الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السؤال الحجاجي في المقابسات

كمال التاغوتي

2020 / 7 / 4
الادب والفن


تصدير: قيل لأبي بكر الصيمري: لِمَ لمْ يكن لكل مسألة من العلم جوابٌ واحد؟ فقال: من المسائل ما هو كذب، ومن المسائل مسائل لها توجهات وحواشٍ، فيختلف الجواب من المُجِيبين بحسب نظرهم من تلك الجهات والحواشي، أو بحسب العبارات التي تَجْزُل مرة وتضعُـف أخرى (المقابسات ص.233)

يميز أرسطو بين ضربين من الأسئلة: الضرب الأول منها يمكن حله بالتوصل إلى إجابات قطعية نهائية، ومثاله على ذلك القياس المنطقي ذو المقدمات اليقينية؛ والثاني ضرب من الأسئلة لا تطرح إلا لتنفتح على أسئلة أخرى، وتظل الإجابات عنها ترجيحية ظنية، ومثاله على ذلك الخطابة. هذا التمييز يفقد صلاحيته في النظريات الحجاجية الحديثة، فكل جواب لا يمكن اعتباره نهائيا حتى تلك الأجوبة الناجمة عن العلوم الدقيقة؛ لأنها إنما تضيء جهة من السؤال وتظل الجهات الأخرى في حاجة إلى بحث متجدد يتفجر معه دفق الأسئلة ما دام الذهن البشري في اشتغال وانشغال بالعالم. في هذا السياق تتنزل أطروحة ميشال ماير وهو يعيد النظر في جوهر اللغة الطبيعية، فيؤكد أن الدافع الأساسي للكائن البشري ليتكلم إنما هو السؤال في انتظار جواب؛ فتاريخ الفكر البشري هو هذا الجدل الأبدي بين السؤال والجواب. وعلى هذا النحو ينهض السؤال وجِدَّته وتوهجه علامة على حيوية الفكر ونشاطه. وحركة الفكر في نظر ماير تقوم على اتجاهين متضادين: ففي مراحل يعمُّها الاستقرار النفسي والاجتماعي وتكون فيها الهوية ثابتة واضحة المعالم ينحو الفكر في اتجاه كبح التّسآل refoulement du questionnement لتهيمن الإجابة القطعية réponse apocritique نتيجة الاطمئنان إلى يقين لا يراوده شك. أما في مراحل الاضطراب، حين يشرع التاريخ في التسارع، تضعف الهوية وتفقد الأجوبة المألوفة صفتها هذه ليتجلى فيها البعد الإشكالي مما يدفع الفكر إلى كبحها والعودة من جديد إلى السؤال، وتطفو على السطح أسئلة بعضها جديد وبعضها الآخر قديم تعجز الحلول الدائرة في فلكها عن لجمها. في مثل هذه المراحل – أي عند تسارع التاريخ – ينتبه الفكر إلى الاختلافات الآخذة في التوسع أفقيا والتوغل عموديا، لذلك فإن الأجوبة جميعها تنهار بوصفها حلولا. يقول ماير معبرا عن أهم خصائص هذه الظاهرة: "ثمةَ نُظُم للغيرية معروفة أرست دعائمَها المجتمعاتُ كافة لمواجهة هذه المشكلات. وينتج عن هذا ثلاثة أصناف من الأجوبة: أما على المستوى القيمي éthos فإن الذات تصبح مشكلا حقيقيا لذاتها؛ وأما على المستوى العقلي logos فإن العالم هو المُخْتَرَق بالاختلافات؛ وأما على المستوى العاطفي pathos فإن الآخر هو المشكل". وعلى هذا النحو تفقد النفس يقينها وتسترجع دهشتها أمام العالم من خلال استعادتها للسؤال وعدم الاستكانة إلى أجوبة جاهزة، بل إن الأسئلة المطروحة تخفي في طياتها أسئلة أخرى تتوالد باستمرار.
لعل تسارع حركة التاريخ واتساع رقعة الاختلافات وتراجع الشعور بالهوية الثابتة بعض إحداثيات القرن الرابع للهجرة. وأبو حيان التوحيدي يدرك بحدسه وبصيرته عبء تلك المرحلة التاريخية على المستويين السياسي والمعرفي، إنها مرحلة الاكتناز والتكثيف من جهة والتبعثر والسيولة من جهة ثانية، وهي مفارقة يجابهها التوحيدي في حذر شديد: كيف يتسنى له تجميع معارف شتى في نظام واحد؟ هل أن الخطاب العربي بعد الإسلام يفتقر إلى موجة تقطيع جديدة أم هل يكتفي المرء بالتصنيف المتوارث، أعني ثنائية العقل والنقل ذائعة الصيت؟ وهل يصمد هذا المعيار أمام تشابك العلوم النقلية بالعلوم العقلية بل وتبادل المواقع بينهما؟ إن مرحلة التأسيس (ما اصطلح عليه بمرحلة التدوين) يشرع أفقها في الانكشاف وتأخذ الحقول المعرفية في التنافذ والتبلور ضمن لحظة يتسارع فيها التاريخ ويقضي على التشكيلة الاجتماعية بالتخلخل والتصدع لتفصح عن أزمتها البنيوية العميقة؛ فيطفو على السطح بوجهين: الأول سياسي يتمثل في تمزق دولة الخلافة إيديولوجيا وجغرافيا فيكون العنف سبيل الفاعلين الأساسي، والثاني ثقافي يتمثل في اكتمال المرجعيات الفكرية وتنوع المدونات فيكون الجدل سبيل الفاعلين الأساسي؛ وبين العنف الدموي والجدل النظري تفقد الهوية قوتها وطاقتها على الجذب والتجميع، وتتعمق الاختلافات وقد ظلت طوال مرحلة الاستقرار والثبات كامنة. هذه الاختلافات من شأنها أن تعيد إلى الأذهان قضايا يحسب المرء أنها قد حسمت، وتثير من جديد أزمة "عقل" يعمل" على لجم المشكلات المعرفية والمعضلات التاريخية المتراكمة والمنفلتة. يبدو أن أبا حيان بتنقله بين السياسي والمعرفي من جهة وحرصه على طرق الأبواب كلها، أبواب المعرفة، من جهة أخرى يستجيب لهذا المطلب التاريخي، فهو – مثل معاصريه من الشعراء والأدباء والفلاسفة والمتكلمين ...- يشعر بأن الثبات وهمٌ ووحدة "الأمة" شعار فارغ، لذلك يراجع جدول المفاهيم وأجهزتها الاصطلاحية ليعيد النظر في ظواهر ثقافية واجتماعية وسياسية وفنية يختلف تفسيرها باختلاف زوايا النظر، فإذا بالظاهرة الواحدة تتنازعها أجوبة كل منها يزعم صاحبها أنها الإجابة النهائية وحقيقة الشيء الجوهرية. من أجل تدبير هذا التنوع والاختلاف ينتهج أبو حيان التوحيدي في كتابه المقابسات فن السؤال سبيلا، ويقاسم بذلك المتلقي موقع المتعلم ويفسح للآخر المختلف المجال لعرض تصوره بعيدا عن الأهواء. إن أهمية "المقابسات" الفكرية والأدبية ليست في تلك الإجابات المبسوطة بين يدي القارئ، ولا أكاد أعتقد أن التوحيدي إنما يريد حشد ما قيل ويقال حول النفس أو علم النجوم أو العشق أو غيرها من معارف العصر، فهو – في رأيي – لا يأبه كثيرا بالأجوبة الجارية على ألسنة أرباب الحكمة وشيوخها؛ إن انشغال الكاتب ينصب أساسا على استمرار السؤال بوصفه أنجع الوسائل لإنتاج المعنى والسيطرة على ظواهر العالم، بل إن التوحيدي يتجلى – مهما تختلف الضمائر في نصه – كائنا سؤولا لا يكف عن البحث والتنقيب؛ وما يجنيه قارئ كتاب المقابسات من أجوبة يطول بعضها ويقصر بعضها ويُبْتر بعضها الآخر، لا يرقى إلى أهمية آلية استدعاء تلكم الأجوبة؛ إنما غنمه في قائمة الأسئلة، فهي تدعوه إلى الإقامة فيها على الدوام، معلنة بذلك أفول عصر السكون إلى الجواب بما هو الهدف من تصريف شؤون الكلام مشافهة وكتابة. يشغف التوحيدي في مقابساته – كما في غيرها – بفن السؤال، فيورده على وجوه وألوان يتعذر معها قصر السؤال على صيغة الاستفهام وحدها؛ فليس كل استفهام سؤالا إذ قد يخرج عن غرض الاستخبار (طلب معلومة) يعتقد خلاله المتكلم أن المخاطَب يملك جواب سؤاله وعلى استعداد للنقل المعرفي، ليعبر عن معانٍ أخرى – قد تنطوي على طلب – أبعد ما يكون عن طلب الفهم؛ بل إن الاستفهام في هذا اللون من الخطاب جواب قطعي في حلة مغايرة يُفرض على المخاطب فرضا. إنه الاستفهام البلاغي الأثير في النقد العربي القديم، والتصور الإعجازي في المبحث البياني القرآني. مقابل ذلك قد يتسلل السؤال بما هو إرادة معرفة في ثنايا الجملة الخبرية حين يعلن المتكلم نقصه متخذا بذلك موقع المتعلم الساعي إلى تجاوز جهله بأمر ما إما كليا أو جزئيا. وفي المقابسات يعرض المتكلم السؤال سالكا الطريقين، أعني أنه يستخدم الإنشاء استفهاما والأمثلة على ذلك كثيرة؛ يقول: " ما السبب في أن السر لا ينكتم البتة؟" ص.145 ويقول في موضع آخر: " سئل أبو سليمان عن الكهانة وما يلحق بها من أمور الغيب، وعن التنجيم وما يقدر به على أحكام المستقبل، وعن النبوة التي هي في محلها الأعلى ومكانها الأشراف" 226؛ كما يقول:" قلت لأبي سليمان: أحب أن أسمع كلاماً في مراتب الإضافة التي هي مستولية في جمل حالاتها مثل قولي: هذا، وهذا لي، وهذا مني..." ص.240 إن الأمثلة المذكورة تقوم برهانا على أن للسؤال مسالكَ متعددةً بعضها جلي – لاسيما الإنشاء الطلبي المتمثل في الاستفهام في غرضه الأصلي – وبعضها خفي يعرضه المتكلم فلا يصرح وإنما يكني عنه بقول يجعل الخطاب محاورة بين طرفين وليس مجرد تلقين من علٍ. تتواتر في هذا السياق عبارات دالة على طلب المعرفة وإن لم تكن استفهاما من قبيل: حدِّثنا وأَفِدنا وتَصدَّقْ علينا وزِدنا شرحا وأحِبُّ أن أسمع وأحببت ... وأَحرصُ على معرفة... كما يستخدم المتكلم التحضيض بلو وهلاّ وإنْ لتحفيز المخاطب على عرض ما يعرف. قد تخلو المقابسة من الطلب ولا يتصدّرها سؤال فيغيّب المتلقي، ويسلم الكاتب زمام الكلام إلى المخاطَب مباشرة ليخوض في مسألة ما دون أن يطلب منه صراحة ذلك ودون أن يبرز أمامه معارض صاحب رأي مغاير. يقول التوحيدي: " سمعت أبا سليمان المنطقي يقول: بالاعتبار تظهر الأسرار، وبقديم الاختبار يصح الاختيار..." ص.119 ويقول في موضع آخر: " سمعت ابن مقداد يقول: لا بد في وضع الناموس الإلهي الذي يتوجه به إفاضة الخير، وترتيب السياسة، وما يورث سكون البال، ويحسم مواد الشر، ويوطد دعائم السنن..." ص.142 إن غياب السؤال رسما لا يعني البتة غيابه ذهنا، وما هجوم التوحيدي على الجواب إلا دليل قاطع على أن القضية المطروحة للمعالجة لا تنتظر من يسأل في شأنها بما أنها مشهورة من حيث هي سؤال لم تتمكن الأجوبة المتراكمة من حسمه، فيظل مطروحا ضمنيا لا يكف عن إيعاز الأذهان لقدح زناد الفكر لإضاءة ركن من أركانه المعتمة. حينئذ ليس الجواب سوى مسكّن لحرقة السؤال إلى حين. يبدو أبو حيان التوحيدي في مقابساته على يقين من أن الأجوبة المكدسة في بطون الكتب أو الجارية على الألسنة لا يمكن اعتبارها نهائية، فلا بد إذن من تدريب المتلقي على التسآل ليكون ديدنه وضع الإجابات المرصوصة في الذهن موضع شك ويحرر العقل من الأحكام المسبقة. إن السؤال – مهما تكن صياغته – هو انفتاح دائم على كون لا يكف عن الحركة، ولكنه أيضا اعتراف بمنزلة الآخر المغاير والثقة في قدراته؛ لذلك يجوز القول إن اعتناق السؤال والاعتصام بحبله توطيد للنزاهة المعرفية وتكريس للتعدد والاختلاف. لعل هذه القناعة هي حافز التوحيدي ليجتهد في تنويع الأسئلة وعدم ركونه إلى نمط واحد منها؛ فالدراسة التصنيفية typologie للمقابسات تبين أن الكاتب – وهو يتحول بأقوال الشيوخ من طور المشافهة إلى طور الكتابة – يوطن نفسه على حسن صياغة السؤال فيوجز ويطنب، ويوضح ويغمض، ويفتح ويغلق... وأغلب الأسئلة المطروحة سواء ما يتصدّر المقابسة أم ما يتخللها مثيرة للجدل، وهذا دليل على أن التوحيدي وهو "ينقل" كلام المشاركين في المقابسات يحرص على الحوارية في نصه المكتوب، إذ أنه لا يكتفي بتثبيت رأي هذا الفيلسوف أو ذاك في المسألة المطروحة، بل غالبا ما ينص على السؤال، حتى أن بعض تلك الأسئلة يوردها مصحوبة بما يبرر طرحها فيعمق على هذا النحو النظر في الظاهرة المعالجة لأنه يتحول بالسؤال من الاستخبار إلى صناعة الإشكال. بناء على ما تقدم يمكن الوقوف عند بضعة أمثلة توضح نهج التوحيدي في طرح السؤال. وأكتفي بثلاثة أصناف متواترة في كتاب المقابسات لضيق المجال من جهة ولأن الغاية من البحث إنما التنبيه إلى دور السؤال في بناء التفكير العقلي. الصنف الأول أسئلة التغريض questions thématisantes ، وهي أسئلة أولويتها في طرح المشكل لا انتظار جواب المخاطب. يقول في المقابسة 98 ما نصه: " هل يجوز أن يكون إثبات الناس للمعاد والمنقلب اصطلاحاً منهم ومن أكابرهم وعقلائهم في بدء الناس وسالف الزمان، ثم ألف الناس ذلك وهتفوا بنشره ولهجوا بذكره، مع تأكيد الشرائع وتأييد الكتب الناطقة به؟ 343 إن الاستفهام – كما يبدو – مغلق يطلب التصديق، لكنه أبعد ما يكون عن البساطة، لأن الإجابة عنه محفوفة بالكثير من الإشكاليات بعضها لاهوتي وبعضها الآخر عقائدي ومنها أيضا الاجتماعي والثقافي. فالسؤال المطروح يتناول ظاهرة دينية لها صلة مباشرة بالتوحيد الإسلامي، بما أن الإيمان بالبعث والحساب بعد الموت ركن من أركان العقيدة. لذلك فإن جواب المخاطب يحتاج إلى تعليل وحجة، وعلى الرغم من ذلك يظل السؤال عالقا والإشكال يحوّم حول الأذهان. تعود أهمية الاستفهام إذن إلى إثارة المشكل والحث على النظر فيه نظرة العالِم النزيه بمنأى عن الأهواء. والصنف الثاني الأسئلة المشحونة questions chargées ، وهي صنف من السؤال تتضمن حكما مسبقا حول المسألة المطروحة، يقول التوحيدي في المقابسة 63 طارحا سؤاله على شيخه أبي سليمان:" لِمَ لَمْ يَصْفُ التوحيد في الشريعة من شوائب الظنون وأمثلة الألفاظ، كما صفا ذلك في الفلسفة؟ وقد سمعناك تقول غير مرة: إن الشريعة إذا كانت حقاً لا تكون كذلك إلا بقوة الآلهية وبعائد النمط الذي قد ورد وانتشر وصار عقد الدهماء ونحلة الجمهور، وحتى صار في غمار هؤلاء من يشبه التشبيه الفاحش، ويشير إليه الإشارة الخفية؟ 257 فهذا الاستفهام يحتوي على موقف من الخطاب الديني عبر مقارنته بالخطاب الفلسفي، فإذا كان الاصطلاح في الفلسفة واضح المفهوم قطعي الدلالة، فإنه في الدين يختلف ويغمض نتيجة هيمنة البلاغة بكناياتها واستعاراتها وإيقاعها. فالمخاطب يشعر بأن سائله "يفرض" عليه رأيا – قد يكون خاصا وقد يكون عاما – ويوجه جوابه المنتظر بما أنه لا يفسح له المجال للتساؤل حول صحة المقارنة بين الخطابين ونتائجها. إن السؤال المشحون ينطوي دائما على أسئلة ضمنية قد لا ينتبه إليها السامع. وصنف ثالث قريب من الصنف السابق أعني الأسئلة المقطوعة قطعَ تعليل؛ وهي ضرب يقتضي من المخاطب التوضيح والتفسير لا الحجة والتدليل. يقول الكاتب في المقابسة 18: "سألت أبا زكريا الصيمري عن الإنسان يقول: حدثتني نفسي بكذا وكذا، وحدثت نفسي بكذا وكذا، هذا، فإني أجد الإنسان ونفسه كجارين متلاصقين يتلاقيان فيتحدثان؛ ويجتمعان فيتحاضران، وهذا يدل على بينونة بين الإنسان ونفسه؟ 161 فالمخاطب أمام هذا السؤال غير مطالب بإقامة الدليل على صحة ما استنتجه المتكلم من خلال ملاحظاته، إنما مدار الأمر شرح ظاهرة الانفصال بين نفس الإنسان وبين وعيه بهذه النفس. يتكرر هذا الصنف في المقابسة الثانية حين يستخدم التوحيدي استفهاما خفي المصدر منسوبا إلى جمهور ما فيقول: "قيل: لِمَ خلاَ علم النجوم من الفائدة والثمرة؟ وليس علم من العلوم كذلك؟ فإنّ الطبّ ليس على هذا بل الناظر فيه والشادي منه والكامل من أهله يقصد بالطب استدامة الصحة مادامت موجودة وصرف العلة إذا كانت العلة عارضة؛ وكذلك النحو الذي قصد به الماهر فتق المعاني ... وكذلك الفقه ... وكذلك الشعر ... وكالصناعات كلها كالهندسة في شرفها والهيئة في علو رتبتها ... " 120-122 إن المتكلم غير المحدد في المقابسة لا يقصر جهده على طرح السؤال بصياغة الاستفهام، وإنما يسترسل في تعديد فوائد العلوم والصناعات الأخرى علما علما وصناعةً صناعة كي يبرهن على خلو التنجيم من الفائدة ومن ثمة خروجه من أبواب العلم. وهو بذلك يحاصر الرأي المضاد ويعزله بعزل التنجيم ذاته. إن الأصناف المبسوطة لا تحيط بضروب السؤال كلها، ولكنها – في رأيي – تبين جوانب من المحاورات المنقولة في المقابسات لعل أهمها يتمثل في موقع المتكلم / السائل، فهو متغير: تارة يكون في موقع المتعلم المتشكك، وتارة يكون في موقع الباحث المحقق enquêteur وتارة أخرى في موقع الخصم وطورا في موقع الداعم فترِد أسئلته مسايرة لجواب المخاطب وحثا على المواصلة. هذه المواقع وغيرها يحددها التّسآل questionnement بما أنه يوزع الأدوار بين المتحاورين ومنه تنجم المشكلات الفكرية، كما أنه يرسم الحد بين الخطاب الانفعالي وبين الخطاب المتعقّل لاسيما إذا كانت المسائل المطروحة حرجة ضمن تشكيلتها الاجتماعية. يلوذ التوحيدي بالسؤال ليوسع للعقل المكان ويمكّنه من تناول ظواهر تختلف المذاهب والنِّحل في شأنها؛ فبه – أقصد السؤال – يحُـد من غلواء التعصب وشططه، وعبره ينفذ المتكلم إلى ظواهر يحجّر عليه المساس بها ويحكم عليها بالصمت؛ فهو على خلاف "الفكر اليومي" لا يطمئن إلى ركام الأجوبة ولا يبحث عن أمثلة قطعية نهائية مهما تكن المسألة المطروحة، لأن التفكير العقلي مسار تاريخي لا معطى جاهز، وتاريخه إنما هو تاريخ أسئلته الظاهر منها والضمني. يقول التوحيدي في المقابسة 18 معلقا:" وهذه معان اختلست من مذاكرات هؤلاء المشايخ فلم يمكن أن تورد تامة مستقصاة، لأن الكتب التي توضح هذه الحقائق موجودة، ومن يشرح مشكلها ويفتح مستغلقها حاضر، فليكن التعويل في بلوغ غايات هذه الواضع على العلماء والكتب والقرائح" 162. فإذا كانت الأجوبة والشروح متوفرة في الكتب، لماذا لم يكتفِ التوحيدي بثبت مسرد للمراجع؟ إن هذه المفارقة ليس لها من حل إلا احتفاء الكاتب وانشغاله بالسؤال بوصفه آلية بيداغوجية وتعليمية من جهة وسبيل العقل نحو مراجعة ثوابته ونواميسه والوسيلة الأمثل لإدارة الصراع الفكري واقتصاد الاختلاف وتنظيمه، من جهة أخرى. هكذا يتضح أن العقل ونشاطه لا يظهران في الجواب وحده، بل قد يكون التفكير العقلي وهو يسائل أنجع منه وهو يجيب، فالحكمة حينئذ ليست في تلك القواعد والمعادلات المسكوكة ليقال إنها صالحة لكل زمان ومكان، وإنما الحكمة الحقة في عتق السؤال وإطلاق سراحه؛ والوعي بأن الأجوبة ذاتها إنما هي أسئلة في جمل تقريرية. وبذلك يمنح الموروث العربي الإسلامي الإنسانيةَ نهجا عقليا ينتشلها من العنف ومن الارتداد إلى وهاد الأشباح المسيَّـرة بذهنية سحرية تملأ مساحات الجهل بالطلاسم والاستعارات والخوارق. فبالسؤال وفنونه تصبح تلك المساحات قابلة للقيس ومن ثمة يتمكن العقل البشري من التحكم فيها وترويض المتوحش من الظواهر الطبيعية والإنسانية.
المصدر:
-التوحيدي، أبو حيان: المقابسات، شرح وتحقيق حسن السندوبي، دار سعاد الصباح 1992
المراجع:
*Almuth Grisillon, Interrogation et interlocution, Documentation et recherche en linguistique allemande contemporaine, n°25 1981
*MICHEL MEYER, La problématologie, Que sais-je ? 3° mille
* MICHEL MEYER, Argumentation in the light of a theory of questioning, Philosophy and rhetoric spring 1982








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج المغربي جواد غالب يحارب التطرف في فيلمه- أمل - • فران


.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال




.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر