الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-جدل القنوات المغلقة- كتاب للمفكر الراحل حلمي شلبي

منى شماخ

2020 / 7 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


قرأت مؤخرا كتاب "جدل القنوات المغلقة" للمفكر الراحل حلمي شلبي، يتناول الكتاب مشاكل المجتمع المصري ، لكنه لا يتناولها كما اعتدنا ،لا من حيث الأسباب ولا العلاج
يقدم الكاتب رؤية مختلفة ، يبحث في العمق عن جذور مانراه على السطح من مشكلات أو مايمكن أن نطلق عليه "أمراض" يعاني منها المجتمع ، ليكتشف ويكشف لنا أن كثير من تلك المشكلات ذات جذور مشتركة.
فهو يتناول الجذور التاريخية لنشأة الدولة المصرية الحديثة ، وكيف أثرت هذه النشأة على العلاقة بين السلطة والفرد، وبين الدولة والفكر، ويرى أن الدولة المصرية منذ نشأتها اهتمت بالحداثة في الانتاج الزراعي والصناعي والتجاري ،لكن هذه الحداثة لم تصل للفكر السياسي الذي أتت نشأته بعد ذلك لا ليعبرعن طبقة معينة، ولكن ليبحث له عن دور داخل الدولة، لذا يرى الكاتب أن الفكرالسياسي المصري ولد في حالة تبعية، فالدولة هي التي صنعت المفكر وليس العكس، مما جعل الفكر المصري في أزمة شديدة الخصوصية مع الدولة إذا أراد التعبير عن نفسه بشكل منفصل لأنه يضع طبيعة الدولة نفسها في حالة تساؤل.
كما أثرت طبيعة نشأة الدولة كذلك على الفرد (المواطن) وقدرته على تحقيق ماهيته الخاصة التي تتطلب ألا تكون هناك مصادرة لأي مجال من مجالات الحياة ، كفرص العمل السياسي أو تحسين شروط الحياة الاجتماعية، وهنا يجد الفرد نفسه أمام قناة مغلقة لا يمكن النفاذ منها لتجديد الحياة السياسية أو خلق قنوات فعالة لتداول السلطة، وهذا يرجع لفلسفة الدولة السياسية التي تقوم على مبدأ تجريد الإنسان المصري من ماهيته السياسية، وإفراغ فكرة الحياة من بعدها السياسي ،أي تجريدها من العامل الحاسم في تحديد مصير الفرد والدولة معا.
وينتقل الكاتب إلى الحياة الاجتماعية وامكانية حدوث حراك اجتماعي في ظل طبيعة السلطة هذه ، فيؤكد أن قنوات الحراك الاجتماعي ضيقة ضيقا شديدا – رغم أنها تتمتع بهامش حركة لا تتمتع به القنوات السياسية – فالمواطن قد ينشيء قنواته الخاصة للحراك الاجتماعي التي تخالف القانون الإداري أو المالي ، لكنه لا يجرؤ على مخالفة النظام السياسي ، ففي الحالة الأولى قد يلقى بعض التسامح ،أما الحالة الثانية فهي خط أحمر لا يجرؤ على المساس به، إلا أن هذه القنوات لا تسفر عن أكثر من تحسن مظاهر الحياة من مأكل وملبس.
لذلك نجد أن التحولات الاجتماعية الكبيرة حدثت بناءا على تدخل الدولة وليس نتيجة طبيعية للحراك الاجتماعي ، كقانون الاصلاح الزراعي وعمليات التأميم في العهد الناصري ، ثم الانفتاح الاقتصادي في السبعينات، وفي العقود الأخيرة ظهر عاملان حاسمان في عملية الحراك الاجتماعي :سياسة الانفتاح الاقتصادي التي تطورت لعملية الخصخصة والسوق الحر، ثم هجرة العمالة المصرية لدول الخليج .
لكن هذا الحراك خارج سياق الآليات التقليدية التي تتسم بالفعالية ومكافأة العمل والابتكار، فهي قنوات يحفرها الفرد بنفسه بالعجلة والتلهف على تحقيق الثروة بسرعة ، لكنه فشل في انشاء قناة فعلية تعمق قدرته على الاستمرار، فالرغبة في الرقي الاجتماعي وتحسين الظروف الاجتماعية لم تصدرعن شعور بالحق الطبيعي وإنما صدرت عن شعور بالخطر مما أدى إلى إعلاء شأن الممارسة التي تحقق المكاسب الاجتماعية على حساب المبدأ السياسي أو الأخلاقي.
وينتقل الكاتب لقضية غاية في الأهمية تتعلق بطبيعة السلطة وعلاقتها بالأفراد ، وهي قضية التعليم، فإذا كان التعليم أداة منهجية للتعرف على موضوعات العلم فإن هذه الأداة تحتاج إلى حرية الفكر التي تشكل حماية للمنهج العلمي، والتعليم هو الاعداد المباشر لعقلية الطالب وتدريبه على السلوك الفكري ، لكن الطالب المصري يجري اعداده وتدريبه على طاعة النص في المقرر التعليمي مما يجعله مستعدا بعد ذلك لطاعة أي نص آخر دون اخضاعه للنقد العقلي .
فيربط الكاتب بين المواطن الذي استلبت منه ماهيته السياسية فلم يعد قادرا على ممارسة أي فعل سياسي والطالب الذي سلبت منه ماهيته فلم يعد قادرا على التفكير وإعمال العقل فيما يتعلمه،ويرى أن النظام السياسي ينتج نظاما تعليميا على صورته ومقاسه ووفقا لأهدافه المتمثلة في استلاب ماهية الأشياء"ماهية المواطن السياسية،وماهية الطالب الفكرية".

ثم يتطرق الكتاب لفكرة السلطة في المجتمع المصري ،فيرى أنه مجتمع أبوي سياسيا واجتماعيا وثقافيا فالأبوية منهج تفكيري وسلوكي يقوم على أساس استحواذ الأب "في المنزل والعمل والسياسة" على سلطة اتخاذ القرار بصورة لا تسمح لأحد أن ينافسه عليها أو يناقشه فيها، وتبقى قنوات التعبيرعن الرأي أو تداول السلطة أو الحراك الاجتماعي قنوات صورية وتصادر أي محاولة لانشاء قنوات أخرى فعالة، فالسلطة لا تعرف التجزئة أو المشاركة واستتباب الأمن والنظام عندها لا يتحقق إلا بنفي الآخر والتخلص من وجوده كمنافس محتمل.
ويرى الكاتب أن المشاكل التي طفت على السطح في السنوات الأخيرة والتي لم يستطع المجتمع التخلص أو حتى الحد منها، ترجع أسبابها لهذا الانغلاق مثل الزواج العرفي الذي يرى أنه قناة من قنوات التعبير العاطفي أنشأها الشباب في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية تعيق عملية الزواج بشكلها وشروطها المعروفة، كذلك الدروس الخصوصية هي محاولة لايجاد مجال للحراك الاجتماعي الذي أغلقت قنواته الطبيعية.

ثم يتعرض الكاتب لدور الفرد والدولة في دفع حركة التقدم فيرى أن النفوذ الذي تتمتع به الدولة في مصر يتجاوز الحدود الطبيعية لأنه يستطيع أن يتحكم في هذه الحركة سلبا وإيجابا، بل ان الحاكم في مصر يمكنه دفع الدولة في اتجاه ما ، ثم يأتي حاكم آخر ليدفعها في الاتجاه المضاد دون أية اضطرابات أو قلاقل،وتاريخ مصر الحديث يظهر قدرة الدولة على تشكيل المجتمع طبقيا وفقا لما يراه النظام السياسي، ويستطيع كل نظام احداث قطيعة طبقية وسياسية مع ماقبله، هذا الدور لا يقتصر على المستوى السياسي والاقتصادي بل يمتد للفكر كذلك، فاذا نظرنا لتاريخ تطور الفكر المصري سنجد عدم قدرة هذا الفكر على احداث تراكم بسبب تدخل الدولة في عرقلة عملية التراكم هذه، فنجد الفكر المصري يتوقف في منتصف الطريق نتيجة الاعياء والجهد الذي يصيبه من الضغوط الواقعة عليه، أو نتيجة قهر المفكر لنفسه خوفا من تعرضه وتعرض فكره للقهر الخارجي، مما يجعل الفكر يترهل ويشيخ عندما لايصل لما يريده ولا يعود شيء مما أنتجه يثير الرغبة فيه أو يحفزه على الاستمرار،واذا كان القهر يعطل امكانات العقل ويشوهه، فإن الخوف من القهر لا يقل أثرا، فهو يمسخ العقل ويشوه الوجدان ، فالعقل المرتعش لا ينتج فكرا ولا يصنع حضارة.
فنجد المفكر والباحث في هذه الظروف يراقب كلماته وفكره – وهذه أسوأ أنواع الرقابة - ويحاسب نفسه قبل أن يحاسبه السلطان فيصبح فكره تقليديا محافظا ويبتعد عن الموضوعات التي قد تهلكه.
فهو يعرف أن السلطة لن تتردد في ممارسة صلاحياتها الكثيرة وهو أمامها لا يملك شيئا، فلا قنوات شرعية يمكن أن تشكل ضغطاعليها ولا رأي عام قادر على احداث توازن صحي بين الخصوم السياسيين ، فالآلة الاعلامية تصف معارضي النظام بالخيانة أو العمالة أو التطرف ...الخ

ويرى الكاتب تطابق بين فكرة السلطة في النسق الاجتماعي الثقافي ، والسلطة في النسق السياسي ، فالأب يعيد انتاج نموذج الخضوع لسلطة مطلقة لا تقبل المشاركة ، والنظام الأبوي يجعل الشخص الذي يصل للسلطة لا يقبل إلا الخضوع المطلق ، ومن هنا تمارس الدولة باقتدار اجهاض أي شكل تنظيمي مهما كان ضعفه وأيا كان مجاله: نقابيا أو سياسيا، اجتماعيا أو فكريا.


الخلاصة:
يحلل الكاتب طبيعة الدولة في مصر فيرى أن لها طبيعة ميتافيزيقية ،أي أنها سلطة فوقية لذلك لا تقبل بفكرة تداول السلطة ، ولا تعتبرها أمرا طبيعيا يتوافق مع التحولات الاجتماعية.
هذه الطبيعة تجعل رئيس الدولة يكتسب هالة متعالية تنبع من فكرة السلطة في الوجدان الاجتماعي، أما الفرد (المواطن) فتتحدد مكانته في إطار هرمي يوضع في قاعدته ويصبح عليه تحمل كل ثقل الطبقات التي تعلوه حتى نصل لقمة الهرم الاجتماعي أو السياسي.
من في القاعدة لا يجد أمامه إلا شروط البقاء وحدها يناضل من أجل الحفاظ عليها، بينما يتمتع من في القمة والمحيطون بها بكل شكل رفيع من أشكال الاستمتاع بالحياة.
فكرة السلطة في الوجدان الاجتماعي القائم على السلطة الأبوية هي التي تجعل الفرد مستعدا لتحمل هذا البناء الهرمي فوق كتفيه دون أن يشكو، وإذا اشتكى كان المنطق الذي يوجه شكواه هو منطق تخفيف العبء وليس التحرر منه، فالفرد لا يصوغ حياته انطلاقا من حقه الطبيعي فيها ، وإنما من منطق البقاء، منطق الحدود الدنيا التي تضمن استمرار البقاء.
هذا التفاوت الكبير بين الفيزيقا(طبيعة وجود الفرد)، والميتافيزيقا(طبيعة وجود الدولة في مصر) جعل
الفكر المصري مع بداية نشأة الدولة الحديثة أمام طريق مسدود ، السلطة تريده أن يلعب دورا على مقاسها ووفقا لاحتياجاتها ، لكن الفكر يريد بطبيعته أن يعقلن كل شيء بحيث يكتسب الشيء مبرر وجوده من الضرورة لا من القسر، فأدرك أنه يواجه قوة تمثل ماهيتها الخاصة تضادا صارخا مع ماهيته كفكر، فهو يمثل نفيا لها وهي تمثل نفيا له ، والنتيجة أحد أمرين:إما الصدام في مواجهة غير عادلة وإما أن يبقى الفكر محافظا ، أي يتخلى عن ماهيته ويصبح أي شيء آخر إلا ان يكون فكرا.

وإذا نظرنا إلى المجتمع سنجد أنفسنا أمام مجتمع ضعيف أو متهالك على كل مستوى فكري أو علمي أو سياسي أو تنظيمي،وهنا ستبرز سلطة الدولة بوصفها الشيء الوحيد الذي يمتلك القدرة على الحركة والفعل، وإذا كان المفترض أن قوة المؤسسات وارتفاع كفاءتها يعطي للدولة قوة حقيقية ويضمن سلامتها واستمرارها فإن هذا ينطبق على الحالة الطبيعية عندما تكون الدولة جزءا من حركة المجتمع وتطوره، أما إذا كانت الدولة ترى في قوة المؤسسات تهديدا لها فإننا نصبح إزاء قوة مفارقة للمجتمع تتغذى عليه دون أن تعطيه شيئا، وتحاول قهر روحه واستلاب ماهيته.
يرى الكاتب أن المخرج من هذه التناقضات يكمن في ضرورة دمج الدولة في الجسم الاجتماعي الطبيعي بحيث تستمد وجودها من المجتمع وقوتها من قوة مؤسساته وتنظيماته ولا يصبح وجودها غريبا عن الجسم الاجتماعي ومعاديا له.
لكنه يختم بحثه وتأملاته بسؤال ترك لنا حرية أو عبء الإجابة عليه: كيف؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر: ضربة أصابت قاعدة عسكرية قرب أصفهان وسط إيران|#عاجل


.. القناة 12 الإسرائيلية: تقارير تفيد بأن إسرائيل أعلمت واشنطن




.. مشاهد تظهر اللحظات الأولى لقصف الاحتلال مخيم المغازي واستشها


.. ما دلالات الهجوم الذي استهدف أصفها وسط إيران؟




.. دراسة جديدة: اللحوم النباتية خطرة على الصحة