
سأل سفيان والده وقد أفشى تعبير وجهه عن شعوره الذي لازَمَه منذ دار الحديث عن جوري، بدا وجه الابن وهو يبحث عن وسيلة يصيغ بها سؤاله الذي بدا من تغير لون وجهه وتورد بشرته أنه سيطلق مشاعره كلها في الهواء.
"من هي جوري؟ لا تقل أمي.
غاص تقي في موجة صاعقة من الضحك وجد سفيان نفسه يغرق في ذات الموجة من قَبْلَ أن يعرف الجواب، نسي الابن في خضم الحديث عنها وجرفه ولعه بها هو الآخر أن جوري عاهرة، حين هدآ نظر سفيان لوالده نظرة انتظار الجواب وكأنه لم يعبأ بتذكر ماضي جوري، لاحظ طيفاً تَأجَج على ملامح الرجل لوهج وكأن صورتها لاحت له لبرهة من الوقت.
"لِعلمك فقط كانت جوري عاقرة وشفيقة أنجبت خمسة أولاد، لا تفقد عقلك مما يحدث حولك.
ولج سفيان الحمام وتناول تقي علبة سجائر ابنه، اسْتل منها واحدة وتوجه نحو شرفة الجناح وأشعلها ثم حدق في الفضاء من حوله وكأنه يستنشق هواء الخارج فيما يبتلع دخان السيجارة. فجأة لاح له شبح جوري وبدأ يتسلل من بين ضباب الطقس والدخان وتَهَشمت الصورة لتبرز منها ومضة من ماضيه معها في أولى أيام العلاقة معها مع بداية الحرب، لمح نفسه يستدعي أطْلالاً من صور ماضيه وهو يركلها ويقذفها بشتى النعوت ثم سرعان ما انْخَرط في البكاء راكعاً عند قدميها، اقتحم سفيان الشرفة ليجده يحدق في السماء.
"هذه المرة تتذكر إفيلين؟
التفت نحوه وقد اضْطَرم وجهه وقال بنبرة حاسمة مغلفة بمزاح.
"لم أقطع هذا الطريق إلى هنا لأحدثك عن مغامراتي، أًنت تُغافلْني وتسعى إلى إلْهائي عن مقاصدك.
تنهد وألقى بالسيجارة في المطفأة وأردف بنبرة آمرة.
"متى أُصادِفَ شيري؟

أَفِلَت بضعة أيام فاتت كومضة شعاع تسلل مخلفاً طاولة بأربعة مقاعد تم حجزها في مطعم سارة بذات الفندق لثلاثة أشخاص، قبل أن تصل شيري للمكان أمْضى تقي وابنه الوقت في انتظارهما بحانة الخضراء بالفندق، بدا المكان هادئاً كحلم يتسلل من كؤوس الشراب التي زينتها أوراق النعناع وشرائح الليمون الخضراء، مع برودة سرت في أطراف سفيان محاطاً بشعور من ينتظر الملكة، بدت له الليلة امتحان العمر حيث ستجري مراسم تدشين علاقته بحضور والده، وما ينتظر الطرفان الأب والفتاة من أحاسيس كيف ستفزع أو تنذر بمفاجآت، أقنع نفسه برجاحة وحكمة الرجل الذي جاء من وراء البحار ليلقي الضوء على الفتاة وهو بصير وحاذق في علوم النساء كما فهم من سيرته عبر الزمن الجميل الذي جعل من قلب الرجل ينبض بالعواطف والحب رغم سنين العمر التي تناهز السبعين، ازْدحَم رأس سفيان بالأفكار المتباينة حول مجرى الليلة التي بدأت بكأسي شراب، ويسكي للأب وفودكا للابن، وبين فترة الانتظار والترقب لم يستطع تقي أن يقاوم انتزاع مزيد من المعلومات عنها وهي عادةً فضولية اكتسبها من عالم التجارة حين يتزود بكل التفاصيل عن أولئك الذين على علاقة بهم في مجال المال والتجارة.
" لا تشْهر حبك حتى تتأكد أن قلبك هو من وقع في الحب وليست عيناك، لا أعرف أين التقًطت ذاكرتي هذه العبارة لكنها على يبدو مقولة ذكية.
ضحك سفيان وقال مازحاً.
"أنا قلتها لك تقي.
رد الآخر بضحكة مماثلة وهو ينظر للوقت من ساعته.
"عثرت عليها في مخزن ذكرياتي لا تهمل العمل بها.
كانا يستعدان لمغادرة الحانة والتوجه للمطعم وقد ارتدى سفيان قميصاً كحلياً فاتحاً مع سروال جينز أزرق ومعطفاً هو الآخر كحلي اللون، فيما تقي كعادته اكْتَسى بذلة سموكن مع قميص أبيض، نظرا للساعة معاً، وقع تقي فاتورة الحساب وتوجها نحو طاولتهما، وهناك بدا المناخ مختلفاً حيث بروتوكول الخدمة اسْتَمد مظهراً ملكياً وساد المكان جواً ثقافياً اقْتَبسه من صالونات أرستقراطية، إذ تظاهر بعض الرواد غير عابئين لمن يدخل أو يخرج، خاصة كبار السن، ولكنهم ظلوا يتابعون بفضول كل حركة يبديها الآخرون من حولهم.
"كيف تتكَهّن بجو الحفلة؟ أشعر ببعض التوتر تقي.
قهقه الأب وقال وهو يهز رأسه ويحك ذقنه بإصبعه.
"كثيراً ما تخشى الآخر ولا تصدق أنه يخشاك وأنت لا تعلم، هذا حال العلاقات الإنسانية سفيان.
كانت الساعة التاسعة وتسع دقائق، حين بَزَغَت من الواجهة شيري. أقبلت نحوهما لحظة نهوض سفيان متوجها نحوها قبل أن تصل، بدت على غير عادتها كاسرةَ القاعدة ومرتديةً فستان أصفر قصيراً مفتوح الصدر والكتفين ينتهي أسفله بورود صغيرة شفافة الألوان، وسرحت شعرها البرونزي على هيئة أمواج عند الأطراف فيما تركت خصلة جهة اليسار تسقط على جبينها. اقْتادها صاحبها نحو الطاولة التي توسطت المكان، انْتصب تقي حين بَلغَت الطاولة، مد يده وصافحها راسماً ابتسامة صغيرة مغلفةً بإيحاء ترحيبي ذي دلالة عبر الملامح والسمات التي طبعها على وجهه ليظهر تقديره لها، فيما انْفَرجَت أساريرها عن ابتسامة واسعة كشفت عن أسنانها الصغيرة المائلة قليلاً للاصفرار، بدت أنيقة في قامتها المتناسقة مع الفستان إذ فوجئ سفيان ذاته بِتَخليها عن سروال الجينز، فيما فُوجِئت هي كما يبدو بحيوية وروح تقي إذ لاحَ لها أصغر وأكثر حداثة مما صوره لها إبنه.
"من محظوظ بالآخر بينكما؟ لا تعتبرا ذلك إمتحاناً مجرد سؤال أفتح شرفة للحدث بدل هذه النظرات الصامتة المضطربة.
ضحكت شيري فيما اكتفى سفيان بالابتسام، خَشيَ أن يشجع والده على التمادي في المرح أو التطفل، لكن الفتاة سارعت بالتعبير عن مشاعرها بلهجة رقيقة وجريئة محاولة الانسجام مع الأب والانسياق في تآلف معه.
"أُحِب فيكَ روح العصر، أَنتَ تُذَكرني بعم له ذات الروح.
أشار تقي للفتاة ماذا تشرب؟ نظرت لسفيان تبتسم مترددة، قطع الأب ترددها بسؤال حمل نبرة مُحَفزة.
"نبيذ؟
ردت مبتسمة وبسرعة مع نبرة امْتنان لتشجيعها.
"أحمر.
رد وقد بدا سعيداً بروح الفتاة.
"أَنْتِ ذكية.
ساد التناغم جو الطاولة، تحرر سفيان من مخاوفه، وانْخَرط الثلاثة في حديث خيم عليه الهدوء وعمق الأفكار، بدا الإعجاب يملأ ملامح الأب حيوية، أحس في داخله أن ابنه محظوظ بعلاقته بهذه الفتاة، لاح عليه الانشراح ولاحظت هي ذلك الإيحاء ما حفزها على نزع بقايا التحفظ والغوص في الانسجام بالحديث والانفتاح على الأفكار.
"محظوظ إذا أحَبَبتَ مرة، ومَحْبوب إذا أَحْببت مرة ثانية، وتاجر غرام إذا أحببت المرة الثالثة.
أشاعت العبارة جواً من المرح وحَفَزت الحديث بينهم. بدأ المكان يتسع من حولهم بعد مغادرة زبائن الطاولة المجاورة، وفي ذات الوقت صادف دخول ثلاث نساء ورجلين متوسطيْ الأعمار ماعدا أحدهما بدا أنه الجد أو هكذا ظهرت سحنته قريبة، أو ربما الأب، فيما أحتفى أفراد طاولة مقابلة بمناسبة ما من خلال تصفيق خفيف وتبادل القبل بينهم.
"كم مرة يعيش الحب وكم مرة يموت؟
سألت شيري، فيما أشار الأب للنادل بطلب قائمة الأكل، ثم التفت لشيري التي رد عليها سفيان.
"يعيش مرة ويموت مرات، واثقٌ من أن أبي لا يوافقني الرأي.
"كم مرة خسرت معركة الحب؟ لا أُريد منكما الإيجابة، فكرا فقط في الجواب بعد أن نختار وجباتنا.
لكن سفيان لم يلتزم بطلب الأب، سارع بالرد قائلاً بنبرة مخالفة لطلبه.
"لاحظت عليك دائماً ما تَرْبْط عبارات الحرب والمعارك بالحب، تُذكرني بجدار برلين، تُشْبه شخصيتين تفصلهما مرآة ترى نفسك فيها كشخصية واحدة، أنا لا أَنْتقدك تقي بل تعجبني شخصيتك، ليتني أستطيع أن أُجاريك.
"لأني عشت الحب في زمن الحرب، هذا سِرَنا سفيان.
ضحكت شيري وقالت مع حركة من رأسها تُوحي بتقبل الأمر والخضوع له.
"أسراركما مقدسة.
جاء النادل بقوائم الطعام، وقف متطلعاً لتقي وقد لاح عليه انْتظار الإشارة منه لتوزيع القوائم، بحركة غير ملحوظة من رأس تقي شَرَع النادل يوزع القوائم فيما بدا معرفته به من قبل.
"تقي زبون مقيم هنا.
علق سفيان، موجهاً الكلام لشيري التي ظهرت عليها سعادة خاويةً من البهجة ومُفْتَقدة البريق، برزت وكأنها تآلفَت مع المحيط لمجاراة الطقس، اسْتَنْبَط تقي بحدسه هذا الشعور رغم إعجابه المُسَتفيض بها الذي فاق توقعه.
"مرحباً بكِ شيري فرداً في الأسرة.
صُعِق سفيان من جهة وصُدِمَت شيري من تلك القنبلة التي رمى بها الأب على الطاولة وفجرت المكان، لم يخلُ شعور الابن من ابتهاج بتلك العبارة الطائشة التي وجد فيها رغم ضراوتها حبكة ذكية من الأب لوضع القيد من الليلة في يدها لشدة حماسته لها وخشيته أن تفلت، لكنه من زاوية مخالفة صعقها بغتة وأَهاجَ ذعرها من ارتباط وَشيك صادر قرارها، مع كل ما يثيره من التزامات بين فردين يحيا كل منهما في عالم مُتَنافِر تتضارب فيه التقاليد والمسافات والمشاعر. لاحظ سفيان ردة فعلها السريعة على وجهها رغم محاولتها كبح انْفعالها بابتسامة غَطَت بشرتها المستثارة، عَمَد تقي لاسْلوب الْصعق من خلال عمله التجاري في عقد الصفقات، إذ ترمي ورقتك الأساسية من البداية مستخدماً أسلوب الترويع لِتَمْنح بعده الاطمئنان "لكن هل يفلح ذلك في الصفقات العاطفية والزوجية"؟
سأل نفسه وهو يحاول امتصاص الصدمة بالتصادف مع انتظار النادل لطلب القائمة.
"شيري، أَنتِ الليلة ضيفتي.
تعمد سفيان بدوره إفْلات تعبير ضيفة لِيَمسح ما انْطَبعَ في عقل الفتاة من صورة مفزعة عن مصيرها الذي حسمه والده بعبارة من خمس كلمات مجلجلة، لكن الآخر أبى أن يوقف غارته عليها.
"لم تَعودي بعد اليوم ضَيْفَة، أَنْتِ ملكة عندنا.
قبل مغادرة شيري التي وعدها سفيان بمرافقتها، مال جانباً على والده وسأله بنبرة فضولية خافتة.
"لمن حَجَزْت المقعد الثالث.
رد الأب متوهجاً
"جوري!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-