الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأزمة الأخلاقية للرأسمالية في عصرنا

رضي السماك

2020 / 7 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


بدايةً يُجدر بأن نشير إلى أن الأخلاق لا تنفصل عن الأعراف والقيم الدينية والثقافية المميزة من مجتمع إلى آخر ؛ أو من اُمة وشعب إلى اُمة وشعب آخرين ، وهي تتطور وتتبدل من مرحلة تاريخية إلى اخرى تبعاً للتحولات التي يمر بها المجتمع المعني . ومثلما هي تختلف من مجتمع أو شعب إلى مجتمع أو شعب آخرين ، فإنها - الأخلاق - تتباين طبقياً داخل المجتمع الواحد رغم السمات العامة الخُلقية المشتركة بين طبقاته ؛ وبهذا ففي الأخلاق تندرج أيضاً التقويمات الخُلقية لمظاهر الحياة الإجتماعية ، التي يُنظر إليها على أنها تعبير عن مصالح الناس ؛ ومن ذلك يتحدد تقييمهم للعلاقات الانتاجية على أنها عادلة أو ظالمة . ويمكن القول بأن الأخلاق كتعبير روحي إنساني ناظم لقواعد السلوك البشري المتعارف عليها وحسيب عليه في الوقت ذاته بما يُعرف بالضمير قد برز منذ فجر التاريخ ؛ إذ كانت الأخلاق تلعب دور المنظم للعلاقات الإجتماعية . فالفرد إذ يهتدي بالمُثل الأخلاقية إنما يّسهم في النشاط الحيوي للمجتمع سواء على مستوى الطبقة أم على مستوى المجتمع . وهكذا يتبين لنا إن الأخلاق كشكل من أشكال الوعي الاجتماعي ، تنبع من العلاقات الاجتماعية وتتحدد في نهاية المطاف بالوجود الإجتماعي ، أو بتعبير آخر بظروف حياة الناس المادية؛ مع أنها - الأخلاق - تتمتع باستقلالية نسبية حتى في إطار العلاقات الاقتصادية القائمة . وفي الأخلاق ينعكس أيضاً الفهم المتكامل لمغزى الحياة ولمكانة الإنسان ودوره في المجتمع ( إنظر : المعجم الفلسفي الوجيز ، ترجمة توفيق سلوم ، موسكو ، 1986 ) .
ومع أن الأخلاق تتداخل مع المبادئ والقيم الدينية والروحية وتتغذى منها ، ومثلها العادات والتقاليد السائدة في أي مجتمع ؛ إلا أنه بإنقسام المجتمعات البشرية إلى طبقات أضحت طبقية الطابع بدرجة أو اخرى ؛ فلا وجود لأخلاق خالصة فوق الطبقات ، وهكذا كان الحال في المجتمعات العبودية ، والإقطاعية ، والرأسمالية والإشتراكية ، وهذه الأخيرة لم يُقيّض لها أن تُعمّر لأسباب ذاتية وموضوعية ليس هنا موضع الخوض فيها ، رغم أنها لو قُدّر لها ذلك - دون حدوث تلك العوامل التي أدت إلى انهيار أنظمتها القائمة حينذاك حتى أواخر القرن المنصرم - مرشحة لأن تتحقق فيها أعلى درجة إنسانية من الأخلاق حيث انسجام وتطابق وحدة المصالح الشخصية مع المصالح العامة .
على أن طبع الأخلاق بسماتها الطبقية لا ينفي توافق البشرية على مجموعة من القيم الإنسانية المشتركة على اختلاف الأنظمة السياسية والاجتماعية السائدة في عصرنا ، ولولا هذه القيم الإنسانية التقدمية التي هي بدورها خلاصة وعصارة نضالات البشرية عبر قرون مديدة ضد قيم الشر الطبقية لما توافق المجتمع الدولي الحديث ، وبخاصة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ، على تشريعات ومعاهدات ناظمة لسلوك الدولوللسلوك الإنساني على السواء لحفظ السلم الاجتماعي والدولي ، كما تجلى ذلك على سبيل المثال خصوصاً في وثيقة إعلان حقوق الإنسان 1948 وما أعقبها من تشريعات مماثلة وصولاً إلى المحكمة الجنائية الدولية في العقد الأخير من القرن الماضي .
وفي عصرنا الراهن فإن الرأسمالية أثرت تأثيراً هائلاً مدمراً في التنصل حتى من القيم الأخلاقية الإنسانية المشتركة أو تهميشها ، وأخذت تتجرد منها بشتى الذرائع بعدما كانت أخلاقها أكثر تقدماً غداة انتصارها التاريخي على الإقطاعية . وكان أول امتحان لها في هذا الصدد في مسلكياتها الأنانية اللاإنسانية تجاه الطبقة العاملة التي عانت طويلاً من استغلالها الوحشي كما سنأتي على ذكر ذلك لاحقاً .
ويمكن القول بأن ذروة هذا التجرد الأخلاقي برز منذ البدايات الأولى لتفشي وباء كورونا " كوفيد / 19 " مطلع العام الجاري ؛ و مازال يفجر مع اشتداده وتداعياته معارك متعددة حامية الوطيس في المجالين الدولي الخارجي والداخلي : وذلك على أصعدة متعددة متشابكة ، طبية وعلمية واقتصادية واجتماعية وايديولوجية ، وفي القلب منها " الصعيد السياسي الذي تتمحور حوله مختلف الأصعدة .
والحال لم تتعرَ أخلاق الرأسمالية العالمية ، وبخاصة الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية ؛ كما تعرت خلال هذه المحنة المريرة الوبائية التي فتئ يمر بها العالم ، كما تجلى الأمر في تجردها من الضمير الإنساني في القيام بأدنى واجباتها لحماية شعوبها كأنظمة سياسية من شر الوباء الذي وصفتها منظمة الصحة العالمية " عدو البشرية " ، ولم يبرز بشكل مريع غياب تكافؤ العدالة الاجتماعية والفرص بين القادرين بأموالهم على التمتع بالضمان الصحي والطبي فحسب ؛ بل وعدم تورعها عن اللهث في استغلال أجواء الأزمة الصحية العالمية داخلياً وخارجياً الناجمة لمراكمة الأرباح من خلال المتاجرة في البلاء العالمي الطارئ التي تمر به البشرية جمعاء من خلال اللهث المحموم للحصول على قصب السبق في حق ملكية اختراع لهذا اللقاح وسائر الأدوية العلاجية المستحدثة المكملة ذات العلاقة بالوقاية والاستشفاء من الفيروس ؛ ناهيك عن محاولة الترويج و المتاجرة في لقاحات ناجعة ضد فيروسات سابقة التي لم يثبت علمياً جدواها في صد فيروس " كوفيد- 19 " ، وكذلك المتاجرة في الأدوية السابقة على ظهور كورونا وأدوات الوقاية الاخرى التي تمت مضاعفة أسعارها في الأسواق العالمية مرات ومرات ؛ ولا سيما الكمامات وعبوات التعقيم المطهرة وخلافها .
والحال لم يكن هذا الامتحان هو الأول من نوعه الذي اُمتحنت فيه أخلاق الرأسمالية منذ بروزها كطبقة رأسمالية استغلالية غداة تفجر الثورة العلمية الصناعية الأولى ، وعلى الأخص إثر تحولها بعدئذ إلى مرحلة الامبريالية وصولاً إلى طور الرأسمالية المتوحشة الراهن ، فقد اُمتحنت أخلاقها بدايات صعودها ، كما تجلى في مظاهر استغلال الطبقة العاملة البشع من خلال منحها أجور زهيدة وبلا إجازات نظير ساعات عمل طويلة كانت تصل إلى أكثر من ضعف ساعات العمل الحالية المتعارف في تشريعات العمل الدولى درجة افتقارها إلى الحد الأدني من ساعات النوم الكافية وعدم التردد عن رميها على رصيف الفاقة تسريحاً من العمل . كما اُمتحنت أيضاً من خلال ما يمكننا أن نسميه مجازاً بالقتل غير المباشر لأفراد الطبقة العاملة المستضعفة المستغَلة : جراء اللامبالاة بأهمية توفير بيئة العمل الصحية وذات السلامة المهنية فكم ذهب من العمال قتلى ومرضى ومعوقين بتشوهات خلقية لسبب أنعدام مثل تلك البيئة في منشآت وشركات أرباب العمل ؛ ثمةجاء أخطر أشكال الاستغلال الذي تذهب ضحيته ليس الطبقة العاملة وسائر الكادحين فحسب ، بل شعبها وشعوب بأكملها ؛ والمتمثل في شن الحروب الاستعمارية والامبريالية فيما بينها على تقاسم مناطق النفوذ أو الاستئثار بها بغية نهب ثروات شعوب البلدان التي تستعمرها بالقوة اغتصاباً ، بدءاً من الحرب العالمية الأولى ؛ ومروراً بالحرب العالمية الثانية ، وليس انتهاءً بعدئذ بحروب التدخل الامبريالية التي ما برحت تشنها ضد الدول التي تستهدفها والتي لا تسير مطواعة في ركابها حتى وقتنا الراهن .
على أن الحديث عن استغلال الرأسمالية للطبقة العاملة - منذ صعود الأولى - استغلالاً لا إنسانياً دون منحها الحد الأدنى من حقوقها في الأجور المعقولة معيشياً وبيئة العمل الصحية ، ناهيك عن مراكمتها الأرباح من خلال عملية " فائض القيمة " الأخطر استغلالاً ؛ وغير المعترف بها أو بصحتها حتى الآن في علم الإقتصاد الرأسمالي و تشريعات العمل الدولية يقودنا إلى الحديث إلى مسألة اخرى في غاية الأهمية ألا هي توظيف التطور العلمي أو الثورة العلمية ليس لصالح سعادة وتنمية شعب من الشعوب أو شعوب العالم برمتها ، بل من أجل فقط مصالح أنانية ضيقة لفئة محدودة من الأثرياء بين الغالبية العظمى من أفراد شعبها وشعوب العلم . وهذا بالضبط ما تمظهر لنا جلياً في مسلكيات هذه الفئة الرأسمالية الأنانية التي تمثل أقل من 5% من سكان العالم فيما تستولي على ما لايقل عن 95% من ثروات شعوبها خلال الحروب والجوائح العالمية التي مر بها العالم ومنها جائحة كورونا أو كما يُعرف ب " كوفيد / 19 " .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حلقة جديدة من برنامج السودان الآن


.. أطباق شعبية جزائرية ترتبط بقصص الثورة ومقاومة الاستعمار الفر




.. الخارجية الإيرانية: أي هجوم إسرائيلي جديد سيواجه برد إيراني


.. غارات إسرائيلية تستهدف بلدتي حانين وطير حرفا جنوبي لبنان




.. إسرائيل وإيران لم تنتهيا بعد. فماذا تحمل الجولة التالية؟