الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دراسة فنية لمسلة النصر العائدة للملك الأكدي نرام سين

حامد خيري الحيدر

2020 / 7 / 24
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يُعتبر عصر الإمبراطورية الأكدية 2371_2230ق.م عصر تحولات جذرية في المجتمع الرافديني، حيث تغيّرت وتبدلت خلاله الكثير من المفاهيم التي كانت سائدة في الفترة السابقة المُتمثلة بعصر دويلات المدن السومرية 3000_2371ق.م، أملتها التحولات السياسية والتطورات الفكرية التي أحاطت المجتمع الرافديني وكيانه الاجتماعي والثقافي والديني، وذلك بعد توحيد البلاد لأول مرة تحت نفوذ سلطة سياسية مركزية واحدة. ومن ضمن تلك المفاهيم الجديدة ما طرأ على الأساليب والمدارس الفنية، حيث حدثت ثورة كبرى في تفاصيلها وتوجهاتها، سواءً في النحت بنوعيه المدور والبارز أو العمارة أو النقش على الأختام الاسطوانية، أو باقي الفنون الأخرى. وفيما يخص فن النحت فقد سادت الأساليب الطبيعية التي تتميّز بقوة التعبير والحركة، والتركيز على ابراز تفاصيل الجسم البشري بشكل طبيعي متناسق يختلف عن التصوير التجريدي الذي كان مُتبعاً تنفيذه في العصور السومرية السابقة.
وأحد أهم القطع الفنية التي تُشير بشكل واضح الى ظهور هذه المدرسة الفنية الجديدة، وتُعد أعظم عمل فني ناضج يُعبّر عن الروح الفنية الأكدية تعبيراً تاماً، مما جعلها أحد أهم الأعمال الفنية المتأتية من منطقة الشرق الأدنى القديم، هي المسلة الكبيرة التي عرفت لدى الباحثين باسم "مسلة النصر"، التي تعود الى الملك الأكدي الرابع "نرام سين" 2291_2255ق.م، والتي بلغ فيها النحت الأكدي البارز ذروته في الأبداع والتعبير، حيث تصور وتُخلد قصة الانتصار العسكري لهذا الملك على قبائل "اللولبو" الجبلية، التي تقطن المناطق الشمالية الشرقية لوادي الرافدين المتاخمة للهضبة الايرانية، والتي كانت مصدر تهديد دائم لمدن الإمبراطورية الأكدية والأراضي الخاضعة لسيطرتها، وكذلك لطرق المواصلات المارة عبر هذه المناطق والتي تربط بين أقاليم الشمال والجنوب، مما دعا "نرام سين" لشن حملة عسكرية كبيرة على هذه القبائل للقضاء عليها والخلاص من تهديدها، ثم ليخلد قصة انتصاره الكبير في هذا العمل الفني المُميز، الذي وضعه في معبد الإله "شَمَش" الكائن في مدينة "سبّار" التي تقع جنوب العاصمة العراقية بغداد بنحو ثلاثين كيلومتراً وتُعرف اطلالها بـ"تلول أبو حبة".
عثر على هذه المسلة المعروضة حالياً في متحف اللوفر في العاصمة الفرنسية باريس، عالم الآثار الفرنسي "جاك دي موركَان" خلال تنقيباته التي امتدت للفترة 1897_1911 في أطلال العاصمة العيلامية "سوسة" أو كما تعرف بالعيلامية القديمة "سوسيانة" أو "شوشيانة". وقد يُستغرب القارئ عن سبب العثور على هذه المسلة الرافدينية في عاصمة عيلام وليس في إحدى مدن وادي الرافدين، والسبب في ذلك أن هذه المسلة كان قد تم سلبها من قبل العيلاميين بقيادة ملكهم "شتوروك ناخونتي" عام 1168ق.م، عند استباحتهم المدن الرافدينة ومن ضمنها "سبّار" بعد أسقاطهم السلالة "الكشيّة" واحتلالهم أرض بابل، حيث أنهم سرقوا خلال حملتهم تلك العديد من القطع الفنية والتاريخية التي كان لها رمزية كبيرة لدى شعب الرافدين، كان من ضمنها أيضاً مسلة القوانين الشهيرة التي شَرّعها الملك البابلي الشهير حمورابي 1792_1750ق.م، والمعروضة هي كذلك في متحف اللوفر.
المسلة مثلثة الشكل تقريباً، نحتت على لوح كبير من الحجر الرملي المائل الى اللون الأحمر، سمكها لا يتعدى الخمسة وعشرين سنتيمتراً، أما ارتفاعها فيقارب المترين وعرضها عند القاعدة بحدود متر واحد، كانت قد تعرضت أجزائها العلوية وكذلك السفلى الى تخريب مُتعمد، في الغالب من قبل الغزاة العيلاميين، صور عليها الفنان بنحت بارز تفاصيل تلك الواقعة العسكرية بأسلوب سردي بانورامي متسلسل، أتبع في تنفيذه أسلوباً جديداً غير معروف سابقاً، ألا وهو التفاوت في مستويات الحفر، من الغائر الى المتوسط الى الخفيف، من أجل التلاعب بمقدار الضوء الساقط على المنحوتة، وبالتالي احداث تنوع في شكل الظلال المتكونة عليها، مُحدثاً بذلك جمالية كبيرة عند النظر اليها من زوايا واتجاهات مختلفة.
يظهر في اللوحة الملك "نرام سين" بحجم أكبر من باقي الشخوص، ليغدو بؤرة ومركز التكوين الفني للوحة البانورامية، وهي حالة مألوفة ظهرت سابقاً في المنحوتات والمُنمنمات السومرية، حيث يظهر الشخص الرئيسي في اللوحة الفنية بشكل أكبر، من أجل ابراز شخصيته ودوره المحوري ضمن موضوعها، وأيضاً لإظهار اهميته قياساً الى باقي الشخوص الآخرين الموجودين فيها، إذ صوّر الملك بحجمه المُميّز وهو يرتقي الجبل حاملاً القوس والسهم، متقدماً جنوده في المعركة بخطى حثيثة تدوس على جثث أعدائه "اللولوبيين"، كما تم تصوير الملك وهو يصعد الجبل بشكل وهيئة مَهيبة وكأنه في طريقه للوصول الى السماء، في حالة مشابهة جداً لأسلوب ارتقاء الأبراج المدرّجة "الزقورات" المُشيّدة في مدن وادي الرافدين، والتي كانت تُعتبر حسب الفلسفة الدينية الرافدينية بمثابة السُلم الذي تستعمله الآلهة للتنقل بين السماء والأرض.
وأهم ما كان يُميّز هيئة الملك في هذه المنحوتة ويلفت النظر اليها بشكل خاص، هو اعتماره الخوذة المقرنة الدالة على الألوهية، حيث أختلف الباحثون في تفسير هذه الظاهرة التي تُشاهد لأول مرة ضمن المعتقدات الدينية لوادي الرافدين، لكن الرأي الغالب والمُرجح في هذا الأمر، هو أن مضاهاة الألوهية أو ادعاؤها من قبل الملك "نرام سين" وكذلك من بعض الملوك اللاحقين في وادي الرافدين مثل "شولكَي" ثاني ملوك سلالة أور الثالثة 2094_2047ق.م كان جزءاً من عملية الصراع المُحتدم بين المؤسسة الدينية ومنظومة السلطة المدنية، من أجل التفرد في صنع القرار السياسي للبلاد وتحديد الجهة القوية التي تدير دفتها وتتحكم بمواردها الاقتصادية، والتي يبدو مع تتابع الأحداث التاريخية أنها مالت في نهاية المطاف لصالح السلطة المدنية على حساب السلطة الدنية، التي كانت قد فقدت الجانب الأكبر من قوتها ونفوذها مع نهاية عصر دويلات المدن السومرية.
كما صورت المسلة بشكلٍ بالغ الرمزية الجنود الأكديين بهيئاتهم المُميزة بملابس الحرب والخوذ الجلدية، وهم يحملون أسلحة متنوعة من قسي وسهام ورماح وسيوف، بالإضافة الى حملهم رايات النصر، حيث أتبع الفنان في نحتهم أسلوب الحركة المتتابعة مما أبعد اللوحة عن الجمود والرتابة، وهو يصورهم يتقدمون بصعودهم الجبل بشكل صفوف متراصة متتالية تشبه الموج العارم الذي يُغرق الأعداء، دلالة على قوتهم وبأسهم واصرارهم على النصر، مُتوجهين نحو أعالي المنطقة الجبلية الوعرة الكثيفة الأشجار حيث يتواجد أعدائهم المغلوبين، الذين يظهرون أما قتلى بالحراب أو مسحوقين بأقدام الجنود أو مَرميين من أعالي قمم الجبال، أو في حالة خضوع وتوسل من أجل الابقاء على حياتهم.
ومن بين الرموز الجديدة التي أظهرها الفنان الأكدي في هذا العمل الفني المُميّز، هو ما بات يُعرف بـ"الشمس الأكدية"، ذات المركز الكروي البارز والأطراف الثمانية التي تتخللها أشعة متموجة الشكل، والتي أختلف الباحثون في معنى رمزيتها، وهل هي رموزاً دينية أم سياسية، فالبعض ذهب الى أنها رموزاً لـ"عشتار" كونها إلهة الحب والحرب ومُلهمة المقاتلين، و"شَمَش" إله مدينة "سبّار" الذي يُظهر الحق ويدعم المحاربين عند اشتداد القتال بالبأس والقوة، لكن الرأي الغالب في هذا الأمر هو أن هذه الشمس كانت تُمثل رمزاً تعبيرياً عن وحدة بلاد الرافدين تحت سلطة مركزية واحدة، مفهومه أن نور الشمس يُنير كافة مناطق وادي الرافدين، وما يٌرجح هذا الرأي هو اعتماد هذا الرمز من قبل ملوك السلالات الحاكمة التي تلت السلالة الأكدية في وادي الرافين، والتي شهَدت البلاد خلال فترة حكمها وحدة سياسية قوية وهي.. سلالة أور الثالثة 2113_2006ق.م وسلالة بابل الأولى 1894_1595ق.م والسلالة الكشيّة 1595_1168قم. ومن الجدير بالذكر في هذا الجانب أن الفنان العراقي الراحل خالد الجادر 1924_1988، قد أستوحى من هذا الرمز الرافديني الجميل شعار الجمهورية العراقية عند تأسيسها بعد انتصار ثورة الرابع عشر من تموز الخالدة عام 1958.
والجديد الذي ظهر في الفن العراقي القديم لأول مرة مع هذه المنحوتة، هو تصوير النحات للبيئة الطبيعية التي تدور بين جنباتها تفاصيل العمل الفني، وهي المنطقة الجبلية ذات التضاريس الوعرة التي جرت فيها أحداث المعركة، حيث أبرز فيها جبل شاهق نقش عليه نص مسماري طويل باللغة الأكدية، يحكي قصة وتفاصيل الواقعة وانتصار الملك على أعدائه، بالإضافة الى تصويره لأنواع الأشجار التي تنمو في تلك المنطقة، والتي تُميّز طبيعتها الجغرافية ألا وهي اشجار السرو والصنوبر، مما يُرجح أن الملوك الأكديين كانوا يصطحبون معهم خلال حملاتهم الحربية الفنانين والكتّاب، كي يطلعوا بشكل مباشر على مجريات المعارك وتفاصيل أحداثها، من أجل أن يوثقوها بشكل واقعي حي في منحوتاتهم ومدوناتهم، مما يعطيها مصداقية ورؤية صائبة لدى عرضها واطلاع الناس عليها.
ومن أهم ما تميّزت به هذه المسلة أيضاً وعدّ طفرة في مفاهيم النحت المعروفة لدى الفنان الرافديني هو تحرره من أسلوب تقسيم اللوحة الفنية الى عدد من الأفاريز والحقول المتعاقبة، والذي كان سائداً في نحت المسلات والنصب والاعمال التذكارية خلال الفترات السابقة، حيث كان الغرض منها هو تقسيم فكرة الموضوع وايضاح غايته، لكنها بالمقابل كانت تفقد العمل أنسيابيته، وتقيّد عمل النحات في اختيار مساحاته التي يُظهر فيها عناصر لوحته، حيث جعل هذا التحرر في هذه المسلة أن يتداخل المشهد بأسلوب حركي قوي ينتقل فيه النحات من التكوين الفردي الى التشكيل العام الشامل، حيث يبدو طابع الحركة وتتابعها بأن الأشكال المُنفذة فيها تكاد تخرج عن مساحة المنحوتة.
لذا يُعّد هذا العمل الفني التاريخي الرائع الذي يغلب عليه طابع القوة والعنف، البداية التمهيدية الأولى للمنحوتات البانورامية المتسلسلة الأحداث، والتي وصلت أقصى درجة الرقي في نحتها عند المنحوتات الآشورية البارزة المُنفذة خلال فترة العصر الآشوري الحديث في الألف الأول قبل الميلاد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي