الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بكاء الأطلال

سعد سوسه

2020 / 6 / 29
الادب والفن


ان الناظر إلى الشعر الجاهلي يجد ان ظرف المعاناة وطبيعة موقعه من الحدث سيبقى المسؤول عن ردود الفعل عند هذا الشاعر أو ذاك لان (( وقع الظلم وحده الذي يمكننا ان ندرج تحت كل أشكال المعاناة وأنواعها التي كابدها الشعراء في ظل تجربتهم القبلية وانساقوا بتأثيرهم إلى فلسفة الحياة )). وان هذه المعاناة للناس بعامة والشاعر بخاصة تستقى مادتها من واقع الحياة ولكن هذا الواقع يستحيل في الشعر إلى واقع آخر مغاير للواقع الحقيقي فالفن عامة والشعر خاصة لا يقصد إلى تصوير الحياة كما هي في حقيقتها… ولكن رؤية هذا الواقع الشعري من خلال الواقع الحقيقي.
ويبدو ان الشعراء قد اختلفت طرائق تعبيرهم عن المعاناة فمنهم من وجد في البكاء سبيلا لإظهار المعاناة، وآخر وجد في الشكوى منفذا له. وراح بعضهم الآخر إلى اكثر من ذلك ، بان جعل من خلال أمله وتفاؤله تعبير عن معاناته أو من خلال إقدامه رؤية صادقة لما يعاني وفيما يأتي أشكال وصور المعاناة التي اتخذها الشعراء.
ويظهر لنا من خلال قراءتنا للشعر الجاهلي بأنه قد زخر بمقدمات تتدفق بالحياة تدفقا حتى لنكاد نسمع من خلالها نبضات قلوب الشعراء وخفقانها. ونحيبهم وبكاءهم ونراهم يذرفون العبرات ويسكبون الدموع بغزارة وحرارة وحسرة على أيام ودعوها فأصبحت ذكريات دفينة في أعماقهم ولكنها ما تلبث ان تعاود الظهور والخروج من حبستها فتبدأ بتدفق الذكريات كلما مروا بديار محبوباتهم ووقفوا على أطلالهن.
وان هذا البكاء على الأطلال أفرزته لنا طبيعة الحياة التي كان يعيشها المجتمع بعامة والشاعر الجاهلي بخاصة. فهو اذاً مرتبط بظروف وعوامل واسباب مهمة جدا هي :
العوامل البيئية: فان العامل البيئي يحمل الشاعر على تكبد المعاناة والذي أحدثته ((طبيعة الحياة الصحراوية التي من خلالها كان الشاعر وقومه يتحركون وينفعلون من اجل البقاء ومحاولاتهم المستمرة للتغلب على عقباتها والانتصار عليها)). وان هذه الظروف كانت تدفع بالقبيلة إلى الرحيل ومن ضمن الراحلين حبيبة الشاعر، وهنا تكمن معاناة الشاعر (( حيث تعقل الإبل وتزم الأمتعة ، ويظعن القوم مخلفين وراءهم قلوبا أحزنها الفراق وقصص حب انتهت وامالا تبددت )) . وهذا امرؤ القيس قد عبر عن رحيل الأحباب فهو القائل:
أن الخليطَ نــأوكَ بالأمـــسِ وأستَيقَنتْ بفراقِهمْ نفسي
وغدوا على خُوِص العُيونِ سَواهمٍ مثلِ السَّام خُلِقنَ للمَلْسِ
وذلك نظير عبد الله بن العجلان قد عبر عن حزنه لفراق من يحب بعد ان طلق زوجته فهو القائل :
خليلي زورا قبل شحطِ النوى هنداً ولا تأمنا من دّارِ ذي لطفٍ بعدا
وقولا لها ليس الضلالِ أجـــازنا ولكننا جِزنا لنلقاكم عمـــدا
غداً يكثرُ الباكون منا ومنكــــم وتزداد داري من دياركم بعـدا
وقال عبد الله بن علقمة :
فلا ذَنَبْ لي إذ قلت إذ نحن جيـرةٌ أثيبي بودٍّ قبل إحدى البُوائقِ
أثيبي بودٍّ قبل أن تَشحَط النّــوى ويَنأى خليطٌ بالحبيبِ المُفارقِ
ويحاول الشعراء إظهار تلك المعاناة فترددت لديهم الشكوى من الحرمان وضن الوصال ، وخلف المعياد، ونتيجة لهذا الحرمان يصف الشاعر نفسه بسقم الجسم والهزال والضنى فترى عروة بن حزام قد خفف بالشكوى عن معاناة حقيقية دفينة في نفسه فهو القائل:
فَوا كَبِداً أمستْ رُفاتاً كأنَّمــــــا يُلذِّعُها بالموقدِاتِ طبيــبُ
بنا من جوَى الأحزانِ في الصَّدرِ لوعَةْ تكادُ لها نفسُ الشَّفيقِ تذوبُ
ولكِنَّما أبقى حُشاشَـةُ مقـــــولٍ على ما به عودٌ هناك صليبُ
لذا نرى إن النسيب والوقوف على الأطلال والرحلة ما هي (( الا تعبير من خلال التجربة الفردية عن القضايا الوجدانية والروحية والحيوية للجماعة)) . فان الشاعر قد وجد في الطلل (( منفذا مهيئاً للتعبير عن معاناة الوقوع تحت سطوة الظرف البيئي الشحيح ، وقانون الزمن الصارم وقدرته الخارقة على تغيير الناس والأشياء )). فكان كل شاعر يحمل في رحلته ذكريات الأيام الحلوة التي قضاها مع حبيبته فيعبر عنها من خلال وقفته الطللية. لذلك عد بعضهم ان الوقوف على الأطلال عاطفة لأنها قد جعلت (( من البكاء مصدرا من مصادر الراحة النفسية التي تلوذ بها نفس الشاعر في حالات كثيرة من السأم والوحدة والعزلة واضطراب المواقف )). لذا لا تعدو المقدمة الطللية إلا إن تكون (( ذكريات وضربا من الحنين إلى الماضي والنزوع إليه )). بما يتضمنه من أيام الهناء والسعادة.
وتعد الوقفة الطللية بالنسبة للقصيدة الجاهلية (( بداية المرحلة الشعورية التي تمر من خلالها أحاسيس الشاعر الجاهلي )) . لذا فان (( إطلالة الشاعر على رحاب الماضي هي الأرضية المشتركة لأطر لوحات الافتتاح)). وان ظاهرة وقوف الشعراء على أطلال الديار قد شغلت العديد من الدارسين القدماء والمحدثين وأشاروا لها من زوايا رصد متباينة ، وهم يرون ان سبب الوقوف على الديار هو الحب ، فابن قتيبة (ت: 276هـ) يرى (( ان مقصد القصيدة ، انما ابتدأ فيها بذكر الديار ، والدمن ، والآثار ، فبكى ، وشكا ، وخاطب الربع ، واستوقف الرفيق ، ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنين عنها… فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق ، ليميل نحوه القلوب )) (1) أما قدامة بن جعفر (ت: 337هـ) فقد قال : (( ان يكون النسيب الذي يتم به الغرض هو ما كثرت فيه الأدلة على التهالك في الصبابة وتظاهرت فيه الشواهد على إفراط الوجد واللوعة… وقد يدخل في النسيب الشوق والتذكر لمعاهد الأحبة بالرياح الهابة ،و البروق اللامعة، والحمائم الهاتفة، والخيالات الطائفة، وآثار الديار العافية ))(2) ويرى الامدي (ت: 370هـ ) (( إنما وقفوا على الديار وعرجوا عليها عند الاجتياز ، والاقتراب منها لأنهم تذكروا عند مشارفها أوطارهم فيها فنازعتهم نفوسهم إلى الوقوف عليها ، والتلوم بها)) ( 3 ) . ويؤكد ابن رشيق (ت: 456هـ) رأي من سبقوه من ان ((للشعراء مذاهب في افتتاح القصائد بالنسيب لما فيه من عطف القلوب واستدعاء القبول بحسب ما في الطباع من حب الغزل والميل إلى اللهو والنساء )).
إذاً الوقوف على الأطلال في نظر القدماء لا يكون الا للمرأة المعشوقة التي لم تزل في الحياة لذلك (( تثير احساسات الشاعر ، وتؤجج في ذكرى الشوق واللهو واللعب )) .
اذن لم يكن الشاعر يقف على الديار من اجل الديار بل من اجل المرأة المعشوقة فهي التي حركت لواعج الشاعر ومن اجلها (( بكى شدة الشوق وحرقة الألم)).
وقد أولى النقاد والباحثون المحدثون اهتماما بتعليل ظاهرة الوقفة الطللية. في القصيدة فيقسم القصيدة إلى قسمين قسم يتكلم فيه الشاعر عن نفسه ويصور فيه عواطفه ومشاعره وانفعالاته وهو القسم الذي يضم مقدمة القصيدة والقسم الآخر الذي يتحدث فيه الشاعر عن قبيلته أو يعرض فيه للمدح أو الاعتذار أو الفخر.
لذا غدا النسيب في مقدمة القصيدة تعبيرا يجسم لنا ارتداد الشاعر إلى نفسه وخلوه إليها ، وهو بذلك يعد الجزء الذاتي في القصيدة، الذي يعبر فيه الشاعر عن موقفه من الحياة والكون من حوله .
ويتفق مع هذا الرأي ما قاله أحد الباحثين من ان الشاعر يقف عند الطلل ((للتعبير عن ذاته وشخصيته، لتحقيق وجوده الذي أحس بضياعه، أمام مشكلة الفراغ الكبير الذي شغلت عليه جوانب الحياة)). فإذا كان الطلل يمثل القسم الذاتي في القصيدة إذا هو فرصة متاحة للشاعر الجاهلي يستطيع ان يفرغ فيها لنفسه دون ان يخل بالجوانب الأخرى. ويرى بعضهم ان العناية بالأطلال تعود إلى مقدار التأثير العظيم الذي تؤثره المرأة في نفس الرجل ، الذي لم يكن ليرى جمالا بدونها ولا يراها دون ان يشعر بالجمال، والجمال والحب متلازما .
لذا فسر بعضهم بأنه يمزج بين (( حديث الانتزاع من الأرض وحديث فراق المرأة)). وعلى هذا المبدأ مزج الشاعر بين حالته النفسية والطبيعة، فليس للطبيعة وحدها كيان في نفسه الا بمقدار، ما تثيره في النفس من خلجات ، فهي التذكار الباقي للحب)). لذا وصفوا الأطلال وصف نفسي وجداني فهي تمثل لهم صفحة الم حيث ان ((الأثر النفسي في الأطلال اعمق أثرا من البناء الجميل العامر)). وذلك لأنه ((يعكس الصراع الأبدي في نفس الإنسان- والشاعر بخاصة - بين حب الحياة وغريزة الموت وهنا يصبح ضمانا للحياة، بينما يكون الفراق تهديدا مباشرا للحب ينتهي بروح الشاعر إلى الجدب والإقفار، مثلما يرى في تلك الديار التي كانت تزخر بالحياة)).
حيث ان النسيب في القصيدة يجمع بين عنصرين (( أحدهما يذكر بالفناء وهو الأطلال والآخر يذكر بالحياة وهو الحب)). ومن ذلك ما صرح به المرقش الأكبر القائل:
أمن آل أسماءَ الطلّولَ الدَوَارسَ يُخططُ فيها الطِيرُ قَفرٌ بسابسِ
ذكرتُ بها أسماء لو أن وِليهـا قَريبٌ ولكن حَبَستني الحُوَابسِ
وانشد قيس بن الحدادية:
سقى اللهُ أطلالً بِنَعم تَـرادفت بهُنَ النُوَى حتى حَللنَ المَطَايـــا
فأن كانت الأيامُ يا أمُ مالــكٍ تَسلِيكمُ عَنَي وتُرضِي الاعـــاديا
فلا يأمَننَ بعدي امرؤٌ فجع لذةٍ من العيشِ أو فجعُ الخُطُوبِ العُوافيا
وهذا ما جعل بعضهم يصور الطلل بأنه (( رمز للفناء والموت الذي كان هاجس الإنسان الأول ولا يزال… حيث ان الخرائب بوصفها صورة الطلل الحقيقية، وهي وحدها الكفيلة باستشارة خيال الشاعر وبعث الماضي السعيد)) ( 4 ) .
ومهما اختلفت الآراء في تفسير ظاهرة الطلل فأننا نلتمس من خلالها ملامح مشتركة بينها وهي ان الطلل يمثل المظهر الحزين في تجربة الحب عند الشاعر العربي في العصر الجاهلي اذا ابتدأ الشاعر بالطلل أو الغزل بدافع نفسي، فالحب عاطفة جميلة، يحلم بها كل فرد ولان الحب دفعة نور في ظلام اليأس، وسلاح لا يخيب في مواجهة الشدائد والأزمات، فيلجأ ، إليه الشاعر الجاهلي لأنه يعيش حياة شاقة قاسية كل ما فيها ينذر بالموت والحب يمثل الحياة البهيجة فإذا انتهى إلى اجتماع الشمل فهو الهناء والرغد وإذا انتهى إلى الفراق وبكاء أطلاله فهو الألم والحزن المستعذب .
قال المرقش الأصغر:
لأبنةِ عَجلانَ بالجوِّ رُسُوم لم يَتَعفيَّنَ والعهدُ قَدِيـــــمْ
لأبنة عَجلانَ إذ نحنُ معـاً وأيُّ حالٍ من الدَّهرِ تـــدومْ
أمن ديارٍ تعفَّى رَسمُهــا عينُكَ من رَسمِها بسجُـــومْ
أضحتْ قفاراً وقد كان بهـا من سالفِ الدَّهر أربابُ الهُجُومْ
لذا أصبحت مقدمة لوحة الطلل بكل صورها وألوانها تؤدي وظيفة خلق هذا الجو الشعري، الذي يمنح الشاعر القدرة على القول، لأنه يصبح في حالة معاناة شعرية حادة، تمده بالمشاعر التي تمكنه من التنفيس عن كل ما يحتبس في نفسه من الاحساسات ويدور في ذهنه من الأفكار والحوادث.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في