الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (29)

احمد جمعة
روائي

(A.juma)

2020 / 6 / 27
الادب والفن


كل شيء كان مُنَسّقاً عند مدخل الصالة، كان هناك رَفٌّ مرتبٌّ للأحذية وهي عديدة ومتنوعة توزعت على رفين غالبيتها ذات كعبٍ عالٍ، وهناك سجادة حديثة طويلة على الممر المؤدي لغرفة النوم التي على جانبها يطل المطبخ وله نافذة عازلة بينه وبين الصالة، توقفت في الصالة ووضعت مفاتيحها على المنضدة في الجانب الأيمن وأضاءت الصالة من خلال مصباح طويل على جانب بقرب شاشة التلفاز الكبير ذي الستين بوصة كما بدا، جلس على الكنبة الوردية اللون كما أشارت له وسألته أن يشاركها كأساً فوافق فيما راحت نظراته تمسح المكان من دون ان يلفت انتباهها بفضوله الذي حاول أن يخفيه وراء ابتسامته ونظرته لها فيما انْشغَلت بتحضير الكأسين، وقعت عيناه على صورة لها على طاولة مستطيلة مرتديةً بذلة الشرطة الرسمية وقد وقف إلى جانبها رجل شرطة طويل القامة وبدين الوجه تَكَهّن أنه والدها، راح يتأمل الصورة غير مصدق أنه اخْتَلى مع شرطية بريطانية، وتذكر تقي ومغامراته مع الإنجليز، فاعترف في سره، أنه أقتبس هذا السلوك من ذاك الرجل.
"تشعر بغرابة الموقف وسرعته، صح؟
هز رأسه وهو يستلم الكأس من يدها التي بدت ترتجف مستغرباً هذه الحالة التي لم تكن عليها طوال فترة وجوده معها بالحانة، أخذ الكأس فيما اتجهت نحو مُشَغل الموسيقى ووضعت أغنية تذكر أنه سمعها صدفة "هالو" لبيانسيه، وهي غير أغنية أديل التي رددها من قبل، بدا الموقف صعباً عليه وهو يركن بهدوء إليها بينما راحت تحدق فيه وتهز خصرها بخفة مع الأغنية، كان شعوره مزيجاً من الغبطة بالمجيء معها الشقة وإحساساً متذبذباً بالخوف من مجهول ينتظره وقد تخذله الحالة لو استسلم لخوف دفين غائر منذ سنين، تجاوزه مع شيري ولا يضمن تكراره. رَشَف من كأسه، أزاح الثقل عن صدره وبدأ يميل برأسه مع الأغنية.
"تبدو متوتراً.
ساعدته كلماتها على الاعتراف بما يَخْتلج في داخله، رد بنبرة متيقنة من قدرته على تجاوز الشعور المُرْتَبك.
"قليلاً.
دَنَت منه وشعر بحرارة تسري في مفاصله وهي تبتسم له، سرح مع كلمات الأغنية التي تقول.
" مهدت الطريق لدخولك، ولم يكن لدي أي شك، بأنني واقفة في هالتك، فقد كَسَرتُ كل قواعدي"
خدرت قدماه، انْتصَب واقفاً وراح ينظر للكأس بيده وشعر بتعرق راحت يده رغم برودة الكأس، فيما دَنَت منه أكثر وقالت بصوت مستفز.
"أَنْتَ فعلاً متوتر، هل لأني شرطية؟ هل تريد أن أَعْتقلك الآن؟
ضحك في وجهها وقد أثاره تهديدها فَرَدَ عليها بنبرة واثقة لا تخلو من مسحة تَحدٍ.
"بأي تهمة؟
رشفت بقية كأسها وضعت الكأس على المنضدة حولها وتقدمت منه وأمسكت بيده قائلة ونظرتها العميقة تلتهمه.
"بتهمة إغواء شرطية.
ضحك مرة أخرى وقال وهو يشير لها برغبته في كأس أُخرى وهي ما زالت تمسك بيده مهددة.
"أَنْتِ خارج الخدمة الآن ولا يحق لَكِ توقيفي.
تركت يده.
"لا تكن واثقاً.
إنْتهَت الأغنية، تركته ودَلَفَت الغرفة المقابلة، تجرأ وأَعَد كأسه وراح يتأمل محتويات الصالة التي بدت فسيحة تملؤها مقتنيات عصرية لا توحي بوجود من يشاركها المكان من حيث التنسيق والنظافة وترتيب الأشياء، كان هناك رف صغير بمحاذاة الباب عبارة عن بار اصطفت عليه بضع زجاجات من النبيذ والويسكي وبضعة كؤوس، بدا له المكان أقرب لرجل منه لامرأة، اللوحات الثلاث الموزعة على جداري الصالة، كانت لمظلة مفتوحة على الفضاء وقد كتبت عليها عبارة relax ولوحة أخرى لمسدس يطلق رشقات من الأزهار، واللوحة الثالثة لوجه امرأة ساح ماكياجها وكُتِب أسفلها عبارة unrelax ضحك في سره ولكنه أفَّاق بغتة على دخولها المفاجئ ببذلة الشرطة، تأهب لدى اقترابها منه، أخذت الكأس من يده رشفت منه ووضعته على المنضدة، دَنَت منه حتى كادت تلتصق به، فجأة اشْتَعل جسمه من الداخل وشعر بالدم يفور في أعضائه، باغَته إحساس بالشهوة لها إذ بدت في ملابس الشرطة التي كانت ضيقة عليها مثيرة وقد تَأَججَت بالشهوة التي فضحتها من عينيها وهما تلتهمانه، هو بدوره توهج واسْتعَر وجهه واحْتقَنت بشرته.
"ما زِلْت مُشَككاً في قدرتي على توقيفك؟
أثارته العبارة ووجدها فرصة للتمادي معها في اللعبة المُهَيُّجَة.
"سَأُجرب مقاومة الشرطة.
خاتمة المناورة الْتصَقت به، بدأ احتكاك الأجساد وتبادل النظرات، شعر بجسده يرتعش وإزداد هياجه ما صعد من تَدفُّق حرارة جسدها مع رغوة الشعور بالاتصال، انْبَلَج الصمت على المكان إلا من تصاعد الأنفاس.
"أَنْتَ الآن رهن الاعتقال.
"أنا محاصر على حافة الغيوم وقد تُوشك على عبور الجاذبية، أرى من نافذة القمر قلباً مفتوحاً يضخ الضوء في سمائي، إلى متى يدوم اعتقالي؟
ضغطا على بعضهما واشتدت الحرارة فاشتعل التَوق على ضفة الآخر، الْتقَط إشارتها وهي تتحرك في مكانها وقد التصق وجهها بصدره، حين رفعت بصرها ابتسمت وقالت بصوت رهيف متقطع.
"لَوَّثْت قميصك بالحمرة.
"لا يعني أنني تحررت من الحصار.
فجأة قادته نحو غرفة النوم وأَطْفَأت الضوء، فظل شعاع خفيف قادم من الصالة التي بقي بابها مفتوحاً على الغرفة المعتمة.
"سيتم سجنك الآن.
لم يعد يُسْمع سوى صوت لْهاث السكون المتحرك، ضوء من نافذة الجسد يتسلل ويخفي الجسدين كأنهما تلاشيا مع ذرات الكون، فقد تغير العالم فجأة، إلا من نافذة مائية يعبر منها سفيان طريق النسيان.
***
كاد يصدق بأن الكون قد صُنع من نشوة وأن الرجل عبارة عن حديقة مزهرة من كرز أو بنفسج أو موجة في هذا الكون، بدت له الدنيا بعد مضاجعة إيف بلون مختلف وكأن العالم تغير ذات مساء بمجرد صَدحَت الأجساد بترانيم الانْتشاء فضجت الحياة بقوس قزح، أدرك سفيان إثر انْشطار النشوة بأنه محظوظ وقد فر من وجه شيري وتريث في الارتباط بها، فها هي إيف الشرطية التي كانت قبل لحظات مُريبة وغامر بعبور خط الغموض من دون أن يعلم بالمجهول معها، قد أضحت فتنة الكون، لم يخطر بباله أن تنتظره هذه الحديقة من البهجة، كانت امرأة سوبر بلغة المجون وفاسقة حد الجنون جعلته يرى الشمس في الليل، ويسمع الموسيقى في صمت الجسد مع صدى الأنفاس الملتهبة إثر تصدع البركان، فما حصل الليلة فاق بمسافات وأشواط ما جرى مع شيري، خرجت إيف عن القواعد معه وتجاوزت الخطوط الحمراء في قانون الجسد، رأى الدنيا معها مختلفة "أين تقي ليخبره بتأجيل السفر للديار؟ فقد رتل منذ قليل ترنيمة الشهوة كما لم يحلم و لم يتوقع، فمن الجنون الخروج من الجنة وهو للوهلة قد نفذ إليها"
ساعة مرت منذ أفاق من غَضارَة الليلة بِنَضارَتها وهو يتصل بوالده ولا من مُجيب، بدأ القلق، فمنذ مساء عصر الأمس حينما غادره وخرج لم يسمع صوته من حينه، ثم أخذته مغامرة إيف حتى ظل طريقه، زاد التوتر لديه وقد لاحظته المرأة التي كانت تعد القهوة في الصباح وقد نَمَت على وجهها سمات غبطة برونق سعادة واضحة إثر ما جرى الليلة الفائتة، سرعان ما لَفَت انْتباهها حالتة حين اتصل بإدارة الفندق وأخبروه بأن تقي قد نُقل مساء الأمس للمستشفى ولم يفصحوا عن التفاصيل، رأت المرأة حالة البلبة والارتباك، سارع بارتداء ملابسه مشوشاً متهيئاً للخروج، عرضت عليه توصيله إلى المستشفى ولدى تردده أصرت على ذلك، تركت القهوة مكانها وانْتفَضَت تُغير ملابسها.
لم تعد الليلة الماضية سوى فراش مُتأجج بالحرارة أَخْمَدتها لِلْتَو الدقائق الحرجة وهو في الطريق مَذْعوراً إلى مستشفى "إتش سي أي "بلندن ومن المفارقة ترافقه إيف وليس شيري.
تريث قبل أن يَدْلف الغرفة، كانت تقف إلى جانبه في ردهة المستشفى قبالة صالة الانتظار، شعر بأن هذه المرأة الواقفة خلفه متوترة يعرفها منذ زمن بعيد وألفها، كان مذعوراً وهو ينتظر لحظة دخوله عليه وبداخله تتفاعل احتمالات حول وضعه، لا يعرف حتى الآن ماذا جرى؟ إلى أن أشفقت عليه إيف وتوجهت نحو مكتب الاستقبال وتمكنت باسلوبها من جَر الطبيب المساعد الذي أشرف على علاج الأب ووضعته أمام سفيان وتركته يشرح له الوضع الذي لخصه في إصابته بصدمة ما شدت من أوتار شرايِينه وسببت له إرتفاعاً مفاجئاً في ضغط الدم مما أثر على توازن دورته الدموية التي لم تتمكن من ضخ الدم للدماغ بصورة طبيعية ما أدى لهبوط مفاجئ في أداء القلب، جرى علاجه من خلال خفظ مستوى الضغط، ونصحه بعدم الإثارة. إثر ذلك حضنته إيف وحفزته على الدخول إليه فالوضع مستقر، نظر لها وكأنه يستنجدها أن تَدلف معه لكنها فضلت في البداية أن يكون وحده لكي ينفرد به وحتى لا تُهيجه رؤيتةُ شخص لا يعرفه، اقتنع برأيها وحسم أمره وتوجه نحو غرفة المريض وولج حتى أصبح وجهاً لوجه أمامه، كان وجهه مصفراً وشاحباً كما لم يره من قبل، كما بدت عيناه جاحظتين وبشرته باهتة، كان مغمض العين وقلبه يخفق بوجود جهازي التغذية وضبط الضغط. اقترب منه وجلس على حافة السرير وامتدت يده تتسلل بهدوء حتى لا يوقظه لتحتضن يد المريض، حدق فيه لبرهة فأدرك بحدسه أن الرجل مر بصدمة لم يتوقعها نتيجة حدث ما قد يكون خبر شيري مع أنجيلا، ساوره إحساس بالندم ولام نفسه على زجه معه في وقائع حياته خاصة في الفترة الأخيرة التي تضاعفت خلالها ردود الأفعال السلبية الموتورة، ظل يتأمله ويتذكر كل الأخبار المدمرة التي مر بها وأشركه معه فيها وكانت بمثابة ردود أفعال تخصه هو وليس والده معنياً بها، نسي سنه المتقدم وضعف بنيته الداخلية وتذكر إفراطه في الشراب والتدخين والسهر منذ حل في لندن وراح يعيش أجواءها بطلاقة وحرية لا تَتّسق مع عمره، مضت دقائق وَلَجَت خلالها الممرضة الخمسينية النحيفة ذات الشعر الذهبي بخصلات بيضاء عند الطرف مرتين تتفحصه وكان خلالها يتأمله وتذكر أوقات النقاشات والجدل معه في كل ما مر به من أحداث ووقائع يومية. كانت الغرفة المليئة بالأجهزة والمعدات ساكنة وتشع منها إضاءة شاحبة كوجه المريض وهو يغط في نوم عميق نتيجة المهدئات لامتصاص الصدمة التي لا يخمن مصدرها وإن حدس كما ظَنَّ من صدمته في شيري. حينما انْتهت الممرضة وتهيأت للخروج دون أن يتبادل معها كلمة باستثناء ابتسامة مع هزة من رأسها، تذكر إيف في الخارج، انتصب ثم انْحَنى وقبل تقي على رأسه وخرج ليجد إيف مستندة على الجدار، أوحى مظهرها كطائر منهك من شدة زحمة التحليق أرخى جناحيه واستند إلى الريح، صوت الليلة الماضية ممزوج بفجيعة النهار خلط الأفكار في رأسه، أنسته الحوادث الراهنة وقائع الأمس، كأن صمت الطرقات ووحدة المساء الزاحفة على قلبه بعد أن مرض الأب وعزلته، عادت به نحو الشعور بالوحدة بالذات إثر فراره من شيري وفراق أنجيلا، سار بخطوات تجاه المرأة المنتظرة التي ما كادت تلمحه حتى انْتفَضت.
"لعبة الوقت.
هزت رأسها وسارت معه نحو الخارج، لم تمطره بالأسئلة كما توقع بل اكتفت بالنظر في عينيه وقراءة ردود الأفعال كأنها تتلمس طقوساً مخفية للوصول له دون حاجه للتطفل، بدا منهك الذهن كما تذكر قرب تسديد إيجار شقته وهو الأمر الذي أجله مرات عدة معتمداً على وجود الأب معه بأي وقت يطلبه، لم يحسب حساب اللحظة الطارئة، ركب السيارة وكان رأسه مزحوماً بالأفكار والمشاعر، وحين بلغ بنايته، سألته المرأة إن أراد أن تصعد معه، ابتسم قائلاً بنبرة إطْراء ولهجة ثَناء.
"قَدمْتِ ما يكفي.
ردت من نافذة السيارة وهي تلوح له.
"كلمني إن أَرَدت ألتْحدث أو الاعتقال.
وافقها بإشارة من يده واتجه نحو مدخل البناية وإذ بشيري واقفة على طرف الرصيف تنتظره، كانت ممتقعة اللون مع الاحتفاظ برونقها، وزاد من نضارتها توهج وجهها لدى مشاهدتها له يخرج من السيارة برفقة إيف. بدا عليه الاهتياج الأقرب للصدمة، دنت منه وقد لمحت الدهشة عَقَدت وجهه فسارعت بالقول.
"كيف وضع تقي؟
أدرك بأن المرأة بعد أن فر منها أبْرَمَت صفقة من ورائه مع والده باستمرار التواصل، اسْتوعَب للتو سر الاتصالات السرية والمخفية كلما طرأ شيء في العلاقة معه، فَطِن لسريرة دفاع الرجل عنها وتعصبه لها حتى بعد أن عَلِم بما جرى مع أنجيلا ظل متمسكاً بها أكثر، فهم الآن علمها بمرضه عن طريق الفندق حينما اسْتَعلّمت من الإدارة عندما لم يرد على اتصالاتها.
" عَلِمتُ بما جرى البارحة وكنت انتظر لقاءك لنذهب سوية لزيارته لا أَجرؤ على الذهاب وحدي.
صعدا الشقة، ابتلع قرصاً، ثم ألقى بجسمه على الكنبة بعد أن أعد له كأس ويسكي، كانت واقفة تنظر له فيما بدا تائهاً.
"كيف وضعه الآن؟
"على الأجهزة ولكنه تجاوز الأزمة، كيف أَخْفَيتِ علاقتكِ به؟ ومنذ متى؟
لم تتسرع في الرد، طفقت تتأمله وكأنها تتساءل ما إذا كان حقاً هجرها بعد كل تلك العاطفة الجياشة التي كاد يفقد عقله بسببها، ثم قالت بنبرة خامرها إحساس بالاعتراف.
"قبل أن تهجرني كان يتصل بي ويلح على المجيء للفندق والتقرب منك، ظل يتصل بين وقت وآخر، بدوري كنت شديدة السعادة به، كنت أرى فيه الرجل المثالي وحينما عَلِمَ منك بما جرى، اتصل بي وطلب لقائي وخرجنا وشرحت له ماحدث، لا تسِئ فهمي لم أُتاجر بعلاقتي بك معه، كان مصراً على بقائي معك بل حاول رشوتي، كنت شديدة الإعجاب به.
"هل قَبلتِ الرشوة؟
ابتسمت وهي تعد لها كأساً واستطردت بنبرة غِيرَة.
"من كانت معك في السيارة؟
كان ذهنه مشتتاً بين المستشفى وهبوطها المفاجئ مع روايتها التي فاجأته بعلاقتها السرية مع تقي لأجل تقوية الروابط معه، عاد بذاكرته للوراء واسْتعاد وجه والده وجدله معه بسببها ورغبة الآخر في الإسراع بالارتباط معها فأدرك أن الرجل من وقتها وهو يعد سيناريو العلاقة بينهم حيث شكل في ذهنه مع خياله الجسيم أُسرة تضم الثلاثة وقد انْجلَت رغبته واضحةً كالشمس من خلال حماستِه الجارفة لسفيان بالإبْكار في الزواج منها.
"ماذا جرى بينكما؟
سَرَحَت فجأة، وحين لمح تحول وَجْنَتها وتبدل لون بشرتها التي توردت، أدرك ثمة أمراً تخفيه، فحدق بها وصوب نحوها نظرة تساؤل، رشف من كأسه ثم وضعه على الكنبة وبدا مستسلماً.
"هناك أمرٌ لست واثقةً من البوح به.
قالت ذلك وأَخفت وجهها وراء ستار الكأس الذي رفعته تحتسي منه.
"أَصْبًحتُ لا أَعْرفه، بدا لي الآن وكأنه رجل من غير هذا الكون، إنه تقي والدي الذي قضى معي السنة كلها ينتشلني من كل واقعة أو حدث أو نكبة، كيف تصرف من ورائي بهذه السرية؟ ما هو الأمر شيري؟ أكاد أُجَن.
اتَجهت نحوه وحاولت أن تمسك بيده فأبعدها وقد شحب وجهه وتساءل بنبرة إامْتعاض.
"ما هو الأمر؟
رأته في أوج سخطه وضيقه الذي بدا من هياج بشرته التي عادة ما تتحول عند السخط والانفعال، فيما بدت مرتبكة، منشطرة بين أمرين بدا عليها الالتباس فسارع بالضغط عليها قائلاً بلهجة رجاء مغلفة باحْتداد.
"الريح صعبة وأنا أواجه العالم وحدي.
رفعت رأسها للأعلى وبدت متأهبة لعبارة ما، لمحها تفكر فتقدم منها خطوة، ولكنها سبقته بسؤال اشتم منه الغيرة.
"هل تواجه العالم مع المرأة التي أوْصَلتك للتو؟
"رجاءً شيري، جئت للتو من المستشفى، رَأيْتَهُ غائباً عن الدنيا التي عشقها، المرأة لا تعني لي شيئاً سوى امرأة الْتقطتها في الطريق.
صعد الدم إلى وجهها، فأدرك أنها تقترب من البوح بأمر ما، رفدها بنظرة مشجعة ورأى إشراقة الكلمات تدنو من شفتيها، انسجم معها بالنظرات إلى أن تسللت الحروف منها بنبرة مُبرِحة.
"كان يعالج أنجيلا سراً، لن يحدث العلاج فارقاً لكنه أصر عليه.
كأنه سمع ترنيمة مزمور ما تصدح في الكون.
"كيف لا أثق به؟ فهو قريب لمن يدعوه"
جلس على طرف الكنبة واقتربت منه، بدت مترددة في ملامسته، اكتفت بالوقوف إلى جانبه كأنها تتحسس مشاعره عن قرب، ودت لو تحتضنه لإخْراس الألم بداخله، فهي تدرك اللحظة ماذا يعني تقي المرجاني له، أنه بمثابة الرب الصغير.
"هل تُريدني إلى جانبك؟
جلس على حافة أُفقٍ ورفع رأسه للسماء، رأى كتل الغيوم الداكنة تطفو والمياه تغمر اليابسة ووجه أبيه يشرق عن ابتسامة مضيئة كأنها نجمة كريستال تسبح في الغرفة، أمسك بالنجمة ولكنها فرطت من يده فشعر بخيبة أمل تحوم كأنها الترنيمة عادت تحلق في الغرفة، ظن أنه تأثير الأقراص والشراب والحوادث إلى أن أيقظته يد شيري.
"تُرِيدني أَبقى؟
الريح تصفر في رأسه وصوت الموسيقى يهدر ولا يعرف مصدره، لمح في عينيها إذْعاناً، تذكر وحمة بنية اللون قرب منطقتها الحساسة، دهش لِهذا الإحساس في هذا الوقت الجسيم، رد عليها بنبرته السابحة على سطح الغيوم.
"أُرِيدهُ أن يَعود.
تخبو الأشياء وتطفو، تنمو وتذبل، تصعد وتنحدر، الأصوات في رأسه تحاول أن تنجو من الالتفاف عليه، شعور بأنه مَطْمور داخل ساعة تتحرك عقاربها عكس الزمن الذي يعيشه، لا يرى الآن إيف أو أنجيلا أو شيري، بطلاته اللاتي يتحلقن من حوله هن جوري وإفيلين وجيني التي هي جميلة شقيقته. توجه نحو غرفة النوم واسْتلقى بملابسه وحذائه وسط عتمة المكان لولا خيط ضوئي تسلل إليها من الصالة، لحقت به شيري وجلست على طرف السرير.
"هل أَنتَ بخير؟
هز رأسه وأغمض عينيه الحمراوين من شدة الإنْهاك.
"أنا بحاجة لنومِ عميق فحسب.
خلعت حذاءه عنه، سحبت الغطاء على جسمه وقبل أن تنسحب لَمحت دمعة وحيدة في عينه اليسرى فقط، توقفت وتأملت صورة تقي مُنْعَكِسة فيها، ابْتسمت وغادرت بعد أن أَطْفأت ضوء الصالة.
لم تمضِ سوى دقائق طفيفة منتشية بعد خروج شيري حتى غمر الضوء محيط الغرفة، صَدَحت موسيقى جنائزية فقفز فجأة مذعوراً على صورة حذاء كعب عالٍ في قدم امرأة لم يتبين صورتها، إذا تلاشت وذابت في صورة والده تقي.
****
بدأ التفكير في إيصال الخبر إلى العائلة في البحرين وقد تعاظمت حرقته، هذه المهمة تشبه الإبحار في قلب العاصفة، سيتطلب الأمر درجة من ألأسى تجزع له النفس حينما تواجه الأسئلة وتبحث عن الأجوبة، عندما يبدأ العد العكسي لرحلة في الاتجاه المضاد ويبادر الجميع بحجز تذاكر الطيران والمجيء للندن، في وقت تتكثف فيه الغيوم حوله من كل الجهات، هل ينتظر بضع ساعات ليرى الوضع قبل أن يسارع بالاتْصال؟ ماذا لو ساء الأمر وتقاعس عن اطلاع العائلة على الخبر؟ ما هي الشكوك والريبة التي ستطال عتبة بابه وتضعه في دائرة الضوء؟ طار تأثير المسكر والأقراص المنومة ورَسَخت الهواجس، ستكون الحالة كتلة من الهُراء عندما تطال رب الأسرة، تأهب للساعات القادمة وهو يحاور نفسه مانحاً الوقت أن يتمدد فقد تسفر لعبة الزمن عن مفاجأة ما، ورقة الانْتظار تحترق تدريجياً وأوشكت جيوبه على الإفلاس وبطاقات السحب مع المريض والالتزامات الآتية تنذر بعاصفة.
"لم تعد الموسيقى تُجدي"رد على شعوره المتناغم مع الموسيقى الكونية التي يرنو لها وقت المحن، لا يسمع سوى جلبة آتية من جهات عدة، تقي، أنجيلا، شيري، وإيف، وفوق ذلك الإفلاس والعائلة في الديار التي لا تعلم حتى اللحظة بشيء، الوضع معرض للإفشاء لو اتصل به أحدهم بضع مرات ووجد الهاتف مغلقاً.
"لابد من فتح نافذة على السماء"
غير ملابسه بسرعة وخرج، كانت الساعة التاسعة وثلاث دقائق والجو في الخارج غائماً، والشوارع كانت شبه خالية عند تلك اللحظة التي استغل فيها سيارة الأُجرة وقصد المستشفى، راح يَسْتَجْلي الشارع بنظرات زائغة تحدق في كل حركة تمر أمامه يجتاحه شعور بغيض بأنه لن يتسكع في شوارع وأحياء وحانات لندن، سيعود للديار ولكن الصورة ضبابية وتفتقد الإطار الذي عادةً ما يرسمه خياله لكل السيناريوهات في حياته منذ أُصيب بالْشَك في جسده، كانت الأجسام مجرد خرائط وتضاريس، جوهرها المادة المبدعة للمشاعر، لقد تولى علاج الاكتئاب من حياته بالغوص في العبث الذي قاده للتخلص من الألم والفرار نحو الحب.
في ردهة المستشفي قرب الغرف الخاصة عند مكتب الاستقبال الفرعي، ألْفى نفسه يَترقَب إشارة قبل أن يلج، وفي النهاية دَلَف الغرفة ليُفاجَئأ بالمكان فارغاً، كان وقع اللحظة صاعقاً، حين تأمل المكان وجده نظيفاً وفجأه قاده عقله الباطن لحدس مريح حين حلل الأمر في رأسه "لو ثمة مكروه وقع له لتم الاتصال بِي فوراً" خرج مذهولاً ومذعوراً رغم الخاطرة المريحة مباشرة على مكتب الاستقبال الذي تجاوزه أثناء دخوله، وهناك قاده أحد العاملين في المكتب إلى غرفة خاصة بجناح مختلف عن غرفة الإنعاش على الطرف الآخر، حينما دَلف وجد تقي يقرأ في ورقة ومن حوله مستندات وأوراق مع محفظة على طرف السرير، رفع رأسه ورأى سفيان أمامه ابتسم وقال بنبرة وسط دهشة الابن الذي بدا مصعوقاً حين رأى الأب متحفزاً للأمر، بدا وكأن الرياح هبت إثر هوادة والسماء أمطرت بعد جَدْب والنهار بزغ عَقِب دُجْنّة.
"أنا حَيٌّ يرزق، هكذا أَثب كل مرة.
وقف سفيان مشلولاً وقد اسْتفاق وتملكه شعورٌ بين الزهو والدهشة، رأى وجه تقي متورداً وكأنه تناول بالأمس قرصاً منوماً وخُدر ثم صحا اليوم، أي رجل هذا الذي يعود من الموت كل مرة ولا كأنه كائن بشري، تذكر قول شفيقة والدته بأن الرجل آلة زمنية تقاوم الصدأ.
"أراجع وصيتي بين وقت وآخر، لا تخشى شيئاً سفيان ابني، أنت المالك القادم للعاصفة.
حاول أن يضحك غير أن انفعالاته الطارئة لم تسعفه، تقدم من سرير والده وقال مازحاً.
"حين لم أرك في غرفة الإنعاش كدت أسقط، خشيت أنَك رحلت.
أشار له تقي بعد أن وضع الورقة جانباً أن يأتي ويجلس على حافة السرير، كانت قد نُزِعَت عنه الأجهزة وبدا بصحة وحيوية، كان جرس إنذار حوله وعلبة مياه معدنية مع كتاب بيضة القمر، انحنى الابن وقبل والده على رأسه وأمسك بيده ونظر له وقال بنبرة استسلام.
"اعذرني على المشاغبات وسامحني، حَمَلتك عبئي واتكَلت عليك منذ سنوات، آنَ الوقت كي أنْعتق وأعتمد على طاقتي.
في ذورة فرار سفيان من شعور الخوف الذي اجتاحه كان الأب في ذروة انشغاله بالأوراق ولا كأن ثمة حالة طارئة مخيفة مرت به، أو وعكة تعرض لها، حتى شك أن الرجل عَلِم بما وقع له، ما استدعى الابن يسأله من باب التأكد.
"أنت بخير أبي؟
رد الآخر وهو يحدق في ابنه وابتسامة دهشة على وجه.
"أَفْضل من حالك سفيان، تبدو ممتقع البشرة كما لو صعدت قمة إيفيرسيت.
قالها مازحا وهو يضغط على يد ابنه، ثم اسْتَدرك وقد عدل من وضعه على السرير.
"أنا مرتاح ابني وأريدك أن ترتاح كذلك، لا داعي للتوتر نحن بخير وبلدنا البحرين بخير والعالم بخير، لم القلق من كل شيء؟ سفيان لا تتراجع عن الحياة دعها تأخذك بأي منحنى تختاره لك، ولا تأسف على شيء.
مسك تقي يد ابنه وهو بجانبه على طرف السرير واسْتأنف بنبرة آمرة فيما الآخر ما زال يعاني من اخْتِلاج مشاعره منذ ليلتين.
"هيا ابني أنهِ إجراءات خروجي من هنا ودعنا نضع خطة سريعة للعودة للديار.
خفق قلب الآخر وتسارعت دقاته وقد تذكر قراره بتأجيل السفر بعد ليلته مع إيف، نظر لوجه والده.
لنؤجل السفر حتى تستعيد كامل صحتك.
"أنا أصح منك.
عاد طيف إيف يهيمن بعد أن استرد الأب طبيعته، ابتسم وقد اسْترجع المرات التي يسقط فيها ثم سرعان ما ينهض ولكنها المرة الأولى التي يَهْب فيها بهذه السرعة، فجأة وبدون سابق استشعار خامره حدس مباغت كأنه سهم نفذ في أعماقه وأيقظ فيه لمحة خاطفة من وجه شيري التي كانت تنتظره أسفل البناية ولم يظهر عليها رد الفعل المتوقع لسقوط الرجل، أدرك لوهلة بأنها على علم بما وقع له وربما زارته في المستشفى وهو الذي بعثها له، مثلت عليه الدور برغم اعترافها بعلاقتها السرية من ورائه لأجل أن يقربها منه "لكن ما حكاية أنجيلا التي عالجها على حسابه الخاص؟ ومتى؟ وكيف؟"عبرت تلك التساؤلات الغيبية والمفاجئة وهو يتأمل وجه الرجل وما يخفي من أسرار "كل هذا يخرج منك تقي؟" شعر بالغضب فجأة وأزال من داخله شعور الخوف والتوتر وهو يرى الرجل المريض يصحو بعد ساعات بينما هو يمرض فقرر أن يهاجمه في ذروة انفعاله بعدما اكتشف العلاقات السرية التي نسجت من ورائه مع شيري وأنجيلا وما إذا ما كانتا مجرد محتالتين أدركتا سر ثروته، أم فعلاً تجمعهما علاقات إنسانية؟
"أبي، لن أغادر لندن.
ضحك الأب ورد عليه بلهجة واثقة كما لو كان على علم بالغيب.
"أنت على علاقة بامرأة جديدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81