الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مريرتيات

عذري مازغ

2020 / 7 / 18
الادب والفن


مريرتيات (القصة واقعية وإن تلاعبت فيها بالزمان والمكان)
كان السيد "نون" عجيبا في كل شيء، سلوكه المرح، تلقائيته في الحركة والتعبير، تفتحه الكبير بشكل لم أرى منه في كل معرفتي به ان احتج يوما عن تعبير معين، تعبير خاطيء مثلا، يكفي أن تشرح له إلى ماذا ترمز بجملتك الخاصة ليشحنها هو بضحكته الصادقة وتعبيرات او تعليقات على القول تنم عن رحب مخيلته الواسعة المتفهمة، كان بحس ما يعقلن حتى أحاديث "الحاج الأحمق" الذي برع الإجماع المريرتي على أنه احمق، كان الحاج يمر بالمقهى ويفطر بابيات شعرية امازيغية جميلة وحكيمة كان قد حفظها من الموروث الجمعي او ربما بعضها من إنتاجه، كان يمر بالمقهى يطلب أحدا أن يفطره وكان هذا الاحد وخصوصا الذين يعرفون خاصيته يبادره بالقول: امتعني اولا ببيت شعري وسأدفع لك سيجارة او كأس بن ، وكان الحاج يلقيها بتلقائية، واحيانا بدون حتى شعر، بمجرد حوار ظريف ساذج كان يستحق منا كأس بن بالشكل الذي يريده وغالبا كان يريده بنا بالحليب بالحجم الكبير.
قبل مقهى السلام او مخبزة السلام، كانت المقهى الأولى بمريرت هي مقهى أكدال وكانت في ملك إحدى الأسر العريقة بمريرت، وكانت تتوسطها لوحة جميلة لامرأة ناعمة وجميلة تبدي عراء على جانب كبير لأحد نهديها الناعمين، لم تكن لوحة أصلية، لكن كانت لوحة ملهمة جدا برغم نقلها الفوتوغرافي، كانت مقهى أكدال بشكل ما مقهى النخبة من الموظفين ورجال التعليم وبعض الطلبة، وكان شكلها الطبقي هذا يوحي بلون خاص عند العامة من الناس، البعض كان يعتقد أن سعر خدماتها غالي جدا على الرغم من أن الأمر كان وهما طبقيا بسبب عينة زبنائها ومالكيها، كان سعر مشروباتها عاديا جدا ولم تكن قهوتها بالجودة العالية بل كانت نفس القهوة التي توزع بأغلب مقاهي مريرت.
كان السيد نون يستيقظ في نفس الوقت كل صباح، يلبس أي شيء يوجد في متناول يده وينتعل اي شيء أيضا في قدميه ولم يكن يهتم كثيرا بالمظاهر، يقوم بجولة عريضة في شارع محمد الخامس بمريرت يلتقي خلالها بأغلب الذين يعرفهم ويلتقط منهم الأخبار الجديدة بشكل إذا سألت عن حدث ما جديد تجد كل تفاصيله عنده وبالمصادر الموثوقة بفعل وعي الناس بعلاقته بالصحف المغربية وخصوصا اليسارية والوسطية (أقصد الجرائد التي كانت تتميز بنوع من الوثوقية وتنشر مقالات موضوعية بغض النظر عن موقعها الإيديولوجي)، بسبب هذه العلاقة كان الناس يقصدونه لنشر احداثهم لإثارة الرأي العام حولها وكانوا أيضا يقصدونه ليساعدهم في حل مشاكلهم خصوصا حين يتعلق الأمر بالصدام مع المخزن وكأنه رجل ذي نفوذ ما رغم أنه كان شخصا شريرا في أعين المخزن ورغم ذلك يجب أن نعترف أن للمخزن أيضا حساباته معه، بمعنى كانوا يحسبون له ألف حساب، ولتجنب الصدع مع الرأي العام في قضايا تظلم واضحة كان رجال السلطة بالخصوص يلجؤون لحل بعض المشاكل التي لا تثير إلا وجع الرأس والإحراج مع رؤسائهم في الداخلية. والحقيقة الأخرى انه رغم شهرته في الوسط الجمعي المريرتي لم يكن هو من ينشر الأخبار ولم يكن أيضا مراسلا صحفيا برغم أنه تلقى في أكثر من مرة من تلك الصحف أن يكون مراسلا لها بشكل رسمي، وأعتقد أن طبيعته التلقائية في الزمالة كانت تضعه على نفس المسافة من كل الصحف بشكل كان لا يريد أن يفسد تلقائيته الرحبة بالتورط مع جهة معينة كمراسل خاص بحيث ان ذلك يعني أوتوماتيكيا التخندق في جهة إيديولوجية معينة تمس بشكل حداثته الفكرية التي لا تعرف تحديدا معينا، ثم إن هذا التشيار (من الإشارة) كان معروفا حول المخزن بحيث يحدد عشوائيا مراسلي الصحف من خلال انتماء البعض لأحزاب تلك الصحف، فالأستاذ "ن" كان يحدد كمراسل الإتحاد الإشتراكي برغم ان لغته الأدبية لا تجعله يستطيع كتابة فقرو إنشائية فبالأحرى مقال، والسيد "ز" من تيغزة كان يحدد عند المخزن كمراسل جريدة "أنوال" فقط لكونه عضو في اللجنة المركزية للحزب الذي لسانه "أنوال" وهكذا. واذكر شخصيا أني كتبت ذات يوم على عجل مقال حول رئيس جماعة الحمام بعنوان: "رئيس جماعة الحمام أو الدغري الآخر" حول تصرف غريب لرئيس هذه الجماعة لتمرير الحساب الإداري في جماعة الحمام إذ أمام إسرار "المعارضة" في إجهاض التصويت بإرغام الرئيس على عدم الخروج إلا حين ينتهي الجدل الذي أثارته أرقام ذلك الحساب (كان التصويت يتم حسب القانون بخروج رئيس الجماعة من قاعة التصويت) فلجأ الرئيس إلى خدعة مستوحاة من مسلسل سوري بطله دريد لحام اسمه "الدغري" على ما أتذكر ، تعذر الرئيس بالضرورة القصوى لحاجة التبول، وبمجر أن ولج الباب خارجا رفع رفاق إئتلافه الأيادي تصويتا لتمرير الحساب الإداري، نشرت "أنوال" مقالي الصغير هذا في مربع أسود وبلغة ساخرة، وكان رئيس جماعة الحمام قد اقتطع المربع الأسود يحمله في جيبه حيثما رحل، وبالصدفة كان السيد "نون" رفقة رفيق له من ايام الجامعة من مدينة فاس على باب حانة (كنا نسميها نحن رفاق مريرت بشكل سوريالي ب"الكنيسة") بمدينة اخنيفرة، التقيا السيد الرئيس وأراد السيد "نون" ان يقدم الرئيس لصديقه الجامعي بالقول هذا فلان رئيس جماعة الحمام، فقاطعه الرئيس بالقول نعم هذا هو "الدغري الآخر" معاتبا "نون" في نشر المربع الأسود حوله، حتى رئيس جماعة الحمام كانت لدية تهمة جاهزة: "نون" هو من نشر الخبر! والحقيقة كان الامر تلقائيا أيضا، لقد كانت الجلسة عمومية وصادفت أن اهتم وحضر بها الكثير منا وكانت مصادفة وجود زائر صحفي من أنوال أن استغلنا الظرف لنشر كل غسيلنا السياسي والإجتماعي والجمعوي ووزعنا الأدوار في أن يكتب كل منا موضوعا معينا حول المنطقة...
في مقهى أكدال كنا ثلاث رفاق نشرب السجائر على جرعات كأس بن دفع ثمنه أحدنا، لا أتذكر من دفع، لكن كانت لنا عادات في المودة بيننا، إذا كان في الجيب شيء فنحن نصرفه حسب الحاجة، هناك من يتكلف بشراء سجائر وآخر كأس بن او براد شاي صغير، وآخر بشراء جريدة على الرغم من أن المقهى هذه كانت توفر جريدتين على الأقل مجانا وهما وسطيتين عموما: لا تجرح المخزن ولا تجرح المواطن. كان السيد نون يتكلم مع جماعة من مظهرها تنتسب إلى أدغال وغابات الأطلس المتوسط، كانوا من جيران القرود بدون شك، كان الحدث مؤلما بحق: اعتقل رجال "الدرك الملكي" شخصا بدون سبب لإجبار أخيه المتهم باغتصاب الغابة، والحقيقة أن الجاني هنا شخص غرمه أحد حراس الغابة بمبلغ لا تستطيع الأسرة كاملة دفعه ولو ببيع ممتلكاتها البئيسة، والحاصل في الأمر أن "الفوريستي" لأسباب شخصية حقدية غرمه للنيل منه لا أكثر، فصحيح أنه ضبط وهو يجمع الحطب، لكن كان حطبا يابسا لا يعاقب عليه القانون، وعليه كان "الجاني" يتهرب من دفع الغرامة الغير عادلة وهي غرامة صادقت عليها المحكمة الإبتدائية في غياب حضور المتهم، وكان طبيعيا أيضا أن يتصرف الدرك بأمر من المحكمة في تنفيذ حكمها ولو "على الرغم"..!:
"يجب إعتقال اي شخص من عائلة المتهم لإجباره على الحضور" برغم أن الامر غير قانوني (لكن لسلطة المخزن تخريجاتها في مجتمع ينتسب إلى مجاوري القرود بالأطلس المتوسط)، هكذا تصرف رجال الدرك في هذه المسألة مستغلين الأمية وغياب الوعي الحقوقي في البوادي الأطلسية الغابوية وتهميش الأمازيغية أساسا، فالناس تعرف تماما أن جمع الحطب اليابس لا يعاقب عليه والقانون هذا ليوطي أصلا لكن إيصال الدفوعات في المحكمة باللغة الفصحى الكلاسيكية العربية للقاضي أمر غير متمكن بشكل كان الناس يتهربون من المحكمة أصلا ثم وهنا وانا أتذكر الأمر جيدا وألعن في نفس الوقت هجرتي إلى إسبانيا التي أطلعتنا على الكثير من احكامها القضائية حيث السرقات في حدود 500 دولار لا يعاقب عليها بالسجن فما بالك بأعواد حطب يابس التقطه فلاح وضبطه "الفوريستي" (حارس الغابة)، إن المقارنة تشعرني بهذه الهوة التاريخية بين بلدين جارين يحكم فيها الجوار بتبادل الخبرات القضائية والتشريعات القانونية افتراضيا..
كان السيد "نون" ذلك الصباح قد زار مقر الدرك الملكي بشأن ملف خاص بالجمعية المغربية لحقوق الإنسان وصادف في قاعة الإنتظار والدة المتهم باغتصاب الغابة الاطلسية (للإشارة فقط، أكبر مغتصبي غابات دائرة مريرت هم الجماعات القروية بتأييد من المخزن، مع الجماعات لا نتكلم عن جمع الحطب بل نتكلم على حصاد كبير تستفيد منه مقاولات فاسدة أصلا تقطع الأخضر واليابس دون رحمة مقابل مشاريع تافهة، هذه الصفقات يأخذ منها عامل الإقليم حصة الأسد (ويقال أنهم هم أيضا يوزعونها بحسب تراتبيتهم السلمية) والقايد حصة الضبع والجماعة القروية حصة المتسول والمواطن بحسب الحطب الذي يجمعه يغرم لتعويض اختلاس كل هذه الأطراف المفترسة).
كانت والدة المتهم وهي امرأة هرمة قد نالت منها السنوات غير مبالية بالمخزن، وترى في اعتقال ابنها غير المتهم ظلما قاسيا، كانت في انتظارها تطلق شحناتها الغاضبة حول الظلم الذي نال ابنها بشكل أثار انتباه السيد "نون"، سألها ما مشكلتها فاخبرته بالإعتقال غير القانوني لابنها الذي اعتقل لمجرد كونه اخ ل"لمدان الحقيقي"، تدخل لها لدى عقيد السكنة،أخبره بأن اعتقال ابنها الثاني غير قانوني ويجب إطلاق صراحه فورا وأنه يتكلم باسم الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، أثار الأمر حفيظة الضابط وتصرف كالعادة، كما الحكومة المغربية حين تصلح الخطأ بالخطأ الفادح، بدأ يصرخ بان الجمعية تتدخل في "سياستهم الداخلية" وأمر بطرده، لكن السيد نون أصر على مصاحبة السيدة الهرمة، وقع شد وجذب وحدث ما يلي:
ــ هل تأمر باعتقال السيدة الهرمة كما اعتقلت ابنها غير المتهم؟
ــ نحن نعمل ما نريد، نحن المخزن في هذه البلاد، نحن لم نعتقلها
ــ إذن من حقي مصاحبتها، ليست لديكم قوة قانونية لإبقائها، وانا سأنشر تقريرا على الموضوع، رد السيد "نون"
في حمى هذا الجدل، توصل قائد الدرك الملكي بمكالمة هاتفية من قائده بخنيفرة، واعتقد أنه أخبره أن كل ما فعلوه بالأسرة جارة القردة غير قانوني بشكل ترك المرأة الهرمة تخرج صحبة السيد "نون"
في مقهى أكدال كنا ثلاثة نتناوب بشكل رومنسي نشوة "الكافين" على الكأس الوحيدة فوق المائدة، أمر اسيد "نون" شخصا رابعا من سكان جيرانة القردة بالجلوس معنا في انتظار أن ينهي أحاديثه مع عائلة المرأة الهرمة، كانوا واقفون في الخلفية الأمامية للمقهى بينما قريبهم البدوي معنا في المائدة داخل المقهى، امرناه ب"الشفتتة" (من الشفتين) بكأس البن، يعني أن يتنسم من الكأس وليس أن يأتي على آخره وهو ماحصل بالفعل، سألني السيد "د": مالذي وقع في الكأس؟
أجبته: طاف عليها طائف من ربك وهو نائم
رد: هذا مخل بقاعدة قيم الرفاقية بيننا
قلت له بان الطائف بدوي له قيم طبيعية وليس أخلاقية: أمرناه أن يشاركنا الكأس ولأننا نبقي الكأس يافعة فهي عنده أمر غير طبيعي، البن هو للشرب وليس للتنسم والتنغم.
فيما نحن نتحدث عن الكأس حدث شيء لم يكن بالحسبان، في المائدة المقابلة جلس السيد "نون" والمرأة الهرمة مع دركيين بلباس جلباب سيفيلي (أقصد بلباس مدني) كانوا يتناقشون حول صلح مدني بأمر من عقيدهم في المخفر: اخيرا ستنتصر المراة الهرمة على كل قشلة الدرك الملكي، سيتفقون على إطلاق صراح أخ "المتهم الحقيقي" مقابل عدم كتابة تقرير صحفي حول اعتقال غير قانوني








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل


.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج




.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما