الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية السوري خليل الرز -الحي الروسي- صاعداً بواقعية سحرية إلى سماء الثورة وجحيم النظام

المثنى الشيخ عطية
شاعر وروائي

(Almothanna Alchekh Atiah)

2020 / 7 / 19
الادب والفن


في روايته الفريدة حقاً تحت عنوان "الحيّ الروسي"، لا يقع الروائي السوري خليل الرزّ في فخاخ الخوف، وما يولّده من تلاعبٍ يحتمل التورّط في إخفاء أو تزييف الحقائق، تحت وهم التورية والمجاز والحلول الفنية، بالشكل الذي لا يحتملُه ولا يتناغم معه موضوع العمل؛ مثلما حدث في أعمال بعض الكتّاب الذين يعيشون داخل سوريا، وعالجوا مسائل الثورة السورية بتعقيداتها، تحت ظلّ الخوف الذي أوقع هذه الأعمال في الإخفاق.
ويستعمل خليل الرزّ في تجنّب هذه الفخاخ الخوفَ نفسه، وفق فلسفته التي يوضّحها في روايته عنه، كدافعٍ أيضاً لاستنهاض الشجاعة وكسر الحياد وللإبداع، إلى جانب ما يولّده من جبنٍ وخذلان للآخرين، ومشاعرِ خزيٍ تُوَلّد الإحساس بالضآلة واحتقار النفس.
وينجح الرزّ في ذلك بتألقٍ من خلال خلقِ تناغمٍ مبدع بين موضوعه والشكل الفني الذي يستوعبه بمرونة مبهرة.
في "الحيّ الروسي"، يتجلّى موضوع الرواية بالناس، والتظاهر، في حيّ دمشقيّ فرضتْ عليه طبيعة تكوّنه وطبيعة الناس فيه "الحياد". وينفرد الحياد بكل تفاصيله في هذا الموضوع ليشغل في الجوهر مكانة المحور في الرواية.
على إيقاع أصوات المدافع الثقيلة والراجمات والصواريخ التي تقذفها الطائرات، والبراميل المتفجّرة التي ترميها على الجيران المحاذين له في الغوطة، يعيش الحيّ الروسي وأهاليه، حالة هرب من سماع الأصوات إلى عيشها في التلفزيونات دون صوت، ومن رائحة البارود المختلط باللحم المشوي، والبلاستيك الذي يحار معلّم اللغة الروسية في المركز الثقافي الروسي بدمشق من أين تأتي رائحته، حيث: "رشف أركادي كوزميتش رشفة قصيرة أخرى من فنجانه وفكّر بالبلاستيك. من أين جاء البلاسيك؟ خطرت بباله الأحذية البلاستيكية الرخيصة، ومعمل، ربما ينتجها الآن هناك في الغوطة تحت الطائرات مباشرةً"، وحيث: "إن البارود مفهوم حتماً ودائماً في مثل هذه الأحوال، وكذلك الشواء لا غبار عليه هنا، أما البلاستيك، الذي حيّر أركادي كوزميتش قبل قليل، فلا يمكن أن تخلو منه المدارس في كل مكان ـــ شنطات التلاميذ، المماحي، المساطر، البرّايات، الأقلام الناشفة، شكّالات الشعر في رؤوس التلميذات، الأساور حول معاصمهنّ، الخواتم الملوّنة حول أصابعهنّ، أزرار صداريهنّ وقمصانهنّ، ياقاتهنّ المدرسية المخرّمة البيضاء....".
كما يعيش أهالي الحيّ الروسي حالة إنكارِ أنّ لهم ناقةً أو جملاً في ذلك، رغم صناديق الجثث التي يعود فيها شبابُهم الذين لم يستطيعوا الفرار من تجنيد النظام الإجباري لهم للقتال ضد جيرانهم في الغوطة، وفي المدن والبلدات المحررة التي خرجت على النظام. ورغم عودة بعض هؤلاء الشباب صوراً لجثث تعرضها التلفزيونات ويتعرّف عليها أهالوها، مثل صورة ابن الحاجّة سعاد التي ذهب عقلها وعاشت حالة إنكار نفسي مريعة بعد رؤيتها لابنها الذي ذهب إلى محلّه صباحاً في العاصمة واختفى ليظهر: "بعد سنة وشهرين في التلفزيون عارياً ومرقماً على جبينه ومغمضاً عينيه وفاتحاً فمه في معرض جرى بباريس لصور مسربة لضحايا قضوا تحت التعذيب"، في إشارة لصور قيصر.
وفي كل ذلك، يعيش الحيّ الروسي تحت هيمنة المافيات المرتبطة مصالح وخدماتٍ مع النظام الذي يسيطر على الأهالي بهذه الأدوات، وتمثّل هذه المافيات شخصيّةُ بوريا الذي يتاجر بكل ما هو حرام، ويفرض الخوّات على الجميع تحت الخداع المكشوف لأعماله الخيرية، كما يعيش الحيّ صراع ظلمه مع هذه المافيات متعلّقاً ببطله عصام، الشاب الرياضي وحامل وسام الجمهورية، الوحيد الذي وقف بشجاعة في وجه بوريا.
وتتطور أحداث الحيّ وشخصياته مع ذهاب عصام إلى الغوطة للانضمام إلى الثورة، وعودته بعد ليلةٍ واحدةٍ فقط، وكأنهم كانوا بانتظاره، جثةً أرسلها صديق الراوي من الغوطة، ليتّضح بعدها أنه حوكم مباشرةً من الهيئة الشرعية في الغوطة وأعدمتْه الفصائل الإسلامية المسلّحة التي تسيطر عليها، بتهمة الكفر والزّنا لعيشه مع فتاة مغربية دون زواج؛ كما فعلت هذه الفصائل حقيقةً، خارج الرواية، باختطافها من "مكتب توثيق الانتهاكات في سوريا"، نشطاءَ الثورة السورية الديمقراطيين الأربعة: رزان زيتونة، سميرة الخليل، وائل حمادة، وناظم حمادي، في دوما، دون أن يعرف أحدٌ مع أيّ شيطان كانت تتواطأ هذه الفصائل.
وتصلُ الأحداث والشخصيات إلى نقطة التحوّل بقرار أهالي الحي ّإقامة جنازة لبطلهم الشهيد رغم ما في ذلك من خطورةِ تدمير النظام للحيّ فوق رؤوس أهله، كما يفعل مع المظاهرات إن قاموا بذلك.
وفي "الحيّ الروسي"، يعالج الرز فنياً هذا الموضوع ببنية روائية فريدة، تتكون في الظاهر من ثلاثة فصول، أولها: الزرافة، ويندرج تحته أربعة عناوين: الزرافة وأنا، الزرافة ونونا، الزرافة والتلفزيون، الزرافة وأمي. وثانيها: عصام، ويندرج تحته خمسة عناوين هي: حكاية عصام، عصفور نونا، في الصباح، في المساء. عصام في الغوطة. وثالثها: الحيّ الروسي، ويندرج تحته
أربعة عناوين هي: مرسال صالح، بوريا، الطائرات، الزرافة.
وتندرج تحت عناوين الفصول الثلاثة فصول ثانوية مرقمة باللاتينية، ومختلفة العدد في كل فصل، بما يشير إلى قيادة النص لنفسه وفق تدفق طليقٍ للسّرد لا يلتزم سوى بما ينتج عنه، بالتناغم مع خطة الكاتب العامة التي وضعها وعاشت تغيّراتها الإبداعية كذلك وفقاً لتطور الأحداث والشخصيات في الرواية.
وداخل هذه البنية الظاهرة تتحرك البنية العميقة، بغنىً في التفاصيل قد يثير الخداع بأنه إطالة لا مبرّر لها في بعض جوانبه، غير أنه يكشف مع جريان الرواية عن لزومه، فيما عدا بعض المواضع التي لا تسيء عموماً إلى النص المتدفّق. ويكتشف القارئ في تفاصيل هذا الغنى جهود الكاتب في سبر العمق السيكولوجي لحركة الجموع وحركة الفرد ضمن هذه الحركة، مثلما يحدث كمثال في موقف رشيدة، خليلة عصام، من حاجة الجموع لصنع بطلها، الذي هو ضحيّتها كذلك، إذ هو ملزَم بالتضحية من أجلها، كي تشجّع نفسها، وتثبّت قيمَها، وتنقلها لأجيالها عبر التضحية، وهو ما يرضي الجموع من دون وعيٍ بذلك، لكنّه يفجعُ الحبيبةَ إذ ينتزع منها بطلها كذلك.
كما يكتشف القارئ، بوعي أو بغير وعي، كشف الكاتب لتفاعل الشعوب وتعاطفها مع بعضها خارج وضد أفعال أنظمتها، حيث تتخلّل الرواية شخصيات روسيةٌ لا تخرج في جنازة عصام والمظاهرة بعدها خلف الزرافة تحت رشّاشات النظام المصوّبة عليها من الطائرات والدبابات فحسب، بل يحمّل الكاتب أكثر من ذلك شخصية حبيبة الراوي الروسية نونا، المساهمة في إشاعة روح الحرية الممثلة بعصفورها الذي نسجته دثاراً، يجدُ مبررات نسجه على هذه الصورة، في تغطيتها به، جثمانَ عصام الخارج عن طوع النظام إلى الثورة. كما يحمّلها كأنثى عارفة بروح الرجولة الحقة، استنكارها الدفين لجبن حبيبها في المظاهرة، وابتعادها عنه. وفي العمق الفنّي يقيم خليل الرزّ الصلة بأسلوب سرده الواضح في الرواية، بين الأدب الروسي الذي عاشته الشعوب مع تورغينيف وأنطون تشيخوف وبوشكين ونيكولاي غوغول، وغيرهم من الكتاب الروس وكتاب الاتحاد السوفييتي الآفل، وبين "ألف ليلة وليلة" التي تتجلّى ببراعة خفيّة، ولا شرط بقصد أو دونه من الكاتب، في رحلة بحث الكلبة رئيسة بتروفنا عن صديقها الكلب العجوز موستاش، ويمرّر الكاتب من خلال رحلة الليلة هذه، شخصيات روايته، كلاً بقصته واحداً بعد الآخر، ليجمعهم في النهاية على سطح غرفة الراوي في حديقة الحيوان، ويكملُ جمعهم بقدوم عصام الذي يأتي بالكلب موستاش، المختفي لغاية ذلك، حيث تحدث التحولات النوعيّة في الأحداث والشخصيات.
ولا ينسى خليل الرز في توليفته الفانتازية السوريالية (المكونة من تفاعل شخصياته مع كائنات حديقة الحيوان وأهمها الزرافة التي لا يضع اسماً لها، والكلبة والكلب)، إكمال هذه التوليفة بإضفاء سحر أسلوب الواقعية السحرية على السّرد المتدفق، ليقدّم رواية متفرّدة مخلصة للأصول التي استقت منها سردها، ومتحرّرة في ذات الوقت من هذه الأصول إلى توليفتها الخاصة بها.
وفي هذه البنية العميقة يعيش القارئ متعة تداخل وتفاعل الشخصيات مع الثقافات التي ساهمت في التأثير على طبائعها، مثل التداخل بين شخصية الممثل المسرحي عبد الجليل حجازي وشخصية نابوليون في فيلم "واترلو" داخل السينما التي تحولت إلى ملجأ ينام فيه الهاربون من المناطق المنكوبة إلى سلام الصالة التي تعرض الفيلم.
ويعيش القارئ في كل ذلك، بوعي أو بدونه، متعةَ التعاطف الإنساني المتولّد عن علاقة الإنسان العميقة بالحيوان، وبالأخص الزرافة والكلاب التي يحبها الأطفال، كما يعيش متعةَ حلم تحوّل الحيّ الروسي من الحياد إلى كسر الحياد، ولو على صعيد الحكاية التي تعكس وتجسّد الرغبات، في ذات الوقت الذي يعيش فيه متعة تحوّل شخصية الراوي من مترجمٍ يسرد بحيادية تقريباً، إلى شخصيةٍ تعيش ألَمها من جُبنها، وخزيَها من اصطناع العرج في المظاهرة التي سارت خلف الزرافة القائدة العمياء عن الرصاص إلى ساحة الأمويين، بدلاً من فتح حنجرتها، وشبك ساعديها مع الأكتاف المحلّقة كما النسور، مثلما كان يحدث في المظاهرات السلميّة السورية.
وفي "الحي الروسي"، حيث تتكشّف عوالم إبداع طليق وجريء، في الرواية التي استحقت تقديرها في القائمة القصيرة لجائزة البوكر، لا يسع القارئ سوى الدمع الحار، من إيجاد نونا مبرّر نسجها دثار عصفورها الذي غطت به جثمان بطل الحيّ.
خليل الرز: ""الحي الروسي"
منشورات ضفاف بيروت، ومنشورات والجزائر 2019
286 صفحة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال


.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة




.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة