الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
وهم الاسطورة السياسية
سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر
(Oujjani Said)
2020 / 7 / 23
مواضيع وابحاث سياسية
نقصد بالأسطورة السياسية ، ليس المثالية اليونانية في الحكم السياسي ، او ما يعرف بالمدينة الفاضلة ، لأنها لم تكن فاضلة ، لان كان بها العبيد الذي يخدمون المشتغلون بالسياسة والفلسفة ، لكننا سنعالج الأسطورة السياسية كفاعل تاريخي هلامي ، وهو التاريخ المسكين الذي لم يكن ابدا اسطورة ، لكن حمّلوه ما لا يحتمل ، وبَرْدعُوهُ ببَرَدعة الحمار ليُحمّلوه العجائب والغرائب التي ما اتى بها زمان ، ولا نظرتها عين سلطان ..
للأسف وفي عالمنا الاّمعاصر ، تحالف الجميع على التأريخ الذي البسوه لباس الأسطورة وما هو بأسطورة ، فنسبوا له الاطنان من الصفات الأسطورية والخيالية التي شكلت ضمير الامة . فكم نسبوا اليه من صفات ، وكم اسندوا اليه من فواعل ، وكم اطلقوا عليه من نعوت ، فهو تارة التاريخ البطولي ، وتارة التاريخ الدموي ، وتارة يفسر تفسيرا عقلانيا قوامه سير منتظم خاضع لإيقاع العقل والمنطق ، ويرقص فيه رقصة ثلاثية على إيقاع الجدل الهيگلي ، وتارة يفسر كما عندنا في مغربنا الأمين ، تفسيرا بوليسيا باعتباره سجل الصراعات ، والخلافات ، والمكائد ، وهنا اسألوا دهاقنة الدولة البوليسية كيف يطبخون المحاضر ، وكيف يفسرونها بوليسيا لكي تسود فقط النظرة ، والفهم البوليسي المدان ، وتارة ينظر اليه ودائما الى التاريخ باعتباره خطاً متصاعدا في الزمن ، وتارة باعتباره دورة تعود على ذاتها الى الابد في خط دائري ، وأخرى باعتباره مسيرة لولبية متصاعدة ، او مسارا يتقدم الى الامام نحو فردوس موعود ، او إنثناء الى الوراء نحو عصر ذهبي مفقود ، وكثيرا ما يتحول التاريخ الى قاض كبير ، ومعيار مرجعي ضخم تقاس اليه الاحداث والوقائع : سيقول التاريخ كلمته الفاصلة ... سيسجل التاريخ انّ ... التاريخ لا يرحم ..
يعتبر البعض ان التاريخ البشري هو من تدبير العناية الإلاهية ، وينبرون للرد على من يعترض على هذه الفكرة بالقول ، ان ذلك يعني نسبة الظلم ، والصراع ، والقتل ، والتقتيل ، والشرور التي يزخر بها تاريخ البشر ، الى غير الانسان الذي هو مسؤول عنها .
ويرى الرفاق من جمهوريين ، وبلانكيين ، وحتى اناركيين فتنويين ، ان التاريخ يصنعه الافراد اللدنيون ، أي الكارزميون ، والابطال المتميزون الذين تسخرهم العناية الإلاهية العلوية ، او الذين تصهرهم وتهيؤهم الظروف لصناعة الجديد ، وتحقيق التقدم ، والانتقال المفصلي بالتاريخ من مرحلة الى أخرى ..
واذا كان البعض يسمي هؤلاء دكتاتوريين ، فان آخرين يعتبرونهم مستبدين وطغاة عادلين Le tyran éclairer ، بينما يعتبرهم آخرون كارزميين ملهمين ، لكن هؤلاء جميعا ، مهما اختلفت التفسيرات والتسميات ، غالبا ما ينصبون انفسهم بمثابة قديسين تاريخيين ، على أساس انهم حققوا وحدة ، او جلبوا انتصارا حربيا ، او انجزوا إصلاحات اجتماعية ، بينما تضفي عليهم الجماعة طابعا اسطوريا ، وتنسب اليهم ما لذ وراق من الخوارق ، وتهتدي بهديهم ، وتتبرك برؤيتهم ، والتملي بطلعتهم .. الميمونة ..
وهنا ، وبينما يقول آخرون ان التاريخ لا يصنعه الافراد ، بل تصنعه الشعوب ، والجماهير ، والطبقات .. واذا كان هناك افراد متميزون ، فان الشعوب هي التي انتجتهم ، واوكلت اليهم مهمة انجاز بعض المهام التاريخية الكبرى ، فروح الشعب هي التي تسكن هؤلاء ، وتسخرهم بشكل غير واع نحو تحقيق أهدافها ، وكل تاريخ لا تصنعه الشعوب ، هو تاريخ معرض للانتكاسة والانتكاص ، لان الشعوب هي المحرك الوحيد للتاريخ ، وذاته الفاعلة بلا منازع .
ويأتي آخرون ليقولوا ، انّ الاقتصاد هو مفتاح التاريخ الذهبي ، وان الصراع الاقتصادي بين الطبقات ، والفئات ، والنخب ، من اجل حيازة الخيرات ، وتحقيق المصالح ، هو " قابلة " التاريخ التي تولد مرحلة من بطن مرحلة تاريخية أخرى ، والتاريخ عند هؤلاء لا تحركه الأفكار ، والايديولوجيات ، والمُثل ، والطوبى ، بل تحركه الصراعات الدموية من اجل المصالح ، والمكاسب الاقتصادية ، والسياسية ، والرمزية ، وبالتالي فالتاريخ الذي لا تسيل فيه دماء ، ليس تاريخا ، لأنه مجرد مرحلة " بكر " .
لكن هناك اتجاها آخرا يعتبر ان الآلة لا البشر ، هي صانعة التاريخ ، إذ ان التاريخ لم يتقدم من مرحلة الى أخرى ، الاّ بالمعرفة التقنية التي تقود الى صناعة الآلات والتقنيات ، فالعبيد لم تحررهم الأفكار، بل حررتهم الآلة التي حلت محلهم ، والرأسمالية لم تتقدم الاّ مع التطور التقني ، وإنتاج الآلات التي مكنت من الإنتاج الموسع الموجه الى السوق ، ولم تتحول الى نظام عالمي يعتبر العالم كله مجرد سوق لتصريف منتجاته الاّ بفضل اختراع المدفع ، والبارود ، والبوصلة ، والسفن الضخمة ... بل ان الاستعمار نفسه ليس الاّ وجها للتقنية التي انطلقت من عقالها ، ومكنت المتحكمين فيها من غزو الامصار البعيدة واحتلالها بالحديد والنار ... والشيء نفسه يقال عن الامبريالية اليوم التي هي التوجه التقني الحديث للاستعمار ، وذلك من حيث كونها احتلالا عن بُعد لكل بقاع العالم ، وتحويلها الى أسواق وولايات تابعة لها ، لان بالإمكان مراقبة حركة أدنى نملة فيها عبر الأقمار الاصطناعية ، ومن ثمة ردع ادنى تمرد تقوم به . فعصر الامبريالية اذن هو عصر المواصلات والتواصل الآلي السريع ، انها كمرحلة تاريخية عليا مجرد نتاج للتقنية ، والآلات ، والتكنولوجية الدقيقة والعالية التطور ..
واليوم تزدهر تفسيرات طريفة أخرى للتاريخ ، قوامها انه سليل الوهم والاسطورة ، فليس هناك اليوم امة لم تُكوّن صورة اسطورية عن نفسها وعن الآخرين ، صورة اسطورية عن واقعها وحاضرها ، عن ماضيها ومستقبلها ، بل ان الأسطورة ، و الضبط الأسطورة السياسية المتمثلة في طغيان معتقد جماعي ، أضيفت عليه كل سيماء القداسة ، بغية الهاب النفوس ، ولحم نسيج الجماعة ، تكاد تلعب اليوم بالامتياز دور الفاعل التاريخي الرقم واحد .
واذا كانت الأسطورة في مضمونها وادائيتها الانتربولوجية ، تفسيرا ميثولوجيا للعالم بالنسبة للمجتمعات البدائية ، ونظريتها المعرفية الخاصة ، ومخزونها الأخلاقي ومرشدها الأيديولوجي من حيث انها تتحدث دوما عن العصور الأولى ، عصور التأسيس والتدشين ، وتضفي معناً إضافيا ( فائض معنى ) على الاحداث والوقائع والرموز ، فان الأسطورة السياسية المعاصرة ، تماثل في وظيفتها ، ومبناها مثيلتها البدائية ، وتتجاوزها بكثير لتشير أولا الى بعض اساطير التأسيس والتدشين ، التي تُكوّن اليوم العنصر الأساسي في الهوية السياسية ، بل الثقافية لكثير من البلدان .. فقد كتب احد الدارسين بحصافة عن الاساطير المؤسسة للولايات المتحدة الامريكية ، حيث يورد ان الوعي السياسي الأمريكي المعاصر ، يقف على هذه الأرضية من الاساطير السياسية التي نشأت في أمريكا في نهاية القرن الثامن عشر : اسطورة الامة الكونية ، واسطورة الأرض الملجأ ، وأورشليم الجديدة ، واسطورة الوفرة الخالدة ، والنجاح الفردي للجميع ، اضف اليها اساطير الحرية ( ما الفرق بين تمثال الحرية واي نصب طوطمي في المجتمع البدائي ) ، والعدالة والحق ، والآن حقوق الانسان والمشروعية الدولية ... لخ
الأيديولوجية السياسية الامريكية المعاصرة ، تمد جذورها البعيدة في اساطير النشأة خلال حرب التحرير، وبطولاتها ، وميثولوجيتها .
والاسطورة السياسية للاتحاد السوفياتي السابق ، كانت تجد أساسها المرجعي في الحدث المؤسس الأول : الثورة الروسية في سنة 1917 ، حيث تم إضفاء طابع قدسي وسحري ، على الكثير من الاحداث ، والأشخاص ، والرموز ، وتحولت هذه الفترة الى فترة مرجعية مسندة للمعنى ، ومضيفة للدلالة على كل كبيرة وصغيرة في الشأن السوفياتي لِمَا قارب الثمانين سنة ..
والايدلوجية السياسية لفرنسا ، بلد الديكارتية ، والعقلانية ، والمنهج ، والوضوح ، تقوم بدورها على نوع من العودة المرجعية الدائمة ، الى ذلك الحدث المؤسس الذي هو بمثابة ذلك البيغ بانغ ، او الحدث الكوني الذي يؤكد ما قبله : الثورة الفرنسية في سنة 1789 ، وعلى وجه العموم ، فان لكل دولة ، او ثقافة ، حدثها المرجعي المؤسس الذي هو بمثابة " اسطورة أمٍّ " يفسر كل شيء ، ويحرك كل شيء ، وعلى رأس ذلك التاريخ نفسه ..
وقد أشار مرسيليا إلياد الى البنية الأسطورية للحركات السياسية المعاصرة ، وإنْ كان كأسيرر ، هو اول من تحدث عن " فن الاساطير السياسية الحديثة " ، لكن إلياد فصل التفصيل والتشريح ، فهو يلامس الوجه الأسطوري في النظرية الماركسية حول الثورة والمجتمع المتحرر ...لخ ، وكارل ماكس انما طور ومدد اساطير الخلاص الكبرى السائدة في العالم الاسيوي المتوسطي ، المتعلقة بدور الرجل الصالح المخلص ، وهو البروليتاري او البروليتارية ذاتها ، كما ان فكرة المجتمع الخالي من الطبقات ، تعكس الى درجة كبيرة اسطورة العصر الذهبي الذي يقوم امامنا . بينما يأخذ الصراع الطبقي ، صورة صراع بين الخير والشر الذي يمكن مقارنته ، بالصراع بين المسيح والدجال . والصراع بين البرجوازية والبروليتارية هي صورة أخرى للصراع بين الشيطان والملاك . وفي اطار هذا التصور المانوي الثنائي للعالم ، تحل الرأسمالية محل القدر بخيره وشره ، ويصبح الاستغلال بمثابة الخطيئة الأولى ، وتأخذ الثورة سمة البعث والنشور ، والمجتمع الطبقي صورة الفردوس المفقود الموعود ..
ودون الاستطراد في ايراد الطابع الأسطوري للسياسة والايديولوجيا الحديثين ، فان ما يهمنا هو مكان ومكانة الأسطورة ، كشكل من الوعي الكوني المرتبط بالمتخيل والوهم ، في تشكيل الوعي السياسي للجماعات السياسية ، وبالأخص دورها في تحريك التاريخ الراكض . فهذا التأويل الذي نود الوقوف عليه يبرز عنصرا جديدا فاعلا في التاريخ تنشر بالتدريج مؤشراته ومحدداته ، ذلك ان المعتقدات السياسية الجماعية التي تدعم اليوم سياسات بأكملها ، وتؤطر اشكال الوعي السياسي في اكثر من بلد ، تتحول اليوم بالتدريج ، الى عنصر دينامي فاعل في التاريخ ، ينضاف الى العناصر التي تمت مراكمتها لتفسير التاريخ ، إما بالفكر ، او بالاقتصاد ، او بالدين ، او بالتقنية ، او بالفن ، او بالسيكولوجيا .... لخ . لكن الجديد في هذا المنظور الذي يفسر التاريخ انطلاقا من فعل الأسطورة السياسية الحافزة ، هو ادخال الوهم والاستيهام كعناصر فاعلة في التاريخ .
ومن المؤكد ان اقحام عنصر الوهم كدينامو للتاريخ ، سيدفع الى مراجعة التصور العقلاني المرح للتاريخ ، باعتباره عصارة العقل والمنطق ، وباعتباره مسارا متناسقا ، تتسلسل فيه الأسباب والنتائج ، تسلسلا جميلا ومعقولا . بل ان اقحام هذا العنصر ، قد يقود الى اعتبار التفسير العقلاني للتاريخ ، مجرد اسطورة جميلة تتطلب المراجعة والتعديل ..
لكن المفارقة الفاضحة في هذا التأويل ، هي اصطدامه بصورة شائعة عن تقدم الإنسانية ، قوامها ان الإنسانية تتجه بالتدريج ، نحو الفترة الوضعية ( أگست كونت ) التي تنتفي فيها الأسطورة ، ويحل فيها التقدم والعقل ، بكل شفافية ، مكان الأسطورة .
فهل معنى ذلك ان الإنسانية " تتقدم " ، او هو استعادة استدماجية ومجازية له ؟ ام ماذا ؟
وهل نعتبر ان تطوير التفسير الأسطوري للتاريخ ، ولدور الأسطورة ( العصرية ) في الفعل التاريخي ، هو مجرد توسيع لمعنى العقل والعقلانية ، لتشمل نفاياتها ونقائضها ؟
هذه أسئلة سيتكفل التاريخ دون شك بالإجابة عنها ..
التاريخ لا يرحم .. التاريخ سيقول كلمته الفاصلة .. التاريخ يسجل .. الى مزبلة التاريخ ... لكن هل للتاريخ مزبلته ..
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مليار شخص ينتخبون.. معجزة تنظيمية في الهند | المسائية
.. عبد اللهيان: إيران سترد على الفور وبأقصى مستوى إذا تصرفت إسر
.. وزير الخارجية المصري: نرفض تهجير الفلسطينيين من أراضيهم | #ع
.. مدير الاستخبارات الأميركية: أوكرانيا قد تضطر للاستسلام أمام
.. وكالة الأنباء الفلسطينية: مقتل 6 فلسطينيين في مخيم نور شمس ب