الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التشكيل الفني في خطابات الشعراء العشاق

سعد سوسه

2020 / 7 / 11
الادب والفن


الخصائص اللفظية والمعنوية
لقد اختلف موقف النقاد والبلاغيين في قضية اللفظ والمعنى وذلك كون ((النص الشعري هو تركيبات لغوية قبل كل شيء وهذه التركيبات اللغوية هي التي تعبر باصواتها ودلالاتها عن الاثر الذي يحدثه هذا النص)) ( 1 ) .اذا اللغة تعد ((عنصرا من عناصر الشعر المهمة،فلابد للشاعران يسلك فيها مسلكا خاصا)) ( 2 ) . وذلك لكون (( اللغة معان في قوالب الالفاظ، او الالفاظ ترمز الى المعاني )) (3 ) .
وينصح بشر بن المعتمر ( ت 210 هـ) الشاعر بان يجلب لكل عين وغرة ، من لفظ شريف معنى بديع… واياك والتوعر ، فان التوعر يسلمك الى التعقيد والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين الفاظك. ومن اراغ معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما ، فان حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما ان تصونهما عما يفسدهما ويهجنها . وقال يجب ان يكون لفظك رشيقا عذبا وفخما سهلا ويكون معناك ظاهرا مكشوفا وقريبا معروفا .
وان الالفاظ هي الاداة التي تتجلى من خلالها المعاني لذلك يقول الجاحظ من ان المعاني القائمة في صدور الناس المتصورة في اذهانهم… مستورة خفية … وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الاشارة وحسن الاختصار ودقة المدخل يكون اظهار المعنى.
وبما ان لامزية للفظ على المعنى ولا للمعنى على اللفظ فان النقاد والبلاغيين قد جعلوا معايير الشعر الجيد الحسن اللفظ والمعنى فالجاحظ يرى ان اجود الشعر ما رأيته متلاحم الاجزاء سهل المخارج ، فتعلم بذلك انه افرغ افراغا واحدا ، وسبك سبكا واحدا، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان .
اما ابن قتيبة (ت 276 هـ) فيرى ان افضل الشعر هو ما حسن لفظه وجاد معناه .
وقال ابن طباطبا (ت 322 هـ) ان (( احسن الشعر ما ينتظم القول فيه انتظاما ينسق به اوله مع اخره على ما ينسقه قائله.. حتى تخرج القصيدة كأنها مفرغة افراغا… لا تناقض في معانيها ، ولا وهي في مبانيها ولا تكلف في نسجها)) ( 3 ) .
اذا فان للشعر لغته الخاصة التي تتطلب منها ان تكون مستوفية للشروط التي اشترطها النقاد والبلاغيون وذلك كله من اجل ان تستقيم تلك اللغة في مكانها جميلة نضرة.
ويلاحظ على اللغة الشعرية من انها تختلف، باختلاف ما تؤديه من المعاني والاغراض وهي تختلف من شاعر الى اخر حسب طبائعهم، وبشأن الالفاظ فان لها صلة بالحالة الشعورية والنفسية للشاعر اثناء نظمه للقصيدة أي تكون موافقة للحال التي يعد معناه لها كالمدح في حال المفاخرة… وكالغزل والنسيب عند شكوى العاشق، واهتياج شوقه وحنينه الى ما يهواه . ومن هنا تنوعت الاغراض الشعرية، وتشعبت فنونه، ولكل غرض لغته التي تناسبه واسلوبه الذي يمثله فالفخر يستدعي مثلا قوة الاسلوب وضخامة المعنى، والغزل يحتاج الى رقة اللفظ وعذوبة العبارات وهكذا في بقية الاغراض وهذا ما اكده قدامة بن جعفر (ت337هـ) في قوله ولما كان المذهب في الغزل انما هو الرقة واللطافة والشكل والدماثة كان مما يحتاج فيه ان تكون الالفاظ لطيفة مستعذبة مقبولة غير مستكرهة.
وقال القاضي الجرجاني (ت 392هـ ) ان رقة الشعر اكثر ما تـأتيك من قبل العاشق المتيم والغزل المتهالك فان اتفقت لك الدماثة والصبابة وانضاف الطبع الى الغزل فقد جمعت لك الرقة من اطرافها)) ( 4 ) وقال ايضا اذا اردت ان تعرف موقع اللفظ الرشيق من القلب وعظم غنائه في تحسين الشعر.. تتبع نسيب متيمي العرب ومتغزلي اهل الحجاز .
ان هذه الرقة والعذوبة التي اكتسبها النسيب والغزل بصورة عامة لها عوامل مؤثرة فيها. منها البيئة والطبائع اذ ان اللغة خاضعة لمزاج اهلها فهم الذين يخلعون عليها الخشونة، او يزينونها بالوان من الرقة، فلغتهم متمشية مع الروح التي سرت اليها من اهلها، تستعمل في اغراض معيشتهم وكل ما يلائم بيئتهم ويناسب طباعهم.
لذلك فان الشكل النهائي الذي تأخذه القصيدة، والاسلوب اللفظي المستخدم في تحديد بنائها واستكمال عناصرها لا يمكن فصلها عن طبيعة الحياة التي يعيشها الشاعر .
وقد علل القاضي الجرجاني اثر البيئة والطبائع في الشعر بقوله( وقد كان القوم يختلفون في ذلك وتتباين فيه احوالهم فيرق شعرا حدهم، ويصلب شعر الاخر ويسهل لفظ احدهم، ويتوعر منطق غيره، وانما ذلك بحسب اختلاف الطبائع وتركيب الخلق، فان سلامة اللفظ تتبع سلامة الطبع ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلق… وترى الجاف الخلق منهم كز الالفاظ معقد الكلام وعر الخطاب حتى انك، ربما وجدت الفاظه في صوته ونغمته، وفي جرسه ولهجته، ومن شأن البداوة ان تحدث بعض ذلك . وذلك لان الشعر الجاهلي من الشعر الذي يصدق عليه غالبا انه رسم ناطق وتصوير حسي للبيئة الطبيعية والبشرية .
اما ابن رشيق (ت 456 هـ) فقد اكد نوعية الالفاظ في النسيب ان يكون حلو الالفاظ رسلها، قريب المعاني سهلها، غير كز ولا غامض، وان يختار له من الكلام ما كان ظاهر المعنى، لين الايثار رطب الكسر شفاف الجوهر، يطرب الحزين ويستخف الرصين .
وبما ان شعر العشاق يعالج تجارب عاطفية فلابد ان يشترك هؤلاء الشعراء في الالفاظ المعبرة عن هذه التجارب في الاغلب الاعم. وما يكتنفها من صور تشاؤمية وتفاؤلية في آن بحيث (( يسهم كل منهما في اضفاء المعنى الانساني على الاخر)) ( 5) .
وعندما نتأمل اشعار الشعراء والعشاق، فستطالعنا الفاظ ((دالة على مضامين القلب كالحب والهوى والعشق والوجد، وقد تعددت في لغتهم المترادفات للاشياء التي عانوها)) ( 6 ) . فضلا عن الفاظ الشكوى والحرمان والالم والعذاب، وما يستخدم منها للافصاح عن الام العشق والحب وذلك ما تتأمله في قول امرئ القيس:
دارٌ لفاطمةَ التي تبلت قلبي وتَيمَ حُبّها نَفسي
فالفاظ هذا البيت اكد حقيقة ان حب الحبيبة قد ذل نفس الشاعر فضلا عن اغنائها بالعاطفة وقد جسمها لنا الشاعر في تعابير محبوكة دقيقة الرصف.
وكان الشاعر حريصا على ان يفصح عنه بما يلائم تحقيق استجابة الحبيبة، فلا ينبغي ان يذكر بسوء ويتمنى لها مكروها، ولو كان ذلك في مجال التعظيم لشأنه. واذا ما حاولنا استقصاء مفردات الحب وجدنا الفاظها تأخذ مساحة واسعة لدى الشعراء العشاق ومن ذلك قول المرقش الاكبر:
أغالبكَ القلبُ اللجوجُ صبابةً وشوقاً الى أسماءِ أم أنتَ غالبهُ
فالصبابة هي مفردة من مفردات ومرادفات العشق وهي تعني رقة الشوق فعبر عن تلك الرقة باستخدام لفظة لها قوة ودلالة اعمق من التصريح بها حيث ان هذا النسيج المثير من الالفاظ وصورها ورموزها وايحاءاتها لم يكتب لها البقاء الا لانها (( نبع من قوة التوازن بين الاحساس والفكر وبين العاطفة والصورة .
وذلك لان العاطفة بطبيعتها تؤثر في الشاعر(( جسما وفكرا وخيالا فتصبح في ذهنه افكارا فتشكل الموضوع الذي ينظم قصيدته فيها وتفجر في ذهنه ملكة الخيال التي لها لغة مخصوصة في موسيقاها وايقاعها وفي الفاظها وتعابيرها وفي سياقها وبنائها)) .
وقال قيس بن الحدادية:
وأن الذي امَّلتُ من أمُ مالكٍ أشابَ قُذالي وأستهامَ فؤاديا
فورد في البيت لفظة (الهيام) التي تدل في معناها المعجمي وهو ذهاب العقل من العشق، وقد شكلت بوتقة العاطفة التي افصحها عنها الشاعر وقال مضاض الجرهمي:
سألتكِ بالرحمنِ لا تجمعي هوى عليهِ وهجرانا وحبكِ جارهُ
فكلمة الهوى هي من مرادفات كلمة العشق التي تعني غلبة محبة الانسان للاشياء وغلبتها على قلبه.
وتكثر عند الشعراء العشاق الحزن والبكاء واللوعة والحسرة والدموع والزفرات وقد عبر الشاعر من خلالها عما رافق تجربته العاطفية من عذاب، فعبر مضاض عن ذلك قائلا:
علامَ قبستِ النارَ يا أمُ غالبِ بنارِ قُبيس حين هاجتكِ نارهُ
على كبدِ حرى وأنتِ عليمـةً بغيبِ رقيقٌ لا يبينُ ضمارهُ

فهو يحاول من خلال هذه الابيات ان يستجدي استعطاف قلب حبيبته اليه. وانشد المرقش الاكبر قائلا:
ديارُ أسماءَ التي تبــــلتْ قلبي ، فعيني ماؤُها يُسجـمْ
فعشق اسماء جعله خاضعا لها فاستخدام لفظة التبل التي تعنى الخضوع في الحب وجعله هذا الحب يسكب الدموع بصورة مستمرة، ونظير ذلك خطاب قيس بن الحدادية المعبر عن الم الفراق اذ قال:
أنَّ الفؤادَ قد أمسى هائماً كلفاً قد شفهُ ذكرْ سلمى اليوم فأنتكسا
وترددت ايضا لدى الشعراء العشاق مفردات القتل والبؤس والموت والمنية وتشكل تلك الالفاظ طابعا تشاؤميا ويرى فيها العاشق حبه المقموع فمن ذلك قول امرئ القيس:
يا بؤسِ للقلبِ بعدَ اليومَ ما آبهُ ذكرى حبيبٍ ببعضِ الأرضِ قد رابهْ
وذكر القتل في دلالته المجازية عبد الله علقمة في قوله:
فأن يقتلوني يا حبيشُ فلم يدعْ هواكِ لهم منِّى سوى غُلَّة الصَّـدرِ

قال قيس بن الحدادية مؤكدا اتكاءه على مثل هذه الالفاظ:
فليتَ المنايا صبَّحتي غدَّيةً بذبحٍ ولم أسمع لبينً مناديا
ان هذا التكرار في الفاظ بعينها بين الشعراء العشاق يعود الى انهم عاشوا تجارب تكاد تبدو متشابهة حيث يقول ابن رشيق (ت 456 هـ) ان (( للشعراء الفاظ معروفة وامثلة مألوفة، لا ينبغي للشاعر ان يعدوها ولا ان يستعمل غيرها ، كما ان الكتاب اصطلحوا على الفاظ باعيانها سموها الكناية لايتجاوزونها الى سواها، الا ان يريد شاعر ان يتظرف باستعمال لفظ اعجمي فيستعمله في الندرة .
ومن الافاظ التي كثرت في سياقات الشعراء العشاق ايضا الفاظ الواشين والاحراس والرقباء والسر والكتمان بوصفها ادوات تفصح عن معاناة المحبين. وذلك ما نتأمله في هذه الخطابات الشعرية منها على سبيل المثال قول امرئ القيس:
تجاوزتُ أحراساً وأهوالَ معشرٍ علىَّ حراصٍ لو يشرّون مقتلي
وقول قيس بن الحدادية :
بكتْ من حديثٍ بثّهُ وأشاعــهُ ورصَّفهُ واشٍ من القومِ راصعُ
اما الفاظ الداء والدواء والطبيب فهي كثيرة ايضا وذلك لان الشاعر يحاول من خلالها استعطاف من يحب ويصف لها حاله وما اصابه نتيجة الفراق، فقال عبد الله بن علقمة:
وما كانَ حبّي نوالٍ بذلتــــهِ وليس بمسلي التجُّهمُ والهجــرُ
سوى أنّ دائي منكِ داءُ مــودةٍ قديماً ولم يُمزج كما تُمزج الحمرُ
وقال عروة بن حزام:
جعلت لعرّافِ اليمامةِ حكمـةٌ وعرِّافِ حجر ان هما شفياني
فقالا نعم نشفي من الدَّاءِ كلِّهِ وقاما مع العُوَّادِ يبتـــدرانِ
فما شفيا الدَّاءِ الذي بي كلَّـهُ وما ذخرا نصحا ، ولا الواني
وقد ردد الشعراء العشاق بعض الاساليب التي تعبر في اصل وضعها عن انفعال العاشق مثل الاستفهام والقسم والاستغاثة والنداء وذلك لتأكيد ما يكابده من صبابة لا حدود لها فمن ترديد النداء قول امرئ القيس:
أفاطمَ مهلاً بعضَ هذا التدَّللِ وأن كنتِ قد أزمعت صرمي فأجملي
ويحاول الشاعر من خلال هذا الاسلوب ان يظهر مقدار قوته في الاستعطاف من الحبيبة التي تبدو معذبة لشاعرنا لا تجمل به ولا تراعي المه فاستخدام لفظة (مهلا) التي تعني الرفق بالشاعر ويدل على مقدار ما يلقاه الشاعر من شدة فيتوسل من غير جدوى فهنا يتخيل المتلقي ان فاطمة لا تبالي بما تسمع ولا تلتفت الى ما ترى ، بل ربما تزم شفتيها وتولي بوجهها فلا يبقى لشاعرنا الا الاسراف في التماس الرحمة فيسألها الرفق في الصرم والهجران .
وقد اثنى البلاغيون على قول امرئ القيس في هذا البيت الشعري وقالوا: وجوب التئام اللفظ مع المعنى وأتلافهما ، وعلى هذا ينبغي ان يكون اللفظ رقيقا لينا في موقف الغزل ، فلو جاء امرؤ القيس في هذا الموقف بالفاظ جزلة لكان ذلك معيبا.
ومثال اسلوب الاستفهام قول المرقش الاكبر :
فهل تُسلِّي حُبَّها بـازلٌ ما أن تُسلَّي حُبَّها من أمــم

فاستخدام الشاعر للاستفهام هنا دليل على تعجبه وذلك لعدم مقدرته على نسيان حبه لاسماء فانه امر صعب شديد عليه. وقال المرقش الاصغر متبعا اسلوب النداء:
أفاطمَ أنَّ الحُبَّ يعفو عن القلي ويُجشمُ ذا العرضِ الكريمَ المجاشِمَا
فان الحب مع منع المحبوب وجفائه يزداد ويستحكم وان احب الانسان شيء ما فانه يرتكب أي شيء في سبيله.
وقال عروة بن حزام :
أناسيةٌ عفراءُ ذكري بعدمــا تركتُ لها ذكراً بكلِّ مكـــــانِ
ومن الصيغ التي استخدمها الشعراء في التعبير عن التساؤل ما نتأمله في خطاب المرقش الاكبر:
لمن الظعنُ بالضُّحى طافـياتٍ شبُههَا الدّومُ أو خلايا سفيـــنِ
وقول امرئ القيس:
تبصَّر خليلي هل ترى من ظعائنٍ سوالكِ نقباً بين حزمَىْ شَعبعـبِ
وقول المرقش الاصغر:
تبصَّر خليلي هل ترى من ظعائنِ خرجنَ سُراعاً واقتَعدنَ المفائم
فالشاعر يحاول ان يخفف من معاناته من خلال ترديد الاستفهام الى الحد الذي يوازي انفعاله، الذي بثه في هذا التساؤل او الاستفهام من دون ان يجد لذلك جواباً وليس له منه مهرباً. اما ترديدهم للاستغاثة المفصحة عن الشكوى والتعجب والترجي فقد وردت في مواضع كثيرة من شعر الشعراء العشاق لان مدار حديثهم يكون في هذه المعاني من ذلك ما قاله قيس بن الحدادية:
لا تعذلينيّ سلمى اليومَ وانتظري أن يجمعَ اللهُ شملاً طالما أفترقا
وقول عروة بن حزام :
فيا كبدينا من مخافةِ لوعةِ الـ فراقِ ، ومن صرفَ النَّوى تَجِفانِ
وقد تصل الاستغاثة بالشاعر الى ان يطلب الاعانة من الله كما فعل عروة القائل:
فيا ربّ أنتَ المستعانُ على الذي تحملتُ من عفراءَ منذُ زمـــانِ
ويشاطره في هذا التوجه قيس بن الحدادية قائلا:
شكوتُ ألى الرحمنِ بُعدَ مــزارها وما حمَّلتني وأنقطاع رجائيـــا
وقد يحاول الشاعر ان يستحضر الحبيبة اليه وذلك بذكر اسمها عدة مرات في قصيدة واحدة كما صرح به امرؤ القيس قائلا:
ديارٌ لسلمى عافياتٌ بذي خـــالِ ألحَّ عليها كلَّ أسحَمَ هَطَّـــــالِ
وتحسبُ سلمى لا تزالُ ترى طـلاً من الوحشِ أو بيضاً بميثاءَ مِحـلالِ
وتحسبُ سلمى لا تزالُ كعهدنــا بوادي الخُزامي أو على رَسِّ أوعالِ
ليالي سلمى اذ تُريكَ منصَّبــاً وجيداً كجيدِ الرِّئمْ ليس بِمعطـالِ
وقال المرقش الاكبر في المعنى نفسه:
أغالبكَ القلبُ اللجوجُ صبابـــةً وشوقاً الى أسماءِ أم أنتَ غالبـهُ
يهيمُ ولا يعيا باسماءِ قلبــــهُ كذلكَ الهوى أمرارهُ وعواقبــهُ
أيُلحى أمرؤ في حبِّ أسماء قد نأى بغمزٍ من الواشين وازوّر جانبهُ
وأسماءُ همُّ النفسِ أن كنتُ عالمـاً وبادي أحاديث الفؤادِ وغائبـهُ
ولجأ المرقش الاصغر الى ذلك بترديد اسم حبيبته قائلا:
ألا يا أسلمىِ لا صُرمَ لي اليومَ فاطما ولا أبداً ما دامَ وصلكِ دائمـــا

أفاطـمَ أن الحُبّ يعفو عن القلـي ويجشمُ ذا العرضِ الكريمِ المجاشما
ألا يا أسلمىِ بالكوكب الطّلق فاطما وأن لم يكن صرفُ النوى متلائما
ألا يا أسلمىِ ثم أعلمي ان حاجتي اليكِ فرُدّي من نوالكِ فاطمـــا
أفاطم لو أن النساءَ ببلــــدةٍ وأنتِ بأخرى لاتبعتكِ هائمــا
فالشاعر حاول من خلال هذا الترديد ان يجعل المتلقي واعيا بعمق عشقه للحبيبة التي بدت شاخصة في تضاعيف ابيات القصيدة فاراد الشاعر ان يظهر مقدار حبه لها وتربعها على عرش قلبه وعقله معا.
وردد عنترة اسم معشوقته عبلة في معلقته في اكثر من بيت وذلك تأكيدا على حبه لها قائل:
يا دارَ عبلةَ بالجواءِ تكلمــي وعِمِي صَباحاً دارُ عبلةَ وأسلمي

وتحلُّ عبلةُ بالجواءِ وأهلنــا بالحُزنِ فالصّمانِ فالمتُثلِّـــمِ
ان ترديد الشاعر العاشق باسم الحبيبة يهدف من خلاله اعطاء مصداقية لتجربته العاطفية وذلك لان تجربة الشاعر كلها تدور على هذه الحبيبة فهي التجربة التي يعيشها في كل لحظة من لحظات حياته.
وبصورة عامة نجد ان شعر الشعراء العشاق قد اتصف بميزة لفظية مهمة اتفق عليها اغلب النقاد والبلاغيين الا وهي:
رقة الالفاظ وجزالتها: فهذه صفة تميز بها شعر الغزل وخصوصا شعر الشعراء العشاق فان الفاظه دون الفاظ الاغراض الشعرية الاخرى صعوبة وغرابة وهي اقرب الى الرقة والالفة على الرغم من ترديد بعض الالفاظ التي توسم بالغرابة والوعورة مردها الى خشونة العيش. وقسوة حياة البادية أي انها انعكاس للواقع البيئي الاجتماعي والطبيعي على السواء. وكذلك هناك التنافر في الحروف التي تكتنف بعض ابيات العشاق من ذلك قول امرئ القيس:
فلمّا أجزنا ساحةَ الحيِّ وأنتحى بنا بطنُ حقفٍ ذي ركامٍ عقنقلِ

فالشاعر تقصد هذه الالفاظ ذات الحروف المتنافرة ليس لانه شاعر جاهلي خشن يحب الحوشي من الكلام وانما يرمي الى مثل هذه الصور ليرسمها بالحروف والكلمات ما تعجز عنه ريشة المصور البارع . فيحسن بنا ان ننظر الى الصلة التي تربط الحالة العاطفية للمتكلم وبين ادائه لها حيث ان قوة التعبير ووضح اثر اللغة وروعتها انما يرجع الى ما تثيره الكلمات والعبارات في الاذهان من المعاني الواضحة والصور الصحيحة للحياة وما فيها من محسوسات او معقولات .
اما الذين يمكرون على الشاعر العربي غرابة الفاظه عنهم وبعدها عن اذواقهم فانه لا يخاطبهم بشعره.. وانما يخاطب قوما يحسنون الاستماع له والفهم عنه .
وان الشعراء الجاهليين بعامة والعشاق بخاصة يستعينون بالالفاظ والاساليب المفضية الى صور فنية لكي يجعل المنظر بارزا مؤثرا. فمن الطبيعي ان يمتاز الغزل بسهولة التعبير ورونق الالفاظ. وذلك لان قدرة الشاعر المبدع تكمن في نظم سياقات تتشكل فيها الالفاظ تشكيلا جديدا موحيا بمعان كثيرة، فالنص لا يكتسب دلالته الفنية الا من ذلك الاطار اللغوي المكون من اللفظ والمعنى.وذلك لان ((الالفاظ اجساد، والمعاني ارواح، وانما تراها بعيون القلوب فاذا قدمت منها مؤخرا، او اخر منها مقدما افسدة الصورة وغيرت المعنى)) ( 7 ) .
وهذا الذي اكده ابن رشيق القيراوني ( 456 هـ) في رأيه القائل :اللفظ جسم وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم ، يضعف بضعفه، ويقوى بقوته ، فاذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصا للشعر وهجنه عليه.
اذا ان الجمال يتحقق حين يطابق لفظه معناه حيث ان الجمال يتصف بالتناسب التام بين الاجزاء في القصيدة حتى ليتعذر استبدال لفظ يلفظ . لذلك يقول عبد القاهر الجرجاني (ت 471 هـ) من ( ان تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير ان ينظر الى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم، باكثر من ان تكون هذه مألوفة مستعملة وتلك غريبة وحشية أو ان تكون حروف هذه اخف وامتزاجها احسن ) ( 8 ) . واخيرا فان الاسلوب في شعر الحب أو العشق مثله مثل كل اسلوب عربي راق انما يتأسس على الجزالة والاقتصاد اللغوي والاسلوب الجزل يختار الفاظه من معجم فيصبح غير متداول ولكنه في الوقت عينه غير غريب عن الاذن . اما الخصائص المعنوية التي امتاز بها شعر الشعراء العشاق فمن ابرزها : الوضوح والبساطة: كونها جاءت فطرية سهلة لا اغراق في الخيال قريبة التناول بعيدة عن الاتجاهات الفلسفية والاستقصاء العميق في استخراجها حيث ان معانيهم تتحدث عما يقع تحت ابصارهم من صحراء وسماء واطلال، وخيل وابل . فالشاعر الجاهلي جرى على طبعه وسجيته فلم يتكلف القول في مالم يشعر به ولا تكلف الاحاطة والشمول ولا التخريج والتعليل ولا التعقيد . ويتمثل الوضوح والبساطة في قول عنترة وهو يخاطب المعشوقة عبلة:
ولقد ذكرتكِ والرماحُ نواهلٌ منِّى وبيضِ الهندِ تقطرُ من دمي
فوددتُ تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارقِ ثغركِ المبتســمِ
وان هذا الوضوح والبساطة ما يدفعنا الى الاعجاب به واللذة الفنية حين نقرأه ونستمع اليه ولا شك ان عذوبة الاسلوب وسلاسته يحب ان تبرز في انتاج الشاعر وفنه .
وهناك الصدق: من منطلق ان الشاعر العاشق يعبر عما يشعر به حقيقة لما يختلج في نفسه، والا يتكلف في ايراده، ففي حديثهم يصورون الاشياء بصورها الصادقة ، فلا يوغلون في التصوير ولا يبالغون في المعنى، ولا يوغلون في الفكرة غلوا مرذولا ، وانما يلتزمون الصدق . وذلك لان البدو بطبيعتهم يعوزهم النظر الفلسفي فلا يرون الحوادث والاشياء الا مجردة لا ينظمها سلك ولا تجمعها علاقة . لذلك ابن حزم ( ت456 هـ) يقول عن اثار الحب الصادق: لابد لكل محب صادق المودة ممنوع الوصل، اما ببين واما بهجر واما بكتمان واقع لمعني، من ان يؤول الى حد السقام والضنى والتحول، وربما اضجعه ذلك وهذا الامر كثير جدا ابدا، والاعراض الواقعة عن المحبة غير العلل الواقعة من هجمات العلل . ومن ذلك قول عنترة:
وهيهاتَ يخفي ما أكنُّ من الهوى وثوبُ سقامي كلُّ يومٍ يجَّددُ
حيث اكثر الشعراء من الشكوى فوصفوا حرمانهم النوم، وهزال ابدانهم ، وتفكيرهم المتواصل في الحبيبة وشوقهم المضني، ومنهم وصفوا تبريح الهوى باجسامهم ولم يجعلوا همهم التفنن في التعبير، وانما كان اسلوبهم واقعيا خاليا من الاغراق في التخييل.
ومثال ذلك ما صرح به عروة بن حزام قائلا:
متى تكشفا عني القميصَ تبيَّنـا بى الضُّرَّ من عفراءَ يا فتيـانِ
وتعترفا لحماً قليلاً وأعظمـــاً دِقاقا وقلباً دائمَ الخفقـــانِ
على كبدي من حُبّ عفراءَ قرحةٌ وعيناي من وجدٍ بها تكفانِ
التجسيم: حيث ان معاني الشعر الجاهلي بعامة والعشاق بخاصة اتصف بكونها معاني حسية مجسمة في اشخاص او في اشياء وان هذه النزعة الحسية جعلت الشاعر ينتزع تشبيهاته من عالمه المادي وبيئته المحيطة به . لكون الشعراء العشاق متفاعلون مع مجتمعهم وتنعكس على انتاجهم الادبي صورة البيئة التي سكنوها والمجتمع الذي عانوا مشاكله انعكاسا صادقا وواضحا .
لذلك فان الشعراء العشاق وصفوا المرأة وذكروا تمام خلقها ، واشراق ترائبها، وطولها وعنقها وثغرها، واسنانها، وتنعمها وتطيبها وحديثها وخوفها على زوجها، وضعفها ورقتها. واخذوا يقرنون ذلك وغيره بما يماثله من واقعهم الحسي ، فهو يشبه المرأة بالشمس والبدر والرمح والظبية، والاقحوان والعنم، والبلور والمرآة، والمسك وغيرها من التشبيهات.
الحيوية والحركة في المعاني: حيث ان الشاعر لا يكاد يحس معنى من المعاني حتى يتركه على عجل، وبسرعة شديدة الى معنى اخر فهو لا يعرف التريث والاطناب والوقوف الطويل بقصد التعمق والاستجلاء . لذلك ادى تنقل الشعراء السريع من غرض الى اخر الى غلبة الايجاز على الاسلوب، وقلة العناية بترتيب الافكار فالحركة اساس في عرض المناظر في القصيدة العربية بعامة والعشاق بخاصة وكثيرا ما تتوفر هذه الحركة في مقدمات قصائدهم.
وان الشعراء كانوا يشتركون في المعاني ولكنهم كانوا يختلفون في صورته الخارجية التي يريدون ان تتضح في ذهن السامع فالصورة موضع خلاف بين شاعر وشاعر تبعا لطبيعته الفنية والاسلوبية . أي هناك تكرار في المعاني وبراعة في اعادة صوغها مجددا.
المصادر
1 . مفهوم البناء الفني للقصيدة في النقد العربي الحديث، مرشد الزبيدي، مجلة الاقلام، العدد الثامن 1989: 113.
2 . لغة الشعر بين جيلين ، ابرهيم السامرائي :8.
3 . الاصول الفنية للادب ، عبد الحميد حسن: 53.
3 . عيار الشعر، تحقيق طه الحاجري، محمد زغلول سلام: 126-127.
4 . الوساطة بين المتنبي وخصومه،عبد العزيز الجرجاني، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم وعلي محمد البجاوي:ص18.
5 . الغزل العذري دراسة في الحب المقموع: 140.
6 . الغزل تاريخه واعلامه، جورج غريب: 11.
7 . الصناعتين الكناية والشعر ، ابو هلال العسكري ، تحقيق علي محمد البجاوي و محمد ابو الفضل ابراهيم: 161.
8 . دلائل الاعجاز في علم البيان ، عبد القاهر الجرجاني ، تحقيق محمد عبدة ومحمد محمود التركزي:36.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في