الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصدر بين دكتاتوريتين*

جعفر المظفر

2020 / 7 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


دور السيد محمد باقر الصدر في إشعال الحرب العراقية الإيرانية (3)
في عراق ما قبل الإحتلال الأمريكي كان قرارعدم التدخل في السياسة من قبل مرجعية النجف جزءاً لا يتجزأ من "صفقة" تاريخية كانت وثائقها غير المكتوبة وتفاهماتها غير المختومة قد تراكمت كحل توفيقي عبر عصور من الإحتدامات التي جرت مع الأنظمة (السنية) المتعاقبة على عصور الدولة الإسلامية (الأموية والعباسية والعثمانية). وما أسميناه إلتزام المرجعية بخط الإمام الحسن هو الرضاء بحل توفيقي تعايشي مع الدولة الأم والتأكيد على عدم تدخل الدين في السياسة وإلبقاء على خط العمل المطلبي مع السلطة.
وأرى أن جميع أنظمة الدولة العراقية الحديثة ومن ضمنها النظام البعثي السابق, قبل أن يبرز دور الخميني وباقر الصدر, كانت قد راهنت على أن بإمكان عامل الزمن وسياقات بناء الدولة وتطور الخطاب الإجتماعي المرافق ان تأخذ جميعها دورا متقدما على صعيد إنحسار تأثير وحجم (الكيان الشيعي الموازي) لإدراك أن شيعة الدولة المدنية سيكونون بالحتم جزءاً لا يتجزأ منها, وشأنهم في ذلك شأن جميع أتباع الأديان والمذاهب الآخرى.
وكان بإمكان مشاهد متعددة مثل إقدام عناصر من الشيعة أنفسهم على الإنخراط أو حتى تصدر القيادات العليا لأحزاب علمانية مثل الشيوعي والبعثي أن تؤكد على أن الشيعة, الذين كانوا (شعبا) لدولة الكيان الموازي في عصر آخر الدول الإسلامية, أي العثمانية, قد بدأوا يغادرون مساحة كيانهم الموازي إلى مساحة الدولة العراقية الحديثة ليشكلوا مع البقية من أبناء الأديان والطوائف الآخرى شعبا واحدا لهذه الدولة, وإنما فعلوا ذلك أيضا خروجا على فتاوى بعض المراجع الشيعية الأساسية القاضية بتحريم العمل في مؤسسات الدولة (الكافرة !).
الحكم الملكي على سبيل المثال كان قد حرص على إدامة الصلة مع المرجعية ممثلة برئيسها الأعلى آية الله العظمى السيد محسن الحكيم, وهناك صورة للملك فيصل الثاني وولي العهد عبدالإله وهما يجلسان مع المرجع على الأرض في حضرة الإمام علي.
كما أن عبدالكريم قاسم ورغم تحالفه في البداية مع الشيوعين في مواجهة ضغط التيار القومي وتشريعه لقانون الأحوال الشخصية إلا أنه حرص على إبقاء صلته الإيجابية مع المرجعية ولم يقترب بأذى من الممارسات الطقوسية وكان عاقلا بما فيه الكفاية لإدراك أن الممارسات الطقوسية المبالغ بها سوف يخف الإلتزام بها مع تقادم الزمن. وقد شاع بين "الشيعة" وأطربتهم القصة التي تقول أن قاسم كان أوصى أن يصلي المرجع الأعلى للشيعة وقتها على جثمانه في حالة وفاته.
لكن من الضروري الإنتباه إلى أن المنزلة الرفيعة التي حصل عليها عبدالكريم قاسم لدى العامة من الشيعة لم تأتٍ من زعم أن والدته كانت شيعية, وإنما لأن الرجل هو الذي قاد عملية تحرير فلاحي الجنوب الشيعي والشمال الكردي من هيمنة نظام الإقطاع.
ورغم ما قيل حول وجود ميول طائفية لدى الرئيس عبدالسلام عارف إلا أنه لم يظهر على صعيد إدارته للدولة ما يؤكد على أن دولته قد خضعت لتلك الميول أو لطبيعة الإعتقادات الشخصية المذهبية. ويبقى أن المسألة يجب أن لا تناقش على أساس معطيات المرحلة الطائفية الحالية لأن العوامل المتحكمة في الصراع حينها لم تكن لها صلة بالدين السياسي أو بالمسألة الطائفية التي كانت تصاعدت بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران وبعد أن أخذت هذه الأخيرة على عاتقها أسلمة وطَيْفنة المنطقة.
والحال إن الثقافة الطائفية الموروثة والمتراكمة عبر مئات السنين تبقى نائمة أو مترسبة في عمق اللاوعي حتى لدى أكثر الناس عداءً لها, إنما المهم هي الممارسة القانونية للمسؤول في الدولة, وتقييم النظام أوالمسؤول على ضوء إنحرافه عن القواعد الملزمة لمنهجية الحكم في الدولة المتحضرة.
وأيضا فإن طائفية النظام تقاس بطائفية مناهجه ولا تقاس ببعض أقوال مسؤوليه أو إنحداراتهم المذهبية الذين قد يحاسبون شخصيا على تلك الآراء مع مراعاة عدم الإعتماد عليها لإصدار الأحكام على الدولة ذاتها.
إن عبدالكريم قاسم لم يكن شيعي المذهب, ولم يظهر عليه سلوك المتدين, لكنه سيظل رغم إنحداره السني أكثر الحكام قربا من الهوى الشيعي العام لخطابه المنحاز للفقراء.
وإن على أفراد مجتمعات الدولة (العلمانية) أن يؤسسوا ردود أفعالهم بحذر حتى لا تأتي وهي تحمل مظاهر طائفية شبيهة بطائفية الفعل الذي أدى إليها. ولنعلم أن أحد أشد العوامل التي تطيل في عمر الطائفية هو الإلتزام غير الواعي بمعادلة الفعل ورد الفعل الطائفي.
وهنا فإن من المهم أن لا يكون رد الفعل على الفعل الطائفي طائفيا.
مع النظام البعثي وعلى خلاف جميع الأنظمة التي سبقته ثمة متغير كبير كان دخل على الساحة السياسية في العراق وإيران بشكل خاص. هذه الساحة لم تعد كما كانت عليه سابقا, فالجسم والخطاب الشيعي المتوارث من قبل مرجعية الحكيم قد بدأ يتصدع بعد الصعود المتلاحق لخط الآيتين, الخميني والصدر, اللذين بدءا بالخروج على الخط التاريخي لمرجعية الحكيم.
هذا المتغير لم يكن له وجود مؤثر على تحديد طبيعة العلاقات الإنسيابية ما بين أنظمة الحكم العراقية التي تعاقبت على حكم العراق الحديث من جهة والكيان الشيعي الموازي من جهة أخرى. ففي منتصف السبعينات صعودا بدأ محمد باقر الصدر يزيد من تمترسه مع الخميني, ويوم وقع الشاه وصدام إتفاقية عام 1975 التي وضعت نهاية مرحلية لفصل من فصول الصراع بين البلدين صار محتما أن تفرض الحكومة العراقية قيودا على التحرك السياسي للخميني ضد نظام الشاه بعد أن كانت هذه الحكومة ذاتها هي التي تستخدم ورقة الخميني في صراعها مع الشاه في تاريخ ما قبل الإتفاقية.
معنى ذلك أن الساحة النجفية في زمن البعثيين قد شهدت للصدر تمردين في تمرد واحد. التمرد الأول وهو الذي خاضه الصدر ضد مرجعية الحكيم ودولته الموازية المسالمة والمتعايشة مع النظام البعثي وقتها والمتبنية لخط النضال المطلبي وكأنما أرادها أن تغير إلتزامها من خط التعايش مع السلطة إلى خط الثورة عليها, أما الثاني فهو ذلك الذي خاضه الصدر ضد الدولة البعثية (الكافرة) لهدف إستبدالها بدولة أخرى إسلامية خالصة.
ونفهم إن دعوته لتغيير النظام البعثي كان يجب أن تمر من خلال الصدام مع خط الحكيم المرجعي, لا لأن الحكيم كان مواليا للنظام البعثي ومحبا له, وإنما لأن تحرك الصدر ضد النظام البعثي كان يبدأ مقدما من خلال الخروج على الخط التاريخي للمرجعية والقاضي بفصل الدين عن السياسة. ولذلك وجد الصدر نفسه, وفق ما يقوله عادل رؤوف, في مواجهة دكتاتوريتين في وقت واحد : دكتاتورية النظام البعثي ودكتاتورية المرجعية الشيعية للسيد محسن الحكيم في البداية وللسيد الخوئي الذي أتى من بعده.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يتبع (4)
*عنوان كتاب لمؤلفه عادل رؤوف وهو من كوادر حزب الدعوة وأحد أبرز مدّوِنيه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة القميص بين المغرب والجزائر


.. شمال غزة إلى واجهة الحرب مجددا مع بدء عمليات إخلاء جديدة




.. غضب في تل أبيب من تسريب واشنطن بأن إسرائيل تقف وراء ضربة أصف


.. نائب الأمين العام للجهاد الإسلامي: بعد 200 يوم إسرائيل فشلت




.. قوات الاحتلال تتعمد منع مرابطين من دخول الأقصى