الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يسرا البريطانية (5) رواية

احمد جمعة
روائي

(A.juma)

2020 / 7 / 27
الادب والفن


استفزها منظر الحقيبة السوداء المحشورة أسفل السرير بالغرفة رقم 479 وقد اكتشفتها صدفة فيما كانت منحية تلتقط مشبك شعرها، أثار فضولها الطريقة التي أخفيت فيها بالمكان، نهضت واتجهت نحو الباب وأغلقته ثم عادت وأسدلت الستارة التي كانت مفتوحة وارتدت القفاز البلاستيكي المخصص لتنظيف الحمام وسحبت الحقيبة مع التركيز على وضعيتها حتى تعيدها فيما بعد إلى نفس الوضعية، لقد تدربت طوال المدة الماضية على وضع الأشياء في موضعها الأصلي مع عدم لمسها بيدها مباشرة تحسباً لأي تحقيق فيما لو حدث موقف من المواقف، لم تفاجأ بأنها مقفلة، بتلك القفول الصغيرة المتشابهة، والتي عادة ما تفتح من أي مفتاح صغير مشابه، وكثيراً من مقتني تلك الحقائب لا يلمسون هذه الحقيقة، سارعت بإدخال طرف مشبك الشعر في محاولة سريعة انتهت بالفشل، فاستعاضت عن تلك المحاولة بالاكتفاء بهز الحقيبة والتخمين بمحتوياتها، إذ راحت تضغط عليها من عدة جهات حيث كانت خفيفة ولا تحتوي على مواد صلبة وتكهنت بأنها قد تنطوي على أموال أو وثائق وقد تكون أشياء تافهة، دفعتها سريعاً لمكانها بنفس الوضعية ونهضت مسرعة تبحث عن بعض المحتويات التي قد تدل على شخصية النزيل الذي بدا من محتويات المكان أنه رجل، ومدخن من أعقاب سيجارة تركها أسفل النافذة خارج الشرفة، وله أولاد إذ وجدت أحد أكياس ماركات الملابس غير المعروفة على الأقل بالنسبة لها، تحتوى على ملابس جديدة للأولاد مع فواتيرها في الداخل، أثار فضولها أمر آخر، وهو تركه في أحد الأدراج لعلبة صغيرة من الواقي وهذا دليل على الخيانة لزوجته وأولاده، وانتبهت للوقت يجري فأسرعت بإنهاء عملها والخروج تاركة وراءها رغبة في العودة للمكان، لو لم يغادر خلال اليومين أو الثلاثة القادمة، إذا صادف وكانت غرفته من نصيبها في التنظيف.
تأقلمت مع الحياة وتقبلتها كقدر مكتوب، استسلمت لها مقتنعة بأن هذا أفضل من العالم السفلي الذي جاءت منه، فعلى الأقل هنا تشرب كأس ويسكي وتستمع لأغنيات "كيتي بيري" وتقرأ كتاب أو صحيفة لا علاقة لها بحرف عربي، وتتدثر بغطاء من الصوف وتركب القطار وتعمل في لندن، بل وتأكل الأطعمة الصحية في بعض الأيام، ثم يأتي يوم آخر تنفر فيه من كل شيء حولها وتود لو تنطبق الأرض على السماء وينتهي الكون، غير عابئة بكل ما سيلحق بالبشرية من دمار، فقد انتهى الكون عندها على حدود تركيا تأكل طحين الخبز وتنتظر الوجبة التالية ولا تحلم بالويسكي وشريحة اللحم المشوي، كانت المرادفات تأتيها من لحظة لأخرى ومن يوم لأخر ومن شهر للذي يليه إلى أن أدركت وهي تتأمل الحالة ذات مرة، أن للدورة الشهرية غير المنتظمة والمصحوبة بنزيف وآلام السبب وراء تلك التقلبات، لا يد لها في النفسية المضطربة ولا تملك فائضاً من المال لاستشارة الأطباء مع العلم بأن شعورها الداخلي هو أنها بصحة ممتازة ولا تشكو من أي عطب باستثناء النزيف الشهري، وقد بدأت أعراض هذه الحالة معها منذ أن غادرت البصرة ثم ازدادت بعد النزوح إثر الحرب، وكان زواجها من الشيخ يوسف الجناح هو البركان الذي فجر النزيف وأحدث هذا الشرخ الذي رافقها حتى لندن ولن تنساه ما لم تنته حياتها بالجنسية البريطانية التي تحولت إلى هوس وكابوس وحلم وسلسلة طويلة من الأوهام والشكوك، إلى حد أن بعض العاملات معها بالفندق رحن يلقبنها يسرا البريطانية، وحتى فلين ذاته اجتر معها هذه العبارة إلى أن قامت بزجره فتوقف نهائياً عن إطلاقها.
بدأت الليلة التي تلت عودتها من فندق الهوليدي إن مراجعة حساباتها، على إثر تقلص تلك الميزانية الصغيرة المضغوطة أصلاً، كونها أصبحت مرتادة لفندق بدلاً من كونها عاملة بالفندق، أحست بمذاق الويسكي مختلفاً عن تلك الجرعات المسروقة من نزلاء الغرف، فقد تناولته بلا وجل أو توتر، وحتى التأثير الذي امتد لشرايينها من تلك الكأس الوحيد الذي تناولتها فاق في طعمه وتأثيره كل الكؤوس المسروقة، الأمر الوحيد الذي تمنته أن لا تكون دلفت الفندق بملابس العمل التي غطتها فقط بجاكت قديم تدثرت به، ودت لو كانت مستحمة وبملابس سهرة لائقة كما كانت "بتسي" تمنت لو كانت تملك ثمن ثلاثة أو أربعة كؤوس تدفعها من دون شعور بالذنب، أنها تسرق من قيمة طعامها وإيجار شقتها لتدفعه ثمناً للويسكي، هذا التأثير النفسي لتلك الليلة تطور ليصبح حافزاً لتثور على قدرها المرسوم برتابة الحياة المسالمة التي تعيشها والنابعة من خوف لازمها منذ وطأت قدماها لندن، أن ترتكب حماقة أو حتى هفوة تُبعد على أثرها خارج الأرض البريطانية، لم تع الفرق بين السلام الذي تبحث عنه والاستسلام الذي أوقعت نفسها فيه وتقبلته كقدر مكتوب عليها التأقلم معه وهذا ما جرى طوال المدة التي أقامتها هنا، كل هذه الأفكار راودتها تلك الليلة وهي ترى "بتسي" تزهو في فستان سهرة وتقبض على شاب يكبرها سناً تتباهى به وهي في النهاية لا تختلف عنها إلا في كونها تحمل الجنسية البريطانية، "فلماذا لا أكون مثلها؟" هذا أكبر سؤال سيطر عليها منذ تلك الأمسية وفتح الباب للكثير من الأفكار الجريئة والمخيفة والمحرضة على نفض الغبار عن حزام العفة الذي يحاصرها منذ أن جاءت ووضعها في قالب أكبر من سنها وأقل من جمالها الذي تقبلته بيأس، ومنذ سنوات وقد هرب منها، فلم يسبق لها أن تأملت وجهها في المرآة أو ارتدت ملابس تجلب الأنظار أو تلفت نظر الرجال، لم تكن تتعمد ذلك بقدر ما كانت بعيدة البال عن التفكير في العلاقات، فجسدها الذي طالما دهشت منه في الماضي، وكيوبيد الحب الذي امتلكها منذ كانت في الثانوية العامة تراكم عليه رماد المعاناة وتجمد شيطان الجسد ولم يعد يحن للإثارة، فطوت المشاعر وذابت الأحاسيس تدريجياً إلى أن ماتت من دون أن تعلم، ولولا تلك الأمسية العابرة "بالهوليدي إن" لما فاجأها السؤال وحرضها على الانتفاضة على نفسها المعدمة.
بدأت خطوة صغيرة في إطلاق العنان للجموح أن يتحرر من قيوده بالتقاط الخيط من الفندق، عليها أن تبدأ الصلة مع الليل والسهرات واللقاءات ونسج العلاقات، مع قدر من الحذر ولكن ليس في كل الأحوال، فعليها أن تفتح الطريق لعنفوان الجسد أن يستعيد بريقه وأن تبدأ تعشق جسدها الذي أهملته وظلمته الفترة الماضية وكاد يوهن، فمن الجسد تستعيد الروح أنفاسها وكانت الكراهية التي كنتها لجسدها في السنوات السالفة دوراً في الحياة المحبطة التي حلت بها، "مم الخوف؟" سألت نفسها السؤال واقتحمت الحمام، استحمت ونظفت أجزاء جسدها المختلفة كأنها المرة الأولى التي تفعل فيها ذلك، كانت تشعر بأن هذه العملية ستعيد لها بريق المراهقة والشباب، لماذا الشباب؟ هي الآن في جوهر الشباب لماذا الإحجام عن تصديق ذلك؟ أنهت الاستحمام لتواجه محنة أخرى غير متوقعة، فهي لا تملك الملابس المطلوبة للهيئة الجديدة والنظيفة، سراويل الجينز بعضها واسعة والأخرى منتهية الموضة، القمصان باهتة وأغلبها قديمة ولا تصلح إلا للمطبخ أو العمل، أما الملابس الثقيلة فهي أشبه ما تكون لمتشردة منها لا لإمرأة عاملة، أمام هذه الصدمة غطت جسمها بملابس المنزل وأعدت لنفسها كأس ويسكي صرفة، احتسته وسكبت أخرى وراحت تمعن النظر في الغرفة والمحتويات فيما كومة الملابس على الأرض، أخذت تتأملها وودت لو تقذف بها من النافذة أو تشعل فيها النار لتنسى منظرها، وقبل أن يتسرب اليأس مرة أخرى راحت تحتسي الشراب بهدوء عكس الكأس الأولى، بدأت التركيز على فكرة ما راحت تعتمل في داخلها وإذ بها تنهض وترتدي ملابسها المتوفرة، استلت جهاز الجوال من فوق السرير وراحت تضرب الأرقام بتشنج وانتظرت الرد الذي جاءها من فلين.
" فلين .. أنا متوعكة ولا أستطيع الحراك، هل بالإمكان ألا أحضر غداً وترتب مع الإدارة؟"
عرض عليها الرجل أن يأتي ويأخذها للعيادة ولكنها أسرعت بالنفي مؤكدة بأن كل ما تحتاج إليه هو الراحة في الفراش، بعدها انجرفت في وضع الماكياج وتغيير هيئتها وصبغت شفتيها واستلت حقيبتها وهرعت للخارج ورغم البرد الشديد والهواء البارد الذي لفح وجهها إلا أنها لم تتوقف إلا بعد أن حطت قدماها في أقرب نادٍ ليلي.

****
كان الوقت مبكراً على حضور الرواد وثمة فتاتين ورجل يجلسان على البار ورجل ثالث على الطرف في زاوية من المكان، راح يتطلع إليها فتجاهلته وقبل أن تعود أدراجها جاءها صوت "البارمن" يعرض عليها المساعدة، كانت ترتجف من البرد وأحست بقدميها لا تحتملان العودة للشارع مرة أخرى والهواء المثلج يستقر في رئتيها، ولو خرجت اللحظة فأنها لن تقوى السير خطوتين وأجرة التاكسي هنا ليست في الوارد، كان صوت البارمن هو ما تنتظره في هذه اللحظة.
" البرد شديد في الخارج ولا أقوى على العودة سيراً على الأقدام" وجدت نفسها واقعة في الفخ، إلى أن أنقذها صوت الرجل القابع في الزاوية آمراً البارمن أن يرى ماذا تشرب السيدة.
بدأت الأمسية بكأس الويسكي وخاطرة عابرة مرت ببالها.
" ماذا لو دخل فلين المكان هذه اللحظة؟"
****
( 7 )

أشاعت المدفأة في الغرفة دفئاً غريباً عن المناخ الخارجي، فقد تدفقت الحرارة عبر الأرجاء على مدى الليلة المنصرمة بعد عودتها مع الفجر، وألقت برأسها على الوسادة بكامل ملابسها واستسلمت لنوم عميق لم تحلم به حتى مع أقراص الزناكس التي تستحوذ عليها بين وقت وآخر، كانت مستثارة جنسياً مثلما كان يحدث لها خلال سنوات المراهقة، فعمدت إلى الاستمناء بعد مغادرة الرجل الذي رافقها، حتى خارت قواها وانسلت في الفراش، خيم على الغرفة سكون، وانتشرت رائحة السيجار الذي خلفه الرجل وراءه قبل أن يغادر بعد أن صعد بها للشقة إثر فقدان توازها لإفراطها في الشراب، وبعد المسافة التي قطعتها في الذهاب إلى النادي، تناثر رذاذ السيجار ورماده خلال فترة الحديث القصير الذي دار بينهما استكمالاً للحديث الذي بدآه في النادي وانتهى إلى معرفة من دون أن يصل الأمر إلى علاقة جسدية، فقد بدأ الحديث بكأس ويسكي قدمه لها ثم توالت الأسئلة بينه وبينها وتداعت معه كؤوس أخرى وفرت ثمنها، بعدها واجهت محاولته الرقص معها فأخبرته ضاحكة، في المرة التالية بعد أن تتعلم الرقص من أجله، لم تعرف عن الرجل سوى أنه سياسي من حزب المحافظين ويعمل مساعداً لأحد الوزراء المحافظين من دون أن يطلعها على الوزير، وبعد بضعة كؤوس أدارت رأسها تجرأت وسألته هل يعمل في مكتب وزير العدل أو الداخلية فاستطلع السبب فأخبرته بأنها بلغت حد اليأس في الحصول على الإقامة الدائمة، وعندها بدأ الحديث عن شخصيتها وماذا تعمل ثم فقدت خيط الكلام ولم تعِ نفسها إلا وهي تصعد الشقة ثم تفقد الوعي مرة أخرى.
فتحت عينها عند الظهيرة الغائمة وعلى صوت المطر في الخارج والظلام يسود الغرفة، تنفست الهواء قبل أن تنهض من الفراش وتصدم بقدمها كعب حذائها بطرف السرير على الأرض، نظرت حولها فرأت المكان مرتباً ولا أثراً إلا لبعض الرماد على الأرض وحقيبتها في زاوية من أعلى السرير، فيما علبة السجائر مفتوحة ولا تحتوى سوى سيجارتين من محتوى العلبة الكاملة التي فتحتها الليلة الماضية ولا تعلم كيف انتهت العلبة على هذا الشكل وهي التي لم تكن تدخن سوى سيجارتين أو ثلاث في اليوم، كانت الأمسية المنصرمة الأولى منذ مجيئها بريطانيا تقضيها في مغامرة ليلية دون حسابات للنتائج، كان تصرفها الليلة الفائتة نتيجة شعور بالوصول إلى النهاية المسدودة في حياتها الرتيبة الخالية من أي نتائج بالرغم من مضي بضع ثلاث سنوات من وضع قدميها على الأرض البريطانية ولم تكتسب سوى لقب ساخر يطلقه البعض عليها وهو "يسرا البريطانية"، ولشدة كراهيتها لهذا العبارة لم تستطع منعهم من الاستمرار في إطلاقها عليها، وها قد انتهى بها الأمر في الفراش وحيدة حتى بعد أن وصل الرجل معها الشقة ولم تستسلم لأي رغبة أو محاولة لاختبار أنوثتها المتواطئة مع الجمود، ولا الشعور حتى هذه الساعة بأن ثمة رجل يمكنها التقرب منه أو الإحساس برغبة في المضاجعة، وإذا ما فعلت ابتداء من اللحظة فسوف تفعلها من أجل الإقامة الدائمة بعد أن تضمن أن المحاولة تستحق ذلك، عندها استعادت ذكريات الأمسية المنصرمة واستذكرت اسم الرجل وهو "ألن" وتوسمت فيه خيط الأمل من أجل شيء ما في الأفق يقود لتبديل حياتها وتخيلت للحظة وهي بقرب النافذة تصغي لصوت المطر في الخارج أمراً ما يطرأ ويقلب حياتها رأساً على عقب، فجأة وفي خضم هذا الإحساس نظرت لنفسها في المرآة وهي بملابس الأمس فطغى شعور بالألم من فقرها الذي جعلها ترتدي هذه الخردة من الملابس، وساورها الشك في التعرف على الآخرين وإقامة العلاقات والنجاح فيها وهي لا تملك الفرصة للعناية بشكلها الداخلي، لم يؤثر فيها ما سمعته عن البريطانيين والأجانب عموماً في عدم اهتمامهم بالمظهر الخارجي، بل على العكس رأت الانكليز والنساء تحديداً يغرقن في التفاصيل من حيث العناية بالمظهر، ويبالغن أكثر مما تصورت في الزينة وإبراز الشكل الخارجي، راحت تجول في المكان الضيق وتفحص الأشياء بوجوم، وفجأة قفزت من مكانها مع صوت الرعد في الخارج، كانت السماء أشبه ببساط أسود تتخلله ثقوب رمادية، تضيء عندما يشقها البرق بكتل كهربائية تحفر أخاديد في أفق الليل الانكليزي، طلت من النافذة ورأت فجأة حفرة غائرة في الفضاء أعاد لها منظر سماء الزبير، جمدت في مكانها وسمعت صوتاً من بعيد يهمس.
" لست وحيدة يا بنتي، الله معك"
كان ذلك أشبه بصوت جبار الشريف.

****
( 8 )

[بدأت قصة الرحيل مع أمسية دافئة قبل ليل العشرين من مارس من عام 2003، كانت والدتها قبل ذلك بأسبوع قد جمعت حقائبها بسرية ومن دون أن تبوح لأحد من الجيران الذين كانوا حينها في قلق، وتوقع مع خوف لما يجري من سرعة في التداعيات المتلاحقة مع بدء إعلان اقتراب توجيه ضربة للعراق وبدء الحرب الثالثة، كانت يسرا التي أنهت مرحلة الثانوية للتو تراقب والدتها وهي مشغولة بالهرب للكويت حالما تبدأ الحرب كما خططت لها مع بعض الجيران الذين وضعوا خطة اللجوء للخارج، راح الجميع يتحركون وكأن على رؤوسهم الطير، الأجواء مشحونة بالتذمر من فقدان المؤن وانتشار المجاعة في بعض المناطق وارتفاع أسعار المواد الغذائية، ظهر الناس في الشوارع يهيمون على وجوههم التي يكتنفها غبار كثيف بدا كالسحب تعلو السماء وانتشرت رائحة غريبة منذ أيام لفتت انتباه البعض، فسرتها نجوى القطان لابنتها يسرا على أنها غازات سامة ينشرها النظام لتغطية السماء بمواد تمنع طائرات التحالف من رؤية أهدافها.
" ماذا تخرف"هكذا ردت الفتاة التي بلغت حينها الثامنة عشر وتخرجت للتو من المرحلة الثانوية بامتياز، أفسدت أجواء الحرب احتفالها بالنتيجة التي كانت تأمل أن تدخلها الجامعة.
"سأبحث عن الحلم، عن عمي هيثم وألتحق بجامعة في حلب"
" سيأتي الحلم من الكويت، ستلتحقين أنتِ وسام إلى أرض الخير"
ردت عليها بنبرة مستفزة وهي تعمد للنظر في عينيها.
"لم تذكري فراس، هو ابنك أيضاً؟"
توقفت نجوى القطان عند عتبة باب الغرفة التي كانت تهم بدخولها وتأملت وجه ابنتها وقالت وهي تصر على أسنانها كما اعتادت عندما تغضب.
"تتحدثين كأنك جبار السعدون"
ردت الفتاة بسرعة وبلهجة حازمة.
" جبار الشريف من فضلك"

****
تطلعت نجوى القطان إلى سماء العراق، ولاح لها أفق الزبير وحده من بين كل الأمكنة وبدا لها الفضاء كأنه يوم الحشر، سمعت يسرا صوت نجوى القطان تتمتم ببضعة كلمات غير منسقة، وتناهى لسمعها من غرفة المعيشة الملاصقة للفناء الخارجي ويفصلهما باب إطاره من الخشب المدهون بصبغ "الوارنيش" الرصاصي اللون، صوت لمقرئ يتلو سورة الحشر " هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ"
توقفت لوهلة، أطلت بوجهها من نافذة الغرفة نحو السماء الملبدة بالغازات والغيوم، شعرت ببرودة تسري في كف يدها التي وضعتها على إطار النافذة وسرت رعشة بداخلها وهي تسمع المقرئ الذي لم تميز إن كان يقرأ من إذاعة بغداد التي ما انفكت تذيع بعض القراءات القرآنية منذ أن لاح لها موعد شن الهجوم الدولي على البلاد أو خلال جهاز تسجيل أدارته والدتها التي اعتادت على سماع القرآن كلما شعرت بحزن يداهمها نتيجة للأوضاع المتدهورة في الزبير، امتد تأملها للسماء بين نظرة فاحصة للغيوم تجري عند المساء وبين صوت المقرئ الذي انساب، يزرع الخوف في داخلها وكأنه ينذر بمحنة تطرق الأبواب، طفقت تتحسس وجهها بكفها كمن تقيس درجة حرارتها، لتصحو على صوت والدتها يأتي من الطابق العلوي.
" لا أحد يسقي الحديقة هذه الأيام، القِ نظرة إذا ما كانت بحاجة لماء"
ردت عليها وهي تبلع موجة تثاؤب اجتاحتها محاولة كبت استيائها الذي أخذ يتصاعد في الآونة الأخيرة.
" أنت تعلمين لا توجد مياه هذه الأيام حتى الصهاريج لم تعد تأتي؟
كانت البلاد واقعة تحت حصار خانق أثر على إمدادات الكهرباء والماء، وكانت أغلب الساعات يعيشها السكان أما بدون مياه أو كهرباء أو الاثنين معاً، ظلت تتأمل الخارج عبر النافذة فيما تتناهى أصوات من الخارج على غير العادة، إذ كان الحي يغط في هدوء والناس اعتادت على الاختباء أو العزلة لشعورها بالمرارة واليأس، كانت طبول الحرب التي تقرع منذ أيام قد بلغت مداها خلال الساعات الأخيرة من اليوم، ودار شريط السنوات المنصرمة لبرهة في ذهنها الواهن بالتعب والتشويش، عبرت سنوات الطفولة ووجوه زميلاتها في الدراسة، رأت وجه صباح السند التي تذكرها بغيرتها منها وهي تأتي الفصل متأنقة وتسير بخطوات متكبرة تعكس تميزها عن بقية الطالبات، ثم كيف انعكست الغيرة لصداقة بينهما حتى يوم وفاتها المفاجئة نتيجة مرض غامض عصف بها لبضعة أيام ثم رحلت مخلفة حسرة في المدرسة كلها، تذكرت سعاد بن سلوم مدرسة العلوم بوجهها الطفولي وصوتها الذكوري وهي تقذف الكلمات النابية على الطالبات وكيف وقعت المشاجرة ذات صباح عند باب الفصل مع إحدى الطالبات البويات وتدعى "خضرة المياس".
عبرت يسرا مراحل الدراسة خلال فترات الحروب منذ الطفولة وحتى المراهقة والأجواء كلها مشبعة بالحروب والانتفاضات والحصار الذي ترك بصماته على النفوس، كانت وهي على مقاعد الدراسة الابتدائية والإعدادية والثانوية تسير بنفس النمط من الرتابة والوحدة والعزلة، وكانت تتضاعف هذه الحالات سنة بعد أخرى ولكن وللغرابة أخذ ذكاءها يتصاعد هو الآخر وكلما ازدادت عزلة، زادت ذكاءً ووسع ذلك من فجوة العلاقة بينها وبين الأم.
لم يكن لدى والدتها أهمية للحالة الانعزالية التي مرت بها، البداية وفي فترة الطفولة، مرحلتها التي قطعتها سريعاً، فاتحت فيه نجوى القطان جبار الشريف بحالة الفتاة وأبدت له في المرة قبل الأخيرة من بدء الحرب عن شكوكها من أن تكون الفتاة تعاني من التوحد فما كان منه إلا أن أطلق ضحكة ساخرة وهو الذي لا يعرف الضحك ولا حتى الابتسام في حياته، نظر لها بنظرة صارمة قال لها بنبرة جافة.
" بعد كل هذه السنوات اكتشفت حضرتك توحدها، يا سلام عليك"
ثم شرح لها بنبرة أخرى مختلفة بأن فتاة بهذا الذكاء الخارق الذي يفوق ذكاء النساء من أمثالها لا يمكن أن تكون متوحدة، واسترسل في المماحكة قائلاً "البنت سر أبوها وهي تشبهني" بعدها لم يكن الشغل الشاغل للأم هي الفتاة كأنما كانت كلمات جبار الشريف بمثابة قطع للجسور بينها وبين الابنة المدللة لديه، وشعرت بأنها استحوذت عليه من دون باقي أفراد الأسرة، بل وذهبت أبعد من ذلك حين تجاهلت فيما بعد كل ما تمر به يسرا من مواجهات في حياتها سواء في الحي أو في المدرسة، ولم تكن في يوم آخر بعد تلك المواجهة مع الأب، محل الاطمئنان عليها من قبل الأم، كانت ترى أن الأطفال لا يعانون من التوحد إذا كانوا بهذا الخبث والذكاء، رأت في ابنتها خبث الطفولة في البداية، ثم اكتشفت فيها خبث النساء حينما كبرت ولم يمر يوم بعد ذلك شعرت فيه يسرا بوجود الأم إلا عندما تمرض أو تصاب بإصابة من سقطة، أو صدمة فقد كانت تقترب منها وتعالجها في حين كانت الأخرى تكتفي بالمراقبة والنظر في عيني الأم لعلها تصطاد مسحة من عاطفة.
كان الاكتشاف المباغت لأعراض التوحد عندما التقت بهيثم الشريف الذي لا حظ بعد أقل من شهر حالة الفتاة وربطها بما قرأه وسمعه عن التوحد عند الأطفال الذين تظهر أعراضهم منذ الشهور الأولى، ولكنه توقف عندما ربط بين ما يعرفه عن هذا المرض من تأخر الطفل فى الكلام واللعب والتفاعل مع الآخرين، وبين ما هي عليه من التفوق والذكاء والنتائج التي حققتها في كل مراحلها الدراسية.

***
عقارب الساعة تشير إلى الرابعة من 20 مارس 2003 اعتاد السكان على السهر وجافى النوم غالبيتهم مع انتظار قرب الضربة وشعورهم بالخوف والقلق، ومع قرب الفجر بعد انقضاء 90 دقيقة على مهلة مغادرة صدام حسين، دوت انفجارات مروعة، وسمعت أصوات رهيبة هزت أركان الأرض وأيقظت من كان غاطاً في النوم "حانت ساعة القيامة ولعلها ساعة الفرج أيضاً" هذا ما رددته نجوى القطان وهي تدثر سام باللحاف على الكنبة الصفراء بقلب الصالة الأمامية من الدار حيث القي بجسده المنهك وغط في نوم عميق لم توقظه تلك الأصوات، في زاوية من الدار اختبأت يسرا متدثرة بقطع عدة من الملابس لا تعرف كيف وصلت إليها ولا كيف ارتدتها ولكنها في الغالب كانت تشعر بالبرد والفزع والرغبة في التقيؤ الخارج عن الإرادة، وهو شعور لازمها منذ الطفولة ثم عاودها غداة حرب الخليج الثانية والتي شنها التحالف لتحرير الكويت، وها هو الآن يعاودها مع الحرب الثالثة، كانت طفلة لم تستشعر الخوف ولا القلق ولا ماهية ما يجري ولكنها عبرت عن تلك الحالة بالرغبة في التقيؤ فلازمها ذلك الشعور في المدرسة وعند المواقف المعقدة التي تمر بها كلما وقع حدث أو واجهت موقفاً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024


.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-




.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى