الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد على باشا ونهضة مصر –7

فاروق عطية

2020 / 7 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


أدرك محمد علي باشا أنه لكي تنهض دولته عليه أن يؤسس منظومة تعليمية، تكون العماد الذي يعتمد عليه لتوفير الكفاءات البشرية التي تدير هيئات دولته الحديثة وجيشها القوي. لذلك وجه جزءًا كبيرًا من جهوده إلى إحياء العلوم والآداب في مصر وذلك بنشر المدارس على اختلاف درجاتها، وارسال البعثات العلمية إلى أوروبا والاستكشافية لمنابع النيل، وقد اتبع في هذا السبيل تلك الفكرة التي اتبعها في إنشاء الجيش والأسطول، وذلك أنه اقتبس النظم الأوروبية الحديثة في نشر لواء العلوم والعرفان. بدأ بإرسال طائفة من الطلبة الأزهريين إلى أوروبا للدراسة في مجالات عدة، ليكونوا النواة لبدأ تلك النهضة العلمية. كما أسس المدارس العليا والابتدائية، لإعداد أجيال متعاقبة من المتعلمين الذين تعتمد عليهم دولته الحديثة. وأخذ من الحضارة الأوروبية خير ما انتجته العلوم التقنية والفكرية، فنهض بالعلوم والآداب في مصر نهضة كبرى كانت أساس تقدم مصر العلمي الحديث.
عنى محمد علي باشا بنشر التعليم على اختلاف درجاته من عال إلى ثانوي إلى ابتدائي. عنى أولا بتاسيس المدارس العالية وايفاد البعثات، ثم وجه نظره إلى التعليم العالي فالابتدائي، مؤمنا بان الامم انما تنهض بداية بالتعليم العالي الذي هو اساس النهضة العلمية. وقد أراد بادئ الأمر ان يكّون طبقة من المتعلمين تعليما عاليا يستعين بهم في القيام باعمال الحكومة والعمران في البلاد وفي نشر التعليم بين طبقات الشعب، وهذا هو التدبير الذي برهنت عليه التجارب انه خير ما تنهض به الامم، وقد ساعد على تكوين طبقة تعلمت تعلما عاليا قبل انشاء المدارس الابتدائية والثانوية ان الأزهر كفل امداد المدارس العالية والبعثات بالشبان المتعلمين الذين حازوا من الثقافة قسطا يؤهلهم لتفهم دروس المدارس العالية في مصر أو في أوروبا.
في عام 1813م ابتعث محمد علي باشا أول البعثات التعليمية إلى أوروبا، وكانت وجهتها إلى إيطاليا، حيث أوفد عدد من الطلبة إلى ليفورنو وميلامو وفلورنسا وروما لدراسة العلوم العسكرية وطرق بناء السفن والهندسة والطباعة، ثم أتبعها ببعثات لفرنسا وانجلترا. كانت البعثات الأولى صغيرة، حيث كان جملة من بعث خلالها لا يتعدى 28 طالبًا، ورغم ذلك فقد لمع منهم عثمان نور الدين الذي أصبح أميرالاي الأسطول المصري ونقولا مسابكي الذي أسس مطبعة بولاق بأمر من محمد علي باشا عام 1821م.
إلا أن العصر الذهبي لتلك البعثات، كان مع بعثة عام 1826م، حيث تكونت من 44 طالبًا لدراسة العلوم العسكرية والإدارية والطب والزراعة والتاريخ الطبيعي والمعادن والكيمياء والهيدروليكا وصب المعادن وصناعة الأسلحة والطباعة والعمارة والترجمة. تبع تلك الحملة حملة ثانية عام 1828م إلى فرنسا، وثالثة عام 1829م إلى فرنسا وإنجلترا والنمسا، ورابعة تخصصت في العلوم الطبية فقط عام 1832م. وشهد عام 1844م أكبر تلك البعثات العلمية والتي أرسلت إلى فرنسا، وعرفت باسم "بعثة الأنجال" لأنها ضمت 83 طالبًا بينهم اثنين من أبناء محمد علي واثنين من أحفاده. كان إجمالي عدد تلك البعثات تسع بعثات، ضمت 319 طالبًا وبلغ إجمالي ما أنفق عليهم 303,360 جنيه. كما أمر محمد علي باشا بتوجيه ثلاث حملات بقيادة البكباشي سليم القبطان أعوام 1839م، 1840م، 1641م لاستكشاف منابع النيل، كان لتلك الحملات الفضل الكبير في استكشاف تلك المناطق ومعرفة أحوالها.
أنشأ العديد من الكليات وكان يطلق عليها آنذاك "المدارس العليا". أول ما فكر فيه محمد علي باشا من المدارس العُليا كانت مدرسة الهندسة، وهذا يدل على الجانب العملي من تفكيره، فقد راى أن البلاد في حاجة إلى مهندسين للقيام باعمال العمران فيها، فبدا بتعليم الهندسة. وظاهر مما ذكره الجبرتي في حوادث (1816م) ان أول مدرسة للهندسة بمصر يرجع عهد تاسيسها إلى تلك السنة، وذلك ان أحد أبناء البلد على حد تعبير الجبرتي واسمه حسين شلبي عجوة، اخترع آلة لضرب الارز وتبييضه، وقدم نموذحا إلى محمد علي باشا، فاعجب بها وانعم على مخترعها بمكافاة وامره بتركيب مثل هذه الآلة في دمياط وأخرى في رشيد، فكان هذا الاختراع باعثا لتوجيه فكره إلى انشاء مدرسة للهندسة فانشاها في القلعة، كانت تسمي بمدرسة الهندسة أو المهندسخانة وفيها تُدرّس الرياضيات والعلوم الهندسية وما إليها، وتلاميذها يتعلمون مجانا وترتب لهم رواتب شهرية وكساوى ولها اساتذة من امثال حسن افندي الدرويش الموصلي وروح الدين افندي إضافة إلى ما اختارهم من المعلمين الأوروبيين المتخصصين.
اسس محمد علي باشا مدرسة الطب سنة 1827م اجابة لاقتراح الدكتور كلوت بك، وكان مقرها في أول عهدها بابي زعبل لوجود المستشفى العسكري بها، فانشئت المدرسة بالمستشفى لتوافر وسائل التعليم الطبي والتمرين، وكان الغرض منها تخريج الأطباء المصريين للجيش، ومع الوقت خدم هؤلاء الأطباء عامة الشعب. واختارت الحكومة للمدرسة مائة تلميذ من طلبة الأزهر، وتولى ادارتها وإدارة المستشفى الدكتور كلوت بك، فاختار لها طائفة من خيرة الاستاذة الأوروبيين ومعظمهم من الفرنسيين يدرسون علوم التشريح والجراحة، والامراض الباطنية، والمادة الطبية، وعلم الصحة والصيدلة والطب الشرعي والفيزياء والكيمياء والنبات، ثم أُلحق بها مدرسة خاصة بالصيدلة، وأخرى للقابلات (الولادة) عام 1829م واختيرت لهذه الأخيرة طائفة من السودانيات والحبشيات تعلمن فيها اللغة العربية وفن الولادة وأُلحق بمدرستهم مستشفى صغير للنساء ثم نقلت المدرسة من أبي زعل إلى القاهرة.
ويبدو ان مدرسة المهندسخانة بالقلعة لم تف على مر السنين بحاجات البلاد إلى المهندسين، أو ان برنامجها لم يكن وافيا بالمرام، فانشا محمد علي باشا في سنة 1834م مدرسة أخرى للمهندسخانة العسكرية في بولاق للهندسة العسكرية وعين ارتين افندي أحد خريجي البعثات العلمية وكيلا لها، ثم تولى نظارتها يوسف حاككيان افندي أحد خريجي البعثات أيضا، وفي سنة 1838م اسندت نظارتها ليوسف لامبير بك، وفي سنة 1840م تولى نظارتها علي مبارك بك (باشا)، وكانت هذه المدرسة من اجلّ وانفع المدارس التي انشاها محمد علي باشا، ومنها تخرج عدد كبير من المهندسين الذين خدموا البلاد خدمات جليلة، منهم محمود باشا الفلكي ودقة بك، وإبراهيم بك رمضان وأحمد بك فايد وسلامة باشا.
وفي عام 1834م أنشأ مدرسة المعادن في مصر القديمة، ومدرسة الألسن في الأزبكية عام 1836م وتولى نظارتها رفاعة بك رافع الطهطاوي، ومدرسة الزراعة بنبروه عام 1836م، ومدرسة المحاسبة في السيدة زينب عام 1837م، ومدرسة الطب البيطري في رشيد ومدرسة الفنون والصنائع عام 1839م، وقد بلغ مجموع طلاب المدارس العليا نحو 4,500 طالب.
عندما تقدمت المدارس العليا واتسع نطاقها، قرر محمد علي إنشاء "ديوان المدارس" عام 1837م (كان موجودا من قبل باسم مجلس شورى المدارس)، وعهد بإدارته إلى بعض أعضاء البعثات العائدين لمصر للانتفاع بمواهبهم في تنظيم نهضة التعليم، واسند رياسته إلى أمير اللواء مصطفي مختار بك أحد خريجي البعثة الأولى، فكان هذا الديوان أول وزارة للمعارف في مصر، وحين توفي مختار بك سنة 1838م خلفه أمير اللواء أدهم بك (باشا) سنة 1839م (كان مديرا للترسانة بالقلعة) واستمر في هذا المنصب حتي سنة 1849م. قرر هذا الديوان توسيع قاعدة التعليم في مصر، فوضع لائحة لنشر التعليم الابتدائي، نصت على ضرورة إنشاء 50 مدرسة ابتدائية، وهو ما وافق عليه محمد علي باشا، وأمر بإنشائها على أن يكون 4 منها بالقاهرة وواحدة بالإسكندرية تضم كل منها 200 تلميذ، والباقي توزع على مختلف الأقاليم وتضم كل منها 100 تلميذ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاميرات مراقبة ترصد فيل سيرك هارب يتجول في الشوارع.. شاهد ما


.. عبر روسيا.. إيران تبلغ إسرائيل أنها لا تريد التصعيد




.. إيران..عمليات في عقر الدار | #غرفة_الأخبار


.. بعد تأكيد التزامِها بدعم التهدئة في المنطقة.. واشنطن تتنصل م




.. الدوحة تضيق بحماس .. هل يغادر قادة الحركة؟ | #غرفة_الأخبار