الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عيون لن تنسى

محمد الدرقاوي
كاتب وباحث

(Derkaoui Mohamed)

2020 / 6 / 19
الادب والفن


حين دخلت الصافية الى بيتنا لم تكن غير طفلة لا يتجاوز عمرها ست سنوات ، حرمها ابوها من المدرسة وأتى بها من البادية ليتجر بها كخادمة في حي بالمدينة، مشهور بغنى أصحابه ،وتشغليهم لخادمات بثمن مرتفع ، تلقفتها والدتي بالصدفة ، وقد طرق ابوها باب بيتنا بالخطأ ، يبحت عن رجل مقاول في البناء ، كان قد أوصاه بخادمة صغيرة لزوجته الثانية التي ماتزوجها الا بعد أن هددته بفضيحة، فقد وثقت به حين طلبت منه حملها معه في سيارته الى المدينة حتى تعمل خادمة في احدى البيوتات ..
اغراها بالمبيت معه في احدى منازله الاقتصادية التي يتاجر في بنائها للطبقات الفقيرة ، وقد اعد واحدة لخلواته ونزواته الخاصة .. تعمد ان يتوقف أكثر من مرة في الطريق الى أن داهمه الليل ، فاغرى البنت بالمبيت معه الى الصباح ، لكنه وقع فيها فاغتصبها ، ومارس عليها شذوذا فظيعا بعد أن لعبت الخمرة برأسه وغيبته عن وعيه ، فما كان منه بعد أن أمتنعت عن كل اغراء مادي كتعويض الا أن يجبر ضررها بالزواج بها شرط ان تتكتم على ماوقع ويظل زواجهما في السر ، ومن شهرها الأول حملت منه . .
استطاعت والدتي أن تقنع أبا الصافية أنه يعرض ابنته للظلم والعذاب وهي لازالت طفلة لاتميز بين خير وشر ،فالبيت الذي يبحث عنه ،صاحبته هي نفسها كانت خادمة في العشرين من عمرها وقد تزوجها الرجل الماما لفضيحة قد تأتي على مستقبله وسمعته ، ومن تسقطت نفسه طمعا على امرأة التقطها من الطريق ، قادر أن يطمع في غيرها خصوصا اذا كانت بجمال الصافية ، كما أن معاملة خادمة لخادمة لن تكون محمودة ، غيرة وحقد على النفس قبل الغير ، ثم خوف على رجل قد يضيع منها وقد صادته بنصب فكيف أذا كبرت الصافية أمامه وازداد تفتحا وجمالا فلن يلبث أن يميل اليها ...
لم تكن الصافية تكبرني الا ببضعة أشهر لكن عيونها الكحلية جعلتني اتعلق بها تعلق صبي بثدي أمه ،كنت أجلس قبالتها وأظل انظر الى عينيها الكحليتين كالليل بزرقة البحر في اعماقهما ..
كنت مأخوذا بعيينها الى درجة الهوس ،حتى أني صرت كثيرا ما اتملى عيون أمي وابي ثم اتملى عيونها .لامقارنة فعيون الصافية بحر أزرق لامع، أكاد أسمع هدير موجه من بين أشفارها الليلية الطويلة ..وهي تلعب معي كنت أكره أن اغلبها في لعبة بل افضل ان اتركها تغلبني ، خصوصا اذا كانت المخاطرة بيننا قبلا على الخدين ، فقد كنت أجد متعة وشفتاها على خدي تهتزان بقبلة ، لا أحاول بزها الا اذا كانت المخاطرة قبلا على اليدين ، فكم كان يلد لي أن اقبل يديها الرطبتين ...
لم تحس الصافية عندنا ابدا أنها خادمة ،فقد جعلتها أمي موضع بنتها التي كم تمنت أن يرزقها الله بها بعدي أو قبلي ، ومكنها ذكاؤها من أن تلتقط بسرعة طقوس بيتنا وعاداته ، فتعلمت بسرعة من أمي تطريز المناديل والازر والوسائد.. وصارت بيننا اختي التي لم تلدها أمي ، فكل مايقع بيننا ونحن نلعب هو من باب براءة الاخوة والأخوات ، فالصافية قد صارت بالنسبة هي من يعتني بكي قمصاني ، واعداد طعامي ومراقبتي بدقة قبل الخروج الى مدرستي ،حتى انها ومن خلال ما كانت تستمع من قراءاتي تعلمت أن تقرأ وتكتب وأن تصحح لي اخطائي عند استظهار احدى الدروس ...
كل من يرى الصافية وهي تنمو وقد زادتها المراهقة فتنة ، يكبر ويهلل لما وهبها الله من فتنة وما تعيشه من عناية وتشب عليه من تنشئة اصيلة ..
كل ذلك قد أثمر في الصافية حبا لنا ، ووفاء وثقة ..فقد أدركت ما نكنه لها فآلت على نفسها أن تجازي بالحب حبا ..
كانت تكره أن تتكلم أن أبيها ، أما أمها فقد كانت تتشنج وتضغط على أسنانها ثم تشرع في البكاء كلما سألناها عنها ..
جلست مرة بين يدي الحاجة تمشط شعرها وتلف لها ظفيرتها كعادتها ، وقد كان من طبيعتها أن تقبل يدي الحاجة عند الختام وتقول : شكرا خالتي العزيزة ..عانقت الصافية الحاجة ، ثم قالت :
ـ أنت لست خالتي ، أنت أكثر من خالة ، أنت أمي هل تسمحين ان أناديك أمي وأنادي الحاج أبي ؟
ضمتها الحاجة بين احضانها ، مسحت دمعات تسربلت على خدها وقالت لها :
طبعا أنا أمك فانت هنا بنتنا ولافرق بينك وبين ابني ، ولاتوجد قوة تبعدك عنا ..
لازلت اذكر فرحة الصافية بذلك من يومها لم تعد تناديني باسمي وانما بخيي العزيز ..
اقبلت أمي بعد زيارة لخالتي المريضة ، ظلت تطرق الباب لكن بلا رد ..عدت من المدرسة لأجد أمي في قلق كبير على الصافية ، أين هي ؟ هل نامت ؟ ليس من عادتها أن تنام مساء ، هل خرجت ؟ لايمكن ؟فما تعودت أن تخرج بلا إذن ..
دخلت من دار الجيران ، ونفدت الى بيتنا عبر السطوح ..ما أن نزلت الادراج حتى وجدت الصافية راسها على عتبة احدى الغرف ودمها قد صار وسط البيت سيولا .. ارتعبت وشرعت اصيح وأبكي ، بصعوبة استطعت الوصول الى الباب لأفتحه ..
كان المشهد بشعا حقا ، كيف ماتت الصافية ، وماذا كانت تفعل حتى سقطت بتلك الطريقة على عتبة الغرفة ؟
حين اقبل أبي اصر على استدعاء الشرطة بعد ان وجدنا خزانة امي مفتوحة وكل ما فيها من ذهب قد تم نهبه .. فالعملية اذن عملية نهب وسرقة نتج عنها قتل ..
بعد تدقيق من الشرطة عرفنا ان أحدا قد طرق الباب ولما فتحت له الصافية هجم عليها فقتلها بعد لي عنقها ثم أسقطها عمدا بتلك الطريقة للتوهيم..
لم يخطر ببالنا ان يكون ابوها هو الزائر ، فكلنا يعلم أنه قلما يأتي لزيارتها اذ يكتفي بزيارة متجر ابي ليتسلم شهرية الصافية ثم يعود ادراجه من حيث اتى ..وحدها والدتي قالت : ان الصافية لن تفتح الباب لاي كان الا اذا كانت تعرفه ، وقد تمسكت الشرطة بهذا الدليل لتكتشف في الأخير ان القاتل هو الأب ، ضحى بروح ابنته من اجل نهب اسرة أكرمته باكرام فلذة كبده ، وقد عرفنا كيف تم قتلها من خلال إعادة تشخيص الواقعة ..
اقبل والدها يطرق بابنا لم يكن في البيت غير الصافية ، لم تفتح له الباب الا بعد أن تأكدت منه ، لكنها منعته من الدخول الى البيت بحجة ان اهله غائبون ، لكنه اصر على الدخول ،دفعها بقوة الى الداخل ثم لحق بها وصفق الباب وراءه..
كما عرفنا أنه هو قاتل أم الصافية بنفس الطريقة التي قتل بها ابنته ..
الى اليوم وبعد أزيد من عشرين عاما مازلت أذكر ان اختا لي رائعة الجمال ماتت بعد أن وشمت في اعماقي عيونا ليلية بعمق البحر ..أتلوى حزنا لطريقة موتها ، واني لأواصل ذكرها حتى آخر رمق من وجودي .. عيون لايمكن أن تنسى ...فلانراها الا في اشهار ات المجلات ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و