الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سقوط حكومة الفخفاخ وتداعياته على المشهد السياسي بتونس

مرتضى العبيدي

2020 / 7 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


أعلن رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد يوم الخامس عشر من الشهر الجاري أن رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ قدّم له صباح ذات اليوم استقالة حكومته وأنه قبلها وكلفه بمواصلة تصريف أعمال البلاد في انتظار تعيين خليفة له. وبذلك يكون عمر الحكومة المستقيلة (140 يوما بالتمام والكمال) هو الأقصر من بين جميع الحكومات التي تداولت على الحكم منذ 2011.
وكما هو معلوم، فإن ميلاد هذه الحكومة نفسه جاء عسيرا للغاية، وكانت تحمل في داخلها جميع عوامل تعطّلها فاندثارها. فحصولها على ثقة مجلس نواب الشعب يوم 27 فبراير لم يتم إلا بعد ما يزيد عن أربعة أشهر من إنجاز الانتخابات التشريعية (6 أكتوبر/تشرين الأول 2019) والرئاسية (13 من نفس الشهر، في دورها الثاني)، وبعد أن فشل الحبيب الجملي مرشح حزب حركة النهضة ـ وهو الحزب الأول في المجلس التشريعي بـ 52 نائبا من جملة 217 ـ في نيل ثقة المجلس للتشكيل الحكومي الذي تقدّم به.
إلا أن إلياس الفخفاخ الذي اختاره رئيس الجمهورية لتشكيل الحكومة كان مجبرا أن يأخذ بعين الاعتبار التوازنات داخل المجلس ليضمن ثقة هذا الأخير وليتمكن من تشكيل حزام سياسي يسند حكومته، وهو أمر لم يكن من اليسير بلوغه نظرا لتشظي المشهد البرلماني (صعود 206 نوابا ممثلين لعشرين حزب سياسي وائتلاف انتخابي و11 نائب كمترشحين مستقلين) وعدم قدرة أي حزب خلق أغلبية. لذا كان لزاما عليه ـ لهذا السبب أو ذاك ـ التضحية ببعض الأحزاب رغم ثقل وزنها (حزب قلب تونس الذي جاء في المرتبة الثانية بـ 38 نائبا منتخبا، وائتلاف الكرامة الذي حصل على المرتبة الرابعة بـ 22 نائبا) والقبول بأخرى رغم محدودية تمثيلها (مثل حزبي نداء تونس والبديل التونسي التي لم يكن لكليهما أكثر من 3 نواب).
وبهذا الصنيع والذي سايرته فيه أو اشترطته عليه الأحزاب المشكلة للحكومة، فهو ترك باب جهنّم مفتوحا على مشروعه، لأن حركة النهضة المعروفة بحبك المناورات لفرض مزيد التنازلات لصالحها لن تقبل بأي تشكيل حكومي لا يكون تحت سيطرتها المطلقة، ويمارس الحكم باسمها. وهو ما كان إلياس الفخفاخ واعيا به ، وحاول سدّ باب الذرائع باقتراحه للإمضاء على "ميثاق للتضامن الحكومي" تبقى بمقتضاه الأطراف المشكلة لها متضامنة متآزرة في السرّاء والضرّاء لكامل الفترة النيابية الجارية التي كان يتبجح أنه سيشغلها حتى نهايتها. وقد أمضته جميع الأحزاب بما فيها حركة النهضة بعد تلكؤ.
لكن ما أن ظهرت بعض مؤشرات الخلاف بينها وبين رئيس الحكومة حتى شرعت في السرّ كما في العلن في حبك المناورات لإضعافه وفرض مزيد من الشروط عليه. ونشطت للغرض على واجهتين: واجهة ادّعاء ضمان الاستقرار الحكومي وذلك بتوسيع الحكومة إلى الحزبين المقصيين عند التشكيل: حزب "قلب تونس" باعتباره حزبا مافيوزيا (نسبة للمافيا) مازال رئيسه تحت طائلة ملاحقات قضائية من أجل الفساد وتبييض الأموال، و"ائتلاف الكرامة" ـ صنيعة حركة النهضة ـ الذي تحوم حوله شبهات علاقات بالأوساط الإرهابية والذي يُعتبر رئيسه، وهو محام، المدافع الأول عن جميع المحالين على القضاء في قضايا الإرهاب. أما الواجهة الثانية، فهي تحريك ملفات فساد وتضارب مصالح ضد رئيس الحكومة نفسه، وقد كانوا على علم بتلك الملفات عند منحهم الثقة له ولحكومته يوم 27 فبراير.
وفي الجهة المقابلة، تزامن هذا المشهد السياسي المتأزم في أعلى هرم السلطة بتدهور رهيب لظروف عيش المواطنين، زادته حدّة أزمة وباء الكورونا التي عرّت ما كان مخفيا من هُزال لمؤسسات الدولة وعجزها عن الاستجابة لمتطلبات المواطنين وتصريف شؤونهم اليومية في ظروف الأزمة. فلم تقدر الحكومة الوقوف في وجه جشع أرباب العمل الذين آثروا ضمان أرباحهم على حياة عشرات الآلاف من العمال ففرضوا عليهم مواصلة الشغل في ظروف لا تتوفّر فيها أبسط شروط الحماية الصحية، أو أنهم أغلقوا مؤسساتهم وقاموا بتسريح ما يزيد عن مائتي ألف أجير، مما زاد في إشاعة البطالة والفقر.
كما سعت الحكومة إلى تحميل تبعات هذه الأزمة الطارئة على كواهل العمال والأجراء بإقرار اقتطاعات مشطّة من أجورهم، لم تسلم منها حتى جرايات المتقاعدين (المحالين على المعاش). كما تمثلت كذلك في التوزيع غير العادل للاعتمادات التي خصصت لمجابهة الوباء والتي أسندت 65℅ منها لـ"مساعدة" حفنة من أرباب العمل على تخطي الأزمة (لإنقاذهم من عدم الإفلاس) و35℅ فقط لباقي فئات الشعب، أسندت إليهم في شكل مساعدات اجتماعية مهينة بمعدل 200 دينار تونسي شهريا (أي ما يعادل 60 يورو) لعائلة ذات 5 أفراد.
وكان لهذا الوضع انعكاس مباشر على العودة القوية للحركات الاجتماعية حتى قبل رفع الحجر الصحي نهائيا، وهي تتخذ اليوم أشكالا متعددة وتتسع إلى جميع القطاعات المهنية والفئات الشعبية (قطاع الصحة العمومية، قطاع المدرّسين، قطاع النقل البرّي والجوي، قطاع استخراج الفسفاط والبترول الخ...). كما شملت شرائح عريضة من المجتمع: المعطلون عن العمل، المسرّحون الجدد، عمال التشغيل الهش، أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل، حاملي شهادة الدكتوراه المعطلين عن العمل الذين يفوق عددهم خمسة آلاف وهم يعتصمون اليوم داخل أروقة وزارة التعليم العالي منذ أكثر من شهر...
ولم تقتصر الحركة على المطالب الاقتصادية والاجتماعية بل رافقتها مطالب ذات بعد سياسي اتخذت أشكالا متعددة وكان محورها حلّ البرلمان وإقالة الحكومة، شعارات رفعتها الجماهير المعتصمة هنا وهناك، كما رفعتها بعض أحزاب المعارضة ولكن أيضا رفعتها بعض أحزاب الحكم نفسها. من ذلك رفع حركة النهضة شعار إقالة حكومة إلياس الفخفاخ وهي التي لديها أكثر عدد من الوزراء في صلبها. ولم تقتصر على رفع الشعار بل شرعت في تنفيذه بتجميع إمضاءات النواب على لائحة لسحب الثقة من هذه الحكومة. وحتى وإن لم يكن بمقدورها بلوغ النصاب القانوني أي 109 أصوات من بين الـ 217 المشكلة للمجلس النيابي (وهي لم تقدر على تجميعهم لكسب الثقة للحكومة التي تقدمت بها في شهر فبراير الماضي)، فإن ردّة فعل رئيس الجمهورية كانت أسرع من مناورتها، إذ أوعز لرئيس الحكومة بتقديم استقالته حتى يبقى تعيين رئيس الحكومة الجديد من مشمولاته هو ، ولا يعود مجددا لحزب حركة النهضة لو تمكن هذا الأخير من سحب الثقة من داخل البرلمان.
ولكن هل يعني ذلك أننا أمام نهاية منتظرة للأزمة. كلاّ، بل لعله بالإمكان القول إننا في بداية جديدة لها. فالخيارات المتاحة لرئيس الدولة تبقى محدودة باعتبار أن أية حكومة يتم تشكيلها لا بدّ لها من أن تُحظى بثقة البرلمان، وهذا الأخير بحكم تشظيه المُشار إليه آنفا وبحكم تنافر مكوّناته لا يمكّن أي حزب من تجميع أغلبية فيه. وإذا ما تمّ استبعاد حركة النهضة من الحكومة القادمة، فهي وحلفاؤها (النهضة 54 نائب، قلب تونس 27 نائب بعد استقالة 11 من النواب من كتلته، ائتلاف الكرامة 21 نائب أي ما يعادل 47℅ من مجمل النواب) سيلعبون دور المعرقل لكل مشاريعها وبرامجها. وإذا ما تم تشريكها مجددا فهي لن تقبل كما في الحكومات السابقة بغير تصيب الأسد وبغير اليد الطولى على كامل الحكومة. وهو ما يؤشر إلى إمكانية الالتجاء إلى إجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها قد تؤدي إلى تغيير المشهد ولو جزئيا وتوفير ظروف الحدّ الأدنى لعمل حكومي عادي.
ورئيس الجمهورية، كما هو معلوم ليس له أي دعم حزبي لا داخل البرلمان ولا خارجه، إلا أنه مازال يُحظى بدعم عدد كبير من ناخبيه الذين اختاروه لا على أساس برنامج (فهو يصرّح ويكرّر أن لا برنامج له)، ولكن لعدم انتمائه للمنظومة التي حكمت البلاد منذ "الثورة" والتي لم تفِ بأيّ من تعهداتها بل عملت كل ما بوسعها للالتفاف على أهداف الثورة وشعاراتها في الشغل والحرية والكرامة الوطنية. وعدم انتمائه للمنظومة جعله خارج شبهات الفساد التي طالت معظم أحزاب الحكم وكذلك عديد السياسيين في العشر سنوات الأخيرة، حتى أن المواطنين أصبحوا على درجة كبيرة من الحساسية إزاء هذه المسألة بالذات. إلا أن عدم تقديمه لأي مبادرة لا سياسية ولا اقتصادية ولا في إطار مقاومة الفساد، خلق نوعا من خيبة الأمل لدى جزء من ناخبيه. وهو ما يسعى إلى تداركه اليوم بالتصدّي بشكل أو بآخر لمناورات النهضة إن في الشأن الداخلي بعلاقة بأزمة الحكومة أو في الشأن الخارجي بخصوص الملف الليبي واصطفاف حركة النهضة في المحور القطري التركي وتوريط البلاد في تبعاته.
ويبقى المتضرّر الأكبر من هذه الأزمة هو الطبقات والفئات الشعبية التي ساءت أحوالها الاقتصادية والاجتماعية وهي مرشحة لمزيد التدهور، وهو ما يطرح أمامها خيارا وحيدا هو خيار المقاومة ولا شيء غير المقاومة بغية كنس منظومة الحكم برمّتها من أجل إقامة نظام بديل يعيد السلطة للشعب لتحقيق السيادة الوطنية والديمقراطية الشعبية والعدالة الاجتماعية.

تونس في 18 يوليو 2020








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن


.. الشرطة الفرنسية تعتقل شخصا اقتحم قنصلية إيران بباريس




.. جيش الاحتلال يقصف مربعا سكنيا في منطقة الدعوة شمال مخيم النص


.. مسعف يفاجأ باستشهاد طفله برصاص الاحتلال في طولكرم




.. قوات الاحتلال تعتقل شبانا من مخيم نور شمس شرق طولكرم