الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة5

محمود شقير

2020 / 6 / 26
الادب والفن


يطول انتظاري. أقطع الوقت في التأمل وفي مراقبة الناس، مراقبة بريئة ليس فيها أذى أو إساءات: ثمة صبية شابة تضع على رأسها إيشارباً أسود، فيبدو وجهها الأبيض الجميل كأنه قمر يبزغ من قلب الظلام، تلتصق بخطيبها على نحو حميم، ولا تفتأ تحدثه بكلام كثير، فلا تهدأ شفتاها اللتان مثل شفتي أرنبة. وحينما تسكت يبدأ دوره في الكلام، فتصغي إليه، وهي منهمكة في ترتيب الإيشارب حول وجهها (أغبطهما على هذا الانسجام الذي لا يحتاج إلا إلى قليل من الجهد)، ويظلان كذلك إلى أن يظهر الرقم الخاص بهما على اللوحة الإلكترونية، فأتحول ببصري عنهما إلى بقية الجالسين والجالسات: ثمة نساء يرتدين الملابس الشرعية (يتعزز مزاج محافظ لدى بعض الشرائح الاجتماعية، خصوصاً مع تعقد فرص حل الصراع). وثمة نساء أخريات يرتدين ملابس عصرية تلتصق بأجسادهن، وهو الأمر الذي كان ابن عم أبي يتابعه بفضول لافت للانتباه، لكنه كان يموه رغبته بإطلاق شتيمة على كل امرأة ترتدي ملابس فاضحة. وأنا لا أختلف كثيراً عن ابن عم أبي من هذه الناحية، أحب تأمل النساء وهن يتخطرن بملابسهن الجميلة، غير أنني لا أطلق أية شتيمة، وأواصل تأمل كل شيء حولي.
وأرى جيلاً من الشباب الذين لا يأبهون بأوامر الحارس المتغطرس، بل إنهم في أحيان كثيرة يدخلون في مناكفات مقصودة معه، يقفون، يأمرهم بالجلوس، فلا يطيعونه، فيحاول إرغامهم على ذلك، فلا يكترثون له، ثم يضطر إلى معاملتهم بالحسنى كي يمتثلوا لكلامه.
وثمة جيل جديد من الفتيات القادمات من القرى المحيطة بالمدينة، لا يختلفن في شيء عن بناتها، بعد أن أصبحن قادرات على استكمال دراستهن في مدارسها، ولم يعد مستهجناً أن يظهرن في الشوارع ببنطلونات الجينز المشدودة على أردافهن، وبالبلوزات الناعمة التي تنحشر تحتها نهود مشرئبة، ظلت سبباً من أسباب نقمة خالي الزبال، على بنات اليوم، لكثرة ما لديهن من أفانين الإثارة والاستعراض، فإذا تحدث عن طيشهن، فإنه لا يطيب له إلا شتمهن بأقذع الكلمات، فهو لا يرى الأمور إلا من خلال نزواته التي تأخذ عليه كل تفكيره.
وأنا أتابع كل شيء تقع عليه عيناي، في هذا اليوم من شهر أيار، في القدس التي عدت إليها بعد غياب (كم كنت أتألم لمشهد أهلها، وأنا أراهم يهبطون من الحافلات التي تنقلهم من طرف الجسر إلى طرفه الآخر، في رحلة القدوم إلى عمان! كنت أراهم متساوين في الشقاء، لا فرق بين غني وفقير، أو بين موظف كبير وموظف صغير، فالجميع مجبرون على ركوب وسيلة المواصلات الوحيدة المتاحة، لزيارة ابن يمنعه المحتلون الإسرائيليون من دخول الوطن، أو لحضور زفاف حفيدة عاشت حياتها كلها في المنفى، أو لحضور العزاء في عزيز مات، أو لأسباب أخرى كثيرة. كانوا يبدون بملابسهم التي "جعلكها" السفر، وبحقائبهم الخاضعة لشتى أنواع التفتيش، كأنهم خارجون لتوهم من زنازين السجون).
أبتدع لعبة أخرى لقتل الوقت، أحدق في ملامح الخلق المنتظرين، ثم أرى إلى أي حد تشبه ملامح أناس أعرفهم: هذا الرجل الجالس غير بعيد مني، يشبه ممثلاً مصرياً يلعب أدواراً شريرة، غير أن الرجل الذي أراه، يبتسم بين الحين والآخر مثل طفل. تلك المرأة التي ما زالت في الثلاثينات، تشبه زوجة صديقي الذي رافقني في رحلة الغربة، أثناء إقامتي في مدينة براغ. لها أنف بارز في وجهها، يجعل ملامحها توحي بالنزق، غير أنه لا يفسد جمال وجهها. ذلك العجوز المهموم، أين قابلته؟ أو أين قابلت من يشبهه؟ لا أدري، لكنني أشعر كما لو أنني أعرفه. تلك المرأة الصبية التي تحمل طفلها، لها بشرة بيضاء، وعينان زرقاوان، ترتدي جلباباً، وتضع على رأسها إيشارباً أبيض، وطفلها الآن يبكي، تحني جسدها صوبه، تدير ظهرها إلى الجمهور، وتتجه بصدرها نحو النافذة، تخرج ثديها بحركة سريعة، تدنيه من شفتي الطفل، فيسكت، ثم تغطيه بطرف الإيشارب كي لا يطول انكشافه أمام نظرة عابرة أو غير عابرة.
وتستمر همهمة الجمع المنتظر إلى ما بعد الظهيرة. ونكون جميعاً في مزاج سيء لطول فترة الانتظار.
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/