الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بضعة أعوام ريما: الفصل الثالث عشر/ 3

دلور ميقري

2020 / 6 / 30
الادب والفن


مع حلول الربيع التالي، كانت المزرعة قد أضحت من الازدهار أنّ بعضَ الأعيان في المنطقة أتوا للتعرّف على صاحبها، القادم من الشام. فخوراً، كان صالح يُطلعهم على الآبار والزرائب والكروم والحقول والمراعي، ومن ثم يدعوهم إلى سفرته الكريمة، الحافلة بالمأكولات الغريبة عليهم. ريما من ناحيتها، استقبلت نساء أولئك الأعيان وعقدت مع مرور الأيام صداقة مع عدد منهن. هذا خففَ وطأة العزلة عن ساكني ذلك المكان، النائي بنفسه عن أسباب المدنية. البنات بدَورهن، لم يعدن إلى شيمة التذمر، بالنظر لانهماكهن في المدرسة طوال النهار ورغبتهن بالتفوق على أقرانهن، اللواتي كن بغالبيتهن من النصارى. الأب، كان يسمح في كل مرة لإحدى البنات باصطحاب زميلتها في سيارته إلى المزرعة ويعيدها بعدئذٍ إلى منزلها في البلدة. أحياناً، كان يقابل أم الزميلة، فيدعوها أيضاً لزيارة امرأته. هكذا انفتحت ريما على نوع آخر من نساء المنطقة، كن أكثر تمدناً ورقياً.
طوال أشهر، وجد صالح نفسه مغموراً بأشغال كانت غير مألوفة له من قبل. لكنه أقبل على العمل بهمة ونشاط، أدهشتا حتى مستخدميه. المعاون، ملا عشير، أظهرَ أيضاً كفاءته في مراقبة الأشغال وعدم السماح بتجاوزات مرؤوسيه وأفراد أسرهم ممن أقاموا في الأكواخ على طرف المزرعة. عن طريق امرأة الملا، كانت ريما تقدم النصائح إلى أولئك النساء فيما يخص النظافة والصحة وتدبير المنزل. كانت تزودهن أيضاً بالوصفات الطبية الشعبية، التي تعلمتها والدتها من مربيتها، السيدة شملكان. هذه الجهود كانت تؤتي ثمارها، وذلك بقلة عدد المصابين بالأمراض إن كانوا صغاراً أو كباراً. أما لو تعلق الأمرُ بحالة مرضية حرجة، فإن صالح كان يصطحب الشخصَ المعنيّ إلى بلدة الدرباسية القريبة؛ ثمة أينَ توجد عيادة الطبيب، وكانت الوحيدة في المنطقة. الطبيب، " نافذ بك "، سبقَ وأقام في الحي الكرديّ في أوان نزوحه إلى دمشق هرباً من اضطهاد أتاتورك. لقد سكن آنذاك لفترةٍ في منزل علي آغا زلفو مع شقيقه الأصغر " نور الدين " وعدد من اللاجئين السياسيين، فارتبط بصداقة مع وكيل أعمال الآغا؛ موسي، قريب صالح وصهره.

***
" هل تعلم أنّ ابن حارتك، أكرم جميل باشا، يعيش منذ فترة في الدرباسية بهدف استثمار أرض كبيرة فيها؟ "، قال الطبيب لصالح في أثناء وجود الأخير في العيادة مع أحد مرضى مزرعته. ثم واصل الطبيب القول: " لو شئتَ في مقدورنا زيارة مزرعته معاً، وذلك في أحد أيام الجمعة ". هكذا اتفقا على موعد للزيارة، ملائم لكليهما. كان الطبيبُ لا يكتفي برفض أخذ الأجرة من صديقه، وإنما يزوده أيضاً بالأدوية اللازمة مجاناً. في المقابل، دعاه صالح عدة مرات إلى مزرعته. كانا عندئذٍ يقضيان معاً النهار في الجولات على الكروم والحقول والإسطبلات، حتى إذا حل المساء جلسا في المنظرة للاستماع إلى الأغاني من الراديو أو جهاز الحاكي.
في نهار يوم الجمعة، المحدد لزيارة مزرعة أكرم جميل باشا، قرع أحدهم بابَ منزل صالح. الابنة البكر لريما، هيَ من ذهبت لترى من الطارق. عادت لتخاطب والدتها، وكانت آنئذٍ تنهي زينتها أمام المرآة استعداداً للزيارة المرتقبة: " إنه العم جمّو، أماه ". صالح، استقبلَ على الأثر أصغرَ أبناء الحاج حسن، وكان هذا يخدم في الفوج الكرديّ بجيش الشرق ومقره مدينة الحسكة. الفوج، كان بقيادة الكولونيل " بكري "؛ وهوَ من آل " قوطرش "، المقيمين في غرب الحي. في ذلك الوقت، كان الكولونيل مقترناً من الابنة البكر لنورا هلّو، أخت جمّو بالرضاع. إلى هذا الأخير، اتجه صالح بالقول مبتسماً: " حضرتَ في الوقت المناسب، لأنني على موعد مع أصدقاء تعرفهم أنتَ جيداً ".

***
برغم أنها زيارته الأولى لمزرعة الدرباسية، فإن صالح ببساطة طبعه لم يجد بأساً في أن يأخذ معه كلاً من امرأته وقريبه العسكريّ. المزرعة، كانت تبعد نحو نصف ساعة بالسيارة، وقد أمكن الوصول إليها بسهولة بالنظر لمرافقة الطبيب لهم. على عادة الأعيان، المحافظين على المواعيد، كان أكرم جميل باشا في استقبال ضيوفه في مدخل داره. امرأته الجميلة والوقورة، وكانت شركسية دمشقية، أخذت ريما بالأحضان ومن ثم سارت أمامها إلى حجرة الصالون. فيما أجلسَ صاحبُ الدار ضيوفَهُ في الحديقة على مقاعد مشغولة بالقش، مركونة تحت ظلال الأشجار. خدم الدار، وكانوا من فلاحي المزرعة، صاروا يأتون تباعاً محملين بالفاكهة والحلوى وأدوات الشاي والقهوة ليضعوها فوق طاولةٍ غطيت بسماط أبيض ناصع. كون المضيف على صلة وثيقة بالسياسة، سرعان ما شاركه الطبيبُ والعسكريّ في تداول أخبار الحرب. اتفقت آراؤهم على أن حملة هتلر في أفريقيا لن يكتب لها النجاح، برغم أن قواته أصبحت على أبواب الإسكندرية. صالح من جانبه، زهد بحديث الحرب كعادته، فراح يلقي نظره على حديقة الأزهار وكان يفوح منها رائحةُ سمادٍ طريّ.
" هل تعلم بمَن التقيتُ، هناك في دار صديقك؟ "، بادرت ريما للقول غبَّ انفرادها برجلها في حجرة نومهما. لقد لحظَ اضطرابها، مذ لحظة ركوبها السيارة في طريق العودة؛ وكان يود إذاك سؤالها عما دهاها، لكنه امتنع بسبب وجود قريبهما العسكريّ.
استفهم صالح من امرأته، مضيّقاً عينيه: " بمَن التقيتِ؟ ". صمتت ريما برهة، ثم ما لبثت أن نطقت في عسر: " لقد التقيتُ بحواء "
" حواء؟ "، قاطعها وقد اتسعت عيناه دهشةً وارتياعاً. عند ذلك، أخبرته ريما أن طليقته تخدم في منزل أكرم جميل باشا كمربية لأولاده الصغار. همد على طرف السرير، معلّقاً بالقول: " فضيحة، فضيحة.. يا لها من امرأةٍ ملعونة ذات قلب أسود، حقود! ألا لعنة الله عليها وعلى آل زنكَلي جميعاً! ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا