الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الألم والتحسر في الشعر الجاهلي ج .1

سعد سوسه

2020 / 6 / 24
الادب والفن


هناك العديد من المشاهد التي تحز بالنفس وتورثها الالم وهذا ما تراه من خلال تلك الخطابات الغزلية التي تفصح عن (( دلالات نفسية يرى الشاعر من خلالها غير مشاعر الحب وما يتصل به من شوق وحنين بقدر ما يتيحه لبيان موقف اجتماعي تنضوي تحته دلالات نفسية لها اثر كبير في حياته )) ( 1 ). وترى من الطبيعي ان الشاعر يقف (( وقفة كلها ألم ، ويتصفح ذكرياته على طيات الرمال ، وينضح شعرا رقيقا وجدانيا )) ( 2 ) . وان حياة هؤلاء العشاق (( بليغة الدلالة على ما كابدوا في حبهم من الألم جسام ، وما بذلوا في سبيل حبيباتهم من تضحيات عظام)) (3 ) . قال عنترة:
وما شاقَ قلبي في الدُّجى غير طائرٍ ينوحُ على غُصنٍ رطيب الرَّنـــدِ
به مثلُ ما بي فهو يُخفي من الجَوى كمثل الذي أخفي وَيُبدي ألذي ابدي
ألا قاتلَ اللهُ الهوى كم بسيفــــهِ قتيلُ غرامِ لا يوسّدُ في اللَّحــدِ ( 4 ) .
وبما ان معاناة الشاعر تنبعث نتيجة عوامل وبواعث فان معاناة الشاعر المتمثلة بالألم والتحسر انبعثت نتيجة:
بواعث اجتماعية:
فهو يؤدي بالشاعر إلى تكبد المعاناة حيث ان المجتمع الذي يحيط به قلما يؤيد في حبه نتيجة الأعراف والتقاليد لان البيئة الجاهلية لم تكن((تجيز التغزل بالعذارى ،حتى انهم حرموا على الفتى ان يتزوج فتاة تغزل بها فشهرها)). فهذه إحدى منغصات العاشق الذي يحاول الفوز بالمحبوب ولكنه لا يستطيع وهذا ما يحمل الشاعر على التحمل في سبيل حب حبيبته (( الأهوال والمخاطر وقد يصـــاب بالمرض والضنى والهزال وربما اودى هذا الحب بحياته فمن الحب ما قتل )). وانشد عنترة :
إذا كانَ دمعي شاهدي كيف أجحدُ ونارُ أشتياقي في الحشا تتوقدُ
وهَيهاتَ يخفى ما أكنُّ من الهُوى وثوبُ سِقامي كلُّ يومٍ يجــددُ
أقاتلُ أشواقي بصبري تجلـــداً وقَلبي في قيدِ الغرامِ مُقيـَّـدُ
وقول المرقش الأكبر:
قُل لأسماءَ أنجزي الميعــــادا وانظري أن تزّودي منكِ زادا

وإذا ما سمعتِ من نحــو أرضِ بمحُبّ قد ماتَ أو قيلَ كـادا
فاعلمي – غير علمِ شك – بأني ذاكَ ، وابكي لمصفدٍ أن يفادا ( 5 ) .
فارتبط لديهم الحب بواقع اجتماعي حزين ينتهي به إلى الفراق الأبدي، وربما أدى به إلى الموت. ونجد ان تجربة الحب الحزينة لا تصف ذات صاحبها فحسب بل تحاول في بعض الأحيان إلى تصوير (( ملامح الواقع الاجتماعي الذي نشأت فيه واثر فيها وبخاصة بقاء رنة الألم والحزن والتحسر واضحة صريحة في نصوصها واغلب نماذجها الشعرية)) ( 6 ) . لذلك نجد بعضهم يقول ان قصيدة الشاعر العاشق تجمع بين ( التودد إلى الحبيبة … ورثاء النفس ، صورة حزينة ، متشائمة سوداوية ، نتيجة لخيبة الأمل والإخفاق في تجربة الحب ).
ثم ان التقاليد والأعراف لم تكن هي القيد الوحيد المفروض على الشاعر العاشق بل هناك الرقباء الذين كانوا يعدون الخطوات على العاشق المحب فيقفون حجر عثرة في طريق المحبين ويكونون في أحيان كثيرة من أقرباء الحبيبة الطامحين في نيلها ، والحراس والرقباء يعدون من (( آفات الحب التي يتعرض لها المحبون)) ( 7 ) . لذلك نجد بعضهم قد احتال على الرقباء بان جعلوا بينهم وبين من يحبون رسول ينقلون إليهم الأخبار ، فهذا دليل على انهم لا يخشون الأجراس والرقباء بل كانوا يبعثون الرسل إلى صاحباتهم والنجوم لا تزال في كبد السماء . من ذلك ما ذكره امرؤ القيس :
بعثتُ أليها والنُّجومُ طوالــــعٌ حِذَاراً عليها أن تقومَ فتسمعَا
فجاءتْ قطوفَ المشى هائَبَةَ السُّرَى يُدافعُ رُكنَاهَا كواعبَ أربعَـا
أما عنترة فتراه قد بعث جاريته لتتفقد له أخبار حبيبته عبلة:
فبعثتُ جارِيتي فقلتُ لها أذهبــي فتجسَّسي أخبارها لي وأعلمي
قالتْ رأيتُ من الأعادِي غــــرّةً والشَّاةُ مُمكنةٌ لمن هو مُرتمِ
وهذا امرؤ القيس في موضع آخر يتجاوز الأجراس والرقباء بنفسه دون الاستعانة بالرسول فقال:
تُجاوزت أحراساً وأهوالَ معشـــرٍ علَّي حراصٍ لو يشّرون مقتلي
إذا ما الثرَّيا في السماءِ تعرّضـــتْ تعرُّضَ أثناءِ الوشاحِ المفصَّلِ
أما الوشاة فقد كانت وطأتهم اشد وأمر على العاشق فهم (الأعداء المغضين الذين يتربصون بالأحبة، ويكدرون عليهم عيشهم خفية من دون ان يصرحوا بذلك )( 8 ) لذلك نجد ان السعادة التي ينعم بها المحبون ليست طويلة.. الأمر الذي يفرض الكتمان والسرية التامة على المحبين وذلك ما نتأمله في تجربة مضاض الجرهمي القائل:
يَعشي على الناسِ لحط طَرفي وعنكِ يا مي غير عاشِي
أتهجرينني بغيــــر ذَنَــب وتقتليني بقُولِ واشـــــي
وقال المرقش الأكبر في هذا الشأن أيضاً:
أيلحى امرؤ في حبِّ أسماء قد نأى بغمزٍ من الواشينَ وأزوّر جَانبهُ (9 )
ويصف قيس بن الحدادية الواشي وما أشاعه من كلام بين الظعائن ونتيجة لكلامه جعل المحبوبة تبكي على حبيبها فيدعى عليه بالبكاء كما أبكى من احب:
سعى بينهم واشٍ بِأفلاقِ برمــةٍ ليفجعَ بالاظعانِ من هو جازعُ
بكتْ من حديثٍ بثَّهُ وأشاعـــهُ ورصَّفهُ واشٍ من القومِ راصعُ
بكتْ عينُ من أبكاكِ لا يعرفُ البُكا ولا تتخالجكِ الأمورُ النـوازعُ (10 )
أما عروة بن حزام فتراه قد شكا كثيرا من الوشاة ووصف ما كان يشعر به من ألم نتيجة الوشاية ثم ذم الوشاة وأفعالهم فهو القائل:
ألا لعنَ الله الوشاةَ وقولهـم فلانةُ أمست خلَّةً لفـــــلانِ
فويحكما يا واشيي (أمَ هيثم) ففيمَ إلى من جئتُما تشيــــانِ
ألا أيُّها الواشي بعفراءَ عِندنا عدمتُكَ من واشٍ ، ألستَ ترانـي
ألستَ ترى للحُبِّ كيف تخلَّلت عناجيجهِ جسمي، وكيف برانـي
إذا ما جلسنا مجلساً نستلـذَّهُ تواشوا بنا حتى أملَّ مكانـــي
تكنَّفني الواشونَ من كلِّ جانبٍ ولو كان واشً واحدٌ لكفانـــي
ولو كانَ واشٍ باليمامـة دارهُ وداري بأعلى (حضرموت )اتاني ( 11 )
فهو قد توسع في ذكر الوشاة وما فعلوا به ومع ذلك فهو في بيت آخر يطلب منهم ان يجعلوه يحصل على نظرة من عفراء لتقر بها عينه:
فيا واشيي عفرا دعاني ونظرةً تقرُّ بها عيناي ثمَّ دعانـــــي
فمن هنا نحس ان الشاعر العاشق كان يصدر في منهج قصيدته من دوافع نفسية يستوحيها، ولا يقتصر على تقاليد فتية يطيعها . لذلك عندما تقرأ قصائد أولئك الشعراء تشعر بقوة عاطفتهم الجياشة وهم يصفون صراعهم الدائم ، ويحللون شعورهم بتلك العاطفة التي سدت عليهم كل مجال . لان هذا الشعر جاء مصورا لقلوب محترقة كثيرة لدرجة اصبح الألم فيها مصدر راحتها النفسية . إذا هذا العاشق لم يكن (( لاهيا عابثا حين يعاني الألم حبه )) . فان الشاعر العاشق حاول أن يستغل الطلل في إقامة علاقة بينه وبين من كانوا في الطلل وربط بين ماضيه وماضيهم ليستطيع من خلال هذا الربط التحدث عن الصراع النفسي الموجود في داخله نتيجة الفراق . من ذلك ما انشده قيس بن الحدادية:
وما راعني إلا المنادي ألا ظعنوا وإلا الرواغي غُدوةً والقعاقعُ
فجئت كأني مستضيفٌ وسائــلٌ لا خبرها كلُّ الذي انا صَانعُ

فأنُّهمــا ما أتبعـنَّ فإنَّنـــي حزينٌ على أثر الذي أنا وادعُ
ويجب الوقوف عند شيء مهم، وهو ان الشاعر يقتصر تمثيله للألم والتحسر عند الوقفة الطلية فحسب بل نلاحظ انه قد ذكر ألمه من خلال المقدمة الغزلية ورحلة الظعن وطيف الخيال. وذلك ان مقدمة النسيب في القصائد الجاهلية كانت تعبر عن (( أزمة الإنسان وموقفه من الكون وخوفه من المجهول )). لان النسيب يمثل ((ألم الحنين والرغبة في لقاء الوطن والمحبوب) . وهو أيضا ((بث الشوق وتذكر الأيام الجميلة التي خلت مع المحبوب وتمني عودتها)) . فمن النسيب ما كان (( نسيب العشق)). وترى نسيب العشق إذا تعلق الشاعر الناسب بإنسانة معينة وهو كثير عند الشعراء العذريين في الجاهلية والإسلام.
وان المطالع الغزلية في الشعر العربي بعامة والجاهلي بخاصة تطرد فيها رنة حزينة باكية تكاد تكون سوداوية في بعض الأحيان وهنا يلعب العامل الاجتماعي والنفسي دورا كبيرا في خلق وتجسيد مفهوم الألم في المقدمة الغزلية. .
لذلك نجد إن تنوع بدايات القصائد بهذا الشكل يشعرنا بصدق هذه المقدمات وبالدافع النفسي الذي كان يدفع الشاعر إلى الغزل حينا، ويصرفه عنه إلى سواه حينا آخر .
وإذا كان افتتاح القصيدة الجاهلية قائما على صور الطلل او الظعن أو النسيب أو الغزل أو الشكوى أو حديث الطيف. فان هذه التفاصيل تبدو متضافرة على منح حديث الشاعر مناخ الأسى البائس عند أعتاب ذكرى تمتلك عليه أقطار نفسه.
وان الصورة المتداولة قي افتتاح القصيدة الجاهلية مرتبطة بخيط يمثل صرح الماضي المنهدم في حياة الشاعر والماثل في ذاكرة معاناته الإنسانية .
ويبدو ان امرأ القيس في ذكره للطلل يعبر عن مأساة التغير التي تصيب الأشياء وتصيب من خلالها العواطف المرتبطة بها والناتجة عنها، فالوقوف على الأطلال والتحسر على الذكريات والبحث عن الديار هي رموز لتجربة الألم التي يجد فيها الشاعر راحة ولذة نفسيتين يطمئن إليهما في التعبير عن بعض مشاعره الحبيسة .
ثم ان هذا الشاعر حاول في مقدمة معلقته الذائعة الصيت. شمول (( فكرة بكاء الأطلال على معان من الحسرة والألم والنقصان والحيرة في تلمس مغزى الوجود)) . وهذا ما يؤكد مطلع قصيدة أخرى ابتدأه الشاعر بالطلل قائلا:
ألا عِمْ صباحاً أيُّها الطَّللُ البالي وهل يَعمنْ من كان في العصر الخالي
وهل يَعمنْ إلا سعيدٌ مخلَّـــدٌ قليلُ الهمومِ ما يبيتُ بأوجــــالِ


اذ يفصح من خلال هذا المطلع من كون الديار قد تغيرت بعد ذهاب أهلها فكيف له ان ينعم بعد فراقهم. وان النعيم والفرح يكون للذي أوتي سعادة مخلدة ويكون قليل الهموم، لا يفزعه ويروعه شيء.
فكأنما أراد الشاعر من خلال هذه الأطلال ان (( يرثي الديار أو يبكي شبابه أو يتوجع من تغير الدهر لحبيبته) .
وهو بذلك يبدو ذا نفس عاطفية شديدة الانفعال تحب الإفضاء إلى الغير وإلى ذاتها بمكنونات الصدر.. فشعره حديث نفس عارمة وذكريات نفس مشردة وغضبة نفس ثائرة ، وهو إلى ذلك انه حزن وألم ونغمة من نغمات النفس الملكية ). وهذا الألم تلحظه في هذه الأبيات التي تعبر عن هيامه الزائد، وانه لا يريد ان يترك المكان الذي نضح بذكرياته ، فهو يسره ان يبقى طويلا ، فقال:
ظللتُ ردائي فوقَ رأسي قاعداً أعدُّ الحصى ما تنقضي عبراتي
أعنِّى على التَّهمام والذِّكـراتِ يبتنَ على ذي الهمِّ معتكــراتِ
ولعل من اقدر الأمثلة الشعرية التي تعبر عن شدة الألم والمفصحة عن مشاعر الحزن هو ما صرح به امرؤ القيس في هذه الأبيات:
قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ وعرفانِ ورسم عفتْ آياتهُ منذُ أزمانِ
أتت حِججٌ بعدى عليها فأصبحتْ كخطِّ زبُورٍ في مصاحفِ رُهبانِ
ذكرتُ بها الحىَّ الجميعَ فهيَّجت عَقابيلَ سُقمٍ من ضميرٍ وأشجانِ
فهو يحاول بهذه الوقفة ان يبين الحزن من خلال معرفة ما عرف من علامات الدار ويصف قدم الدار وبعد أهلها عنها فكل تلك الآثار هيجت الذكرى والحزن والأشجان في ضمير الشاعر وقلبه المحزون.
وليس في الطلل وحده يتذكر الشاعر حزنه وألمه وإنما تراه يحاول من وصفه لرحلة الظعن ان يستذكر سعادة بعيدة شاحبة الظلال لان رحيل الحبيبة ((يخلف لوعة موجعة ولكنها تبقى مجرد ذكرى)).وان هذا اللون من الشعر قديم ، ولا يختلف عن الألوان الأخرى التي تصدرت القصيدة العربية في مختلف مراحلها ، والشاعر عندما يراقب الاظعان يرسم لنا صورة معبرة تحكي سلوكه، ويعكس لنا الشاعر حاله،وخوالجه النفسية إزاء مواقف الرحيل هذه ، فالقيم النفسية في مواقف التحمل والوداع بطبيعتها تفيض عليها سيول عاطفية، وذلك لان العاطفة هي العنصر الأصيل
قال امرؤ القيس وهو يراقب الظعن ويصف حاله:
كأنِّي غَداةَ البينِ يومَ تحمَّلــوا لدى سَمراتِ الحِّي ناقفُ حنظـــلِ
وفي قصيدة أخرى يصرح قائلا:
ألاَ إنعم صباحاً أيُّها الرّبعُ وأنطقِ وحدِّث حديثِ الرّكبِ أن شئتَ وأصدقِ
وحدّث بأن زَالتْ بليلٍ حُمولهمْ كنخلٍ من الأعراضِ غير مُنبَّــقِ
ومن خلال هذه الأبيات نحس أزمة الشاعر، فهو يعرض من خلال رحيل الأحباب ليلا تجربة نفسية عميقة تختفي وراء تمني الربع ان يتحدث لان هـــذا الحديث فيه مواجهة مع رحيل الأحباب الذي لا يمكنه ان يصدقه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة