الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ الأوبئة(7) الوباء والاستعمار

عبد المجيد السخيري

2020 / 6 / 21
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات


علاقة الأوبئة بالاستعمار مسألة تناولتها عدد من الدراسات، كما أشرنا إلى ذلك في الجزء الأول من هذه الورقة. فخلال القرون السابقة اجتاحت أوبئة مناطق من العالم لم يسبق لها أن عرفتها والذي نقلته معها حركات الغزو الأوروبي، حتى أن بعض الدراسات تربط بين أهداف الاستعمار المتمثلة في نهب ثروات الشعوب المستعمرة واستعبادها(تجارة العبيد) واستغلال يدها العاملة، وبين ما حصل من فتك وبائي بملايين من أبنائها، إلى حد أنه أدى في بعض الحالات إلى انقراض شعوب وحضارات بكاملها، بينما تشير بعض المصادر التاريخية إلى إبادة 90 بالمائة من سكان الأمريكيتين. وقد نالت القارات الأمريكية والأسيوية والإفريقية نصيبا وافرا من الدمار الاستعماري على الصعيدين الاقتصادي والصحي، إضافة إلى تشويه ثقافات شعوبها وتخريب وتفكيك منظوماتها القيمية والاجتماعية. وتسرد بعض الحوليات التاريخية مشاهد مقرفة من إبادة الشعوب عن طريق أوبئة وأمراض معدية مختلفة (طاعون، حمى صفراء، كوليرا، جذري، زهري، ملاريا.. إلخ)، زيادة إلى أعمال القتل والتهجير عن طريق القوة العسكرية. لكن لعنة الوباء والأمراض المعدية أو المنقولة جنسيا، وبعضها لم تعرفه الشعوب المستعمرة في تاريخها، لحقت أيضا بالدول الغازية حين حمل جنودها وموظفوها في إدارة البلدان المستعمرة العدوى إلى بلدانهم الأصلية حين العودة أو الزيارة، كما أن التجار المتنقلين عبر العالم، خصوصا المرتبطين منهم حديثا بنشاطات الاستعمار، كانوا أيضا سببا في نقل العدوى إلى بلادهم أو البلاد الأخرى التي ينزلون بها لبيع بضائعهم أو التسوق منها.

الغزو الأوروبي لأمريكا و"الصدمة الجرثومية"

بدأت العلاقة تتضح جيدا بين الاستعمار والأوبئة منذ بداية تدفق المهاجرين/ الغزاة من شبه الجزيرة الإيبيرية بعد "اكتشاف" كريستوف كولومب للقارة الجديدة (أمريكا)، حيث بدأت تتوفر المعلومات نسبيا حول أعداد الضحايا ووصف نوع الأمراض والكيفية التي تنتقل بها العدوى إلى غير ذلك. وهكذا صرنا نعرف اليوم أن أولئك المغامرين في الغزو "الكولومبي" كانوا مصابين بداء الجدري، وقد نشروا الوباء بالمكسيك وبلاد الأنكا من بداية العقد الثاني من القرن 16 إلى نهايته، وبأمريكا الوسطى مع بداية العقد الثالث من نفس القرن، ما تسبب في إبادة شعوبها الأصلية وهجرة من أفلت من أفرادها إلى مناطق جديدة، وهو ما كانت له نتائج مدمرة عل صعيد ثقافات ولغات تلك الشعوب ورصيدها الحضاري والإيكولوجي.

الحضارة الملوثة

دخول "الفاتحين" الأوروبيين، والإسبان في مقدمتهم، إلى القارة الجديدة نهاية القرن الخامس عشر(1492) لم يكن فيه من الخير ومن الفضل، لا بالنسبة لأمن السكان الأصليين ولا لصحتهم. فقد حمل الغزاة معهم أمراضا قاتلة تسببت في هلاك الملايين من السكان الأصليين، حيث في الإجمال أدى الغزو الأوروبي للقارة الأمريكية خلال مائة عام إلى تقليص عدد سكانها من حوالي 60 مليون إلى خمسة أو ستة ملايين فقط، بحسب دراسة قام بها علماء من جامعة كوليج لندن. ومن بين أشد الأمراض فتكا التي نقلها الغزاة نجد الجدري من بين أمراض قاتلة أخرى، كالأنفلونزا، الحصبة، الطاعون الدبلي، الملاريا، الدفتيريا، التيفوس والكوليرا... وكان لذلك نتائج كارثية على باقي العالم القديم بسبب تراجع المساحات المأهولة والمزروعة، إنما أيضا بالنسبة للتغيرات المناخية التي نجمت عن نمو هائل للأشجار والنباتات والغابات الكثيفة أدى إلى انخفاض مستويات أوكسيد الكاربون، وبالتالي انخفاض درجات الحرارة في مناطق واسعة من العالم. وهذا ما يفسر بحسب بعض العلماء، إلى جانب عوامل أخرى، كتقلص النشاط الشمسي والانفجارات البركانية الهائلة، بداية حقبة تعرف بالعصر الجليدي الصغير. وكانت أوروبا لسخرية الأقدار من بين أكثر المناطق تضررا بفعل التغيرات المناخية الجديدة على مستوى المحاصيل الزراعية والمجاعات. بينما اليوم نجد من يفسر انتشار الميكروبات المعدية والمتنقلة باجتثاث الغابات وضغط التمدن والتصنيع المتزايد والكثيف الذي حرم الانسان من النباتات الطبية والحيوانات التي يتوقف عليها نظامنا الدوائي، وهي عوامل أوجدت بيئة ملائمة لحضانة الفيروسات القاتلة ومنحتها الوسائل للوصول إلى جسم الانسان والتكيف معه. فالاختفاء المتزايد لعدد من الأنواع الطبيعية والحيوانية الناجم عن تدمير مساكنها ومحاضنها، يدفع بالأنواع المتبقية إلى الاحتكاك بمجال الانسان والاقتراب منه أكثر، وبالتالي يتيح للميكروبات البحث عن أجسام بديلة للتعلق بها أو تصير حاملة للفيروسات القاتلة.
وقد تفاقمت الأوضاع الصحية بالقارة الجديدة مع مرور الأعوام، خاصة مع تزايد نشاط تجارة ونقل العبيد من إفريقيا نحو المناطق المستعمرة في بدايات القرن 17(بلغت حسب بعض التقديرات حوالي ثلاثين مليونا من أفارقة غرب القارة المستعبدين) الذي تسبب في انتقال أوبئة، مثل الملاريا والحمى الصفراء، إلى شعوب القارة الجديدة، خاصة جزر هايتي وكوبا والبرازيل ولويزيانا بشمال القارة ومدن عديدة بجنوبها، وهو النشاط الذي استمر حتى أواخر القرن 19 لتلبية الحاجة إلى اليد العاملة في مجال زراعة قصب السكر. فقد تعرضت إنجلترا لوباء الكوليرا خمس مرات خلال القرن التاسع عشر وحده بسبب العدوى المنقولة عن طريق جنود وموظفي إدارة جيشها الاستعماري، وفي العقد الثالث فتك بحوالي مائة وثلاثين ألفا من سكانها بعدما انتقل إليها من الهند الشرقية التي أوقع بها حوالي خمسة وعشرين مليون شخص نهاية العشرينيات من نفس القرن.
وشاءت الأقدار أن يحمل الغزاة معهم حين العودة إلى الديار الزهري syphilis وينشروه في أوروبا مع بداية القرن 16، وهو مرض تناسلي قاتل كان مارتن ألونزو بينزون، رفيق كرستوف كولومب، أول ضحية له عام 1493، ولم يكن معروفا في العالم القديم، وسمي أيضا عند الأوربيين بالجدري véroleأو الجدري الكبير تمييزا له عن الجدري الصغير، وهو الاسم الذي أطلق على ال: variole، والزهري بالطبع لا علاقة له بهذا المرض, وقد تفشى في وقت قياسي بالجزيرة الإيطالية بالتزامن مع حرب الملك الفرنسي شارل الثامن في 25 يناير من عام 1494، وأطلق عليه الفرنسيون "شر نابولي"، بينما الإيطاليون أطلقوا عليه اسم "شر بلاد الغال" أو morbo gallico.

(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضربة إسرائيلية ضد إيران في أصفهان.. جيمس كلابر: سلم التصعيد


.. واشنطن تسقط بالفيتو مشروع قرار بمجلس الأمن لمنح فلسطين صفة ا




.. قصف أصفهان بمثابة رسالة إسرائيلية على قدرة الجيش على ضرب منا


.. وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير تعليقا على ما تعرضت له




.. فلسطيني: إسرائيل لم تترك بشرا أو حيوانا أو طيرا في غزة