الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبق حيث الغناء 8

آرام كربيت

2020 / 7 / 10
الادب والفن


رب أخ لم تلده أمك، هكذا كان. وكان نجيب أخًا وصديقًا، خرج إلي من الضوء البعيد وجسر لي الطريق في الأردن، دون معرفة سابقة أو أتفق مسبق، سوى تلفون يتيم من قبل ابنة خاله، جارتنا في الحارة، صديقة أختي. في العلاقات الإنسانية النبيلة هناك قدرًا هائلًا من الخلود والجمال، وفيها قدر هائل من الاحتمالات المفتوحة.
كان نجيب ينظر إلي من موقع الفنان والإنسان، مدى فهمي للموسيقا للغناء بعد أن عرف قرارة نفسي، تفاعلي معهما، شكل لنفسه رؤية عامة عني في هذا المجال، مدى قدرتي على التجاوب مع الحفلة الغنائية التي كان يقدمها على المنصة. وربما كان يهمه رأي بغناءه.
عمليًا، في هذا الوقت، كنت مشتت التفكير، أعود مرات كثيرة إلى تناقضات الحياة، لا أعرف كيف أفرح في هذا الجو الدافئ، برفقة إنسان غريب تعرفت عليه خلال فترة قصيرة جدًا تمتد إلى عدة أيام.
على الطاولة بقيت وحدي، أنظر إلى المنصة، اسمع صوت نجيب وأشرب بهدوء، وأفكر في كل الاحتمالات التي تدور حوله. فأنا لم استيقظ من صدمة الخارج والخلاء الكبير، ومدى علاقتي بالمكان، بالأردن وإلى أين ستفضي بي الحياة ورحلاتها الغامضة
في طريق العودة، كنًا في سيارة واحدة، شوارع عمان فارغة من الناس، لطيفة، الساعة تشير إلى الثانية والنصف بعد منتصف الليل. كنًا نتوقف عند الإشارة الضوئية الحمراء بالرغم من أن المسافات مفتوحة ويمكن رؤية كل شيء تحت ظل الإضاءة الكهربائية. وكنت أرى نساء وحدهن في سيارتهن، يتجهن نحو بيوتهن دون خوف أو قلق في هذا الوقت المتأخر من الليل. قال نجيب لزميله، عازف الكمان:
ـ وليد، انتبه في المرة القادمة، أن لا تعيدها مرة ثانية، لقد خرجت من المقطوعة الموسيقية، هناك خطأ بدر منك مدة أربع ثوان تقريبًا.
ـ صحيح يا نجيب، اخطأت، كلامك دقيق. أبني مريض، وليس في حوزتي المال الكافي لشراء الدواء له، شردت بسببه للحظات.
ـ هذا عمل يا صديقي، عليك التركيز عليه. العيون علينا، وعلينا أن لا نفوت الفرصة على المتربصين بنا. لقمة الخبز مغموسة بالوجع والخوف من المجهول.
ـ سامحني على هذا الغلط، لن يتكرر في المرة القادمة.
وكنت التقي بعدد كبير من الفنانين العرب والأردنيين بحضور نجيب، في لقاءتهم في المطعم أو المقهى أو المحلات العامة، اسمع أوجاعهم، قسوة الحياة في ملامحهم.
فالفن، مثله مثل أي شيء في الحياة، فليس الجميع عمرو دياب أو وائل كفوري أو نانسي عجرم أو أليسا، هناك محظوظون، ليس لأنهم الأفضل أو الأكثر قدرة على العطاء، أنما هي الفرص، فرص الحياة، قدر، أو تسويق، تمنحها الحياة للبعض وتسلبها من البعض، مثل أي بضاعة موجودة في السوق، والسوق في هذا الوقت يعوم من يريد أن يعود، والسوق واصحاب السوق ذمتهم واسعة.
إن الفن، والأدب والموسيقا والسينما أضحوا سلعة مثل أية سلعة سواء كانوا كتابًا او روائيين أو فنانين أو نحاتين أو موسيقيين أو رسامين. هناك من لديه قدرة على تسويق نفسه وعمله وهناك الحظ يجافيه، وهناك ينام على الرفوف مئات السنين إلى أن يأتي أحدهم ويزيح االغبار من على صفحات أعمالهم ويبثه أو ينشره في العالم مثل رواية دون كيخوتة، التي عرفت بعد وفاة سرفانتس بمئتين وثلاثين سنة
كان معنا عازفي أورك، كمان، مغنين، عازفي الجاز، المزمار، كلهم موجوعين، مهمشين، لا يكاد دخلهم يكفي لقمة العيش. ولدى الكثير منهم أسر تحتاج إلى دفع إجار البيت أو دواء للأطفال أو الطعام والأثاث. الحاجات كثيرة والدخل قليل.
وأكثر معاناة رأيتها، وجود اللاجئين العراقيين في الأردن، حوالي سبعمائة ألف إنسان، أثر سلبًا على الفنانين الأردنيين. وإن الفنان العراقي يعمل بأجر أرخص بكثير من الفنان الأدرني، مما يفوت على الفنان المحلي فرصة العمل.
الحياة كانت قاسية جدًا في هذا البلد، والخوف يحاصر الجميع، لأن الدولة فقيرة، مواردها قليلة، ولا يوجد سند للمواطن العادي يحتمي به.
كنت أعيش هموم الناس يوميًا، هموم الطبقة الفنية، لاعتقادي السابق أن الفنان في وضع مادي مرفه، بيد أن الواقع مختلف تمامًا، ومؤلم جدًا، كنت أقول لنفسي:
ـ صحيح ان السجن صعب جدًا، بيد أن الحياة دون عمل أو مورد مالي يحول الإنسان إلى كائن جبان، ضعيف، مسكين.
إن المعاناة هي المحك الأول، وشكل المعاناة لا يغير في الامر شيئًا أو ليس مهمًا، كل واحد حامل على ظهره همه، ينوخ تحته.
كنت أزور المطاعم مع نجيب، البارات، وأكتب في ذاكرتي المشاهد المؤلمة عن الناس، الطبقة السفلى من المجتمع، أحزن على حزنهم وأحزن على حزني. ونجيب كان مفتاح الحياة على الحياة بكل تناقضاتها وجمالها وبشاعتها، قسوتها ولطفها. شاهدت خضوع النساء، اهتراء الفرح في وجوههن بسبب شح المال، بسبب الحرمان. وكل امرأة حكاية حزن وألم، وأطفال صغار جدًا ينتظرن أمهاتهن المحرومة من الفرح والحنان والبيت الدافئ.
في أحد البارات، والناس متجمعة في مكان ضيق، أغلب العيون تتجه نحو الرجال القادمين من الخليج، علّ البعض يغدق بعض المال على الرقاصة أو المغنية ووراءها رجال ينتظرون سقوط المال على صدرها أو كتفها.
كان المكان يعج بالدخال ورائح الدخان، ضباب الأنفاس المتصاعدة، الآهات والسكنات التي تخرج من الأعماق.
وفي داخل كل واحد أو نفس إنسانية رغبات راغبة، شبق الرغبة يتداخل بالحياء، بالقمع. هذه الرغبات المقموعة هي الموجه للسلوك، للأخلاق والقيم، وفي تغييبها يغيب الإنسان. والمال هو المحدد لكل العلاقات، وللمجتمع والدولة.
قلت لنجيب، بعد أن رأيت أحد الرجال أو عدة رجال تافهين، يقذف المال، بعشرات الدينارات رزم من الدينارات والدولارات على امرأة في العلن، وهي تكمل أقدار الألم الغير معلن:
ـ أنظر إلى الفارق بين الشبعان والعطشان، بين البطران والمحتاج، هذه الحياة، اللعبة السمجة. لنخرج من هذا الوكر.
ـ أصبر يا آرام، أصبر. أنت لجوج. أنظر وخزن في ذاكرتك ما ترى وتشاهد. في هذا المكان الملوث يموت الإنسان والحياة. إنه تمرد على الأخلاق السائدة وتعريتها. هذه هي الأخلاق الحقيقية، الفقر يجلب الذل والذل يفسد الإنسان ويكسره.
إنها البشاعة بكل ثقلها. السجن أرحم من هذه المشاهد. أملأ في ذاكرتك أوجاع الناس والخوف من المستقبل.
كان نجيب يحصل على خمسة وعشرين دينارًا على وصلته الغنائية في الليلة الواحدة، حوالي أربعين دولارًا، ولأن هذا الرجل لا يعرف الاحتفاظ بأي مبلغ يبقى مفلسًا أغلب الأيام.
بمجرد أن نخرج من مطعم الفردوس الراقي، ننزل في أرقى أحياء عمان، عبدون، الغلاء الفاحش في كل مكان، يدخل نجيب ليأكل سندويشة ويشرب العصير ويركب تكسي، تقريبًا يخر من جيبه نصف ثمن عمله في الليلة، بالرغم من أن له وجبة شهية مغرية دون ثمن في المطعم مع كأس ويسكي أو نبيذ أو عصير، مع تقدير عالي واحترام كبيرين له، لأنه فنان وله حضور ولديه جمهوره في عمان، والكثير يأتي ليسمع له وخاصة النساء، ليتصببن على وسامته.
والمشكلة الكبيرة هي في الكرم الكبير الذي يتمتع به، لم يكن يقبل أن يشرب كأسة ماء من دوني، كان يكن لي احترامًا كبيرًا لم أره في حياتي من أي صديق أخر، واحترام لتجربتي القاسية في السجن، بالرغم من أنه لم يتعاطى السياسة في حياته، ولم يحبها.
نجيب كان إلهًا في صورة إنسان، قلب طيب ورقيق وعلى مسافة من الناس، كما لم يكن يعط النساء الكثير من الاهتمام، ويحزن علي لأنني كنت دون صديقة:
ـ آرام، أنت لا تعرف المرأة، الله لا يوقعك مع إحداهن. إن عالمهن صعب جدًا. أنت تنظر إليهن من، خارج، بمجرد ان تدخل في علاقة معهن سترى أنهن ليسوا بتلك الرومانسية التي تراها. إنهن لعوبات. إنهن كالبحار، جميلات من البعيد، لكن بمجرد أن تقترب منهن ستشرب الماء الملح على أصوله.
ـ بيد أنهن جزء من جمال الحياة، وفيهن تكمن رغباتنا، ونصبح أجمل بحضورهن. ونشعر أننا رجال وهن نساء
ـ هذا الكلام صحيح من بعيد، بيد أن الاقترب منه المرأة اكثر ستحترق بنارها. أبق على مسافة، ودعها على مسافة وأجعل بينك وبينها حدود. إذا تمكنت منك لن تبقى رجلًا، سم هذا أي شيء إلا أن تكون رجلًا. المرأة عالم مختلف عن عالم الرجال، كائن مشتت التفكير والعاطفة. متقلبة. وأضاف:
ـ كان لي صديقة من دولة عربية، نعمل معًا في سلطنة عمان، نغني معًا، بيد أنها مازوخية، شيء غريب، كانت تعشق الضرب والقسوة والصرامة، وتستمع بالذل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة