الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مكائد قدرية

رولا حسينات
(Rula Hessinat)

2020 / 7 / 6
الادب والفن


أربعون يوماً قضاها وحيداً بين الجدران الرمادية، وأبوه يحلُّ كما يحلُّ الظلام بستاره الدامس...يشعل النار في المرجل لتفوح رائحة الدفء في بيتهم؛ الذي لم يكن سوى غرفة واحدة بمطبخ صغير بنافذة واحدة تطل على زقاق دقيق، فيه يرتفع صوت بعض من الصبيان تارة وصوت الكثير من الحديد الذي تطرقه كثير من الأيدي الصغيرة جيئة وذهاباً...كأنه نوع من العقاب أو طرد للأرواح!
لم يرَ سوى الكثير من الظلال الممتدة فوق الرصيف الداكن، والكثير من الحفر المليئة بالمياه الآسنة، الرؤوس السود والشقر لم ترتفع عيونها للأعلى ولو قليلاً لترى عينين دائريتين سوداويين تسترقان النظر من وراء ستارة سكنية بلون الجدران، لم يكن عليه أن ينظر من النافذة، يكفيه أن يسترق النظر ليكون مذنباً بنظر أبيه المسكين الذي بدا أكبر من ذي قبل..أياماً طويلة لم يحمل معه شيئاً... فقط قليلاً من الماء الذي يعمد لغليه...
وبعد أن يبرد قليلاً يسكب له في كوب معدني يضيف إليه قليلاً من عصير الليمون..
الليمون...الليمون ...كلّ شيء بدا بلون أصفر...
ماؤه...وجهه...المنقوع الذي يوضع فيه لساعات وهو يتأمل ألسنة اللهب التي تتضاحك منسلة من المدخنة...لتولد أخرى ...هل عليه أن يحبّ أبيه أم أن يكرهه؟
بدت أيامه جميعها متشابهة، وذكرى أمه بدت كخيال بعيد انسل من بين أصابعه.
أسابيع طويلة كانت وهو مختمر بالليمون والخل في غرفة رمادية تسكنها الفئران التي أبقت على عيونها الدائرية على حوضه الماثل دون حراك بالقرب من الفرن الصغير المتوهجة ناره...لم يعرف كيف وافق صاحب البيت على إيجار أبيه البيت السكني الموحش بثمن يسير هكذا ببساطة...
البيت مسكون...
الكتابة لغز ولغز محير على الرغم من أنها من المحكي والمعاش من القصص اليومية ومن السير الحياتية الروائية التي ترويها الزوجة عن حكايتها مع زوجها وعن قصص المزايدة وعنما يتناولونه عن الأقرباء وعوائلهم وما سنج حول الجيران وقصص ما بعد متصف الليل وما ترويه من قصص اضطهاد غاضبة عند أي نزاع عائلي على الملأ ومنذ البذرة الأولى يسري داء القصة في الجسد كما تحركه الشفاه وتتآالف معه الحواس فيتحرك به بالقلم ويستقي عباراته من الواقع الذي يجعله المساحة التي يصول بها ويجول والتي تشكل امتدادا متناقضا بين الرغبة والرهبة والالمغيب من الا شياء والمادي وهو مجموع من الأسبابمنها إن المال نتيجة، والثراء نتيجة، والصحة نتيجة، والمرض نتيجة ووزنك هو الآخر نتيجة. نحن نعيش في عالم من الأسباب والنتائج.
وكبرت، مرت السنوات عجوزا تسير مستندة إلى باكورها...أدرك أن أبي لن يتوقف حتى توقفه طلقة أو صاروخ أو شظية من مكان مجهول... أيٌّ كان قاتله فسوف يُقتل... أبي قد انتهى لم يعد جهاد سوى ذكرى مشوهة تأتي وتذهب، تعنُّ على البال باليةً وسرعان ما تمر كمرِّ السحاب. غدت أمي كخيال... مرَّ عامان وأصبحت ابن تسع سنين، لكنها كانت أشبه بسبعين... لرجل قد أنهى كل شيء ولم يبق منه شيء... وهأنا المحزون عليه...
-يعقوب يطرق الباب...
-لا تفتحه...
لكن صوتك الآتي من المطبخ، وأنت تملئين الأوعية الزجاجية بالزيتون والفلفل الأخضر والأحمر والمقدوس وغيرها من أشكال الطعام...جاءني متأخراً من جرف عميق...كان يعقوب مبتسماً، لأول مرة أرى يعقوب مبتسماً، وصفرة أسنانه تضفي على وجهه الأزرق، الشائكة أشجار حاجبيه وقد نبزت أشواكه من غير تهذيب..زرقة الوجوه التي لم أعرفها إلا فيه...
دكانه الكبيرة في أول الطريق المؤدي إلى بيتنا تشعرك بالبرودة والخوف رغم ما كان حولها من خضرة وألوان من الأزهار، لم يكن أبي يحبه رغم أنه كان يأتينا من عنده بالكثير من تموين البيت، أمي لا تريدني أن أذهب إليه لكنه اليوم واقف أمام باب بيتنا.
المسافة بيني وبينه لم تكن كتلك المسافة بيننا في عبوري للطريق، لقد كان يلتهمني بنظرته وكان يبتلع أمي وهي تشدني إليها، وكلانا يلتهمه الزمن...لم أحببه يوماً ولن أفعل، ذلك الإحساس بالقشعريرة يصيبني كلما شممت رائحته النتنة...
يعقوب هذا جاء إلى الحي ولا يعرف عنه أحد ...جاء ومعه مالٌ كثير، وفتح دكاناً كبيراً فيه كل ما طاب للأنفس اشتهاؤه...
عندما سألت أبي عنه...أطرق التفكير طويلاً، وذبلت الإجابة قبل أن تخرج عقيمة...
-لا أدري..لا أحد يعلم والكثير لا يريد أن يعلم...
أزاحني من أمامه وقد ألقمني قطعة الحلوى في فمي، عندما هممت بسؤاله عما يريد... وخطّ خطواته المسرعة متتبعاً صوت أمي الضئيل يأتي من المطبخ وكأنها غارقةٌ في بئر...رصد مكانها بدقة وأنا أذوّب قطعة الحلوى ...
لا أدري لم لم أطلب منه الانتظار؟؟ وبقيت متردداً في حركاتي وسكوني...لو كنت فعلت لما حدث ما حدث...
ربما ما يكتبه الكاتب يبدو قناعا لما يدور بداخله ويعيشه غير أن الحياة المعاصرة قد أوجدت نمطا فكريا سلوكيا أكثر جدة وتوازيا مع المقبول والمرفوض.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن