الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذاكرة بغداد كمدينة كوزموبوليتانية في كتاب ذاكرة شارع الرشيد

فاروق سلوم

2020 / 7 / 28
الادب والفن


مثل صبيين يلعبان في زوايا بغداد ، كان سعدون الجنابي يأخذني في تجواله العجيب في بغداد واماكنها السحرية وشوارعها الفرعية ومكتباتها ودور السينما ومطاعمها وابنيتها . كان ذلك التجوال مثل حلم باهر لصبيين تسكنهما خيالات عجيبة والعابُ الشوارع الحميمة وروائح الأطعمة البغدادية ، وعبير المكان وقدامته ، وهما يدرجان على صفحات كتابه الجميل " ذاكرة شارع الرشيد" الصادر 2019 .
اذكر ماحصل يوما وسط موجات العنف التي ضربت المدينة ، ان اطل وجهُ رجلٍ بغدادي على الشاشة يقول " نحن بحاجة الى من يحب بغداد" وفي عينيه تطل دموع غالية، وكأنه يقول لؤلئك الذين يدمرون المدينة العريقة "انكم لاتحبون بغداد" .
ولقد بقي رنين تلك العبارة في وجداني ، وانا ابحث في كل مكان وعلى الشبكة عن محبي بغداد وعشاقها النادرين ، حتى اعارني صديق بغدادي في الغربات نسخة مصورة من كتاب "رحلة في ذاكرة شارع الرشيد" لمؤلفه سعدون الجنابي الصادر في 2019 عن مطابع الأديب البغدادية في مقرها الجديد بمدينة عمان .
طفقت اقرأ صفحات الكتاب بعاطفة خاصة ومشاعر متعددة ؛ اولها ان مؤلف الكتاب صديق عتيد وزميل دراسة وعمل ايضا . فقد درسنا معا في كلية اللغات بجامعة بغداد ، كما عملنا معا بعد التخرج في وزارة الثقافة والأعلام وتربطنا مشاعر صداقة عميقة ومتعددة . وثانيها مقدار محبتي لمدينة بغداد حيث عشت طفولتي وصباي وشبابي ، ودرست الأعدادية والجامعة والعمل حتى تقاعدي قبل سنوات .
كنت مع نفسي ، ادعي انني اعرف ما سيقوله صديقي المؤلف قبل ان اتم قراءة الكتاب الجميل. غير اني كنت مع كل صفحة من صفحاته، وكل متابعة في القراءة اكتشف ان مافعله سعدون الجنابي هو انه استلّ كل تفصيل نادر من حياة البغاددة ويومياتهم وطبائعهم واماكن سكناهم واطعمتهم واماسيهم واحاديث نسائهم و "قبولاتهن" ورواياتهن بشكل فاق كل توقع مسبق عندي ، بشكل جعلني ارى في الكتاب ندرة خاصة و اقترحه ليكون دليلا لكل من يريد ان يتعرف الى بغداد في ماضيها ليعرف كيف يكتشفها في اي تجوال وفي اي زمان .
*
يسرد الجنابي مشاهداته منذ طفولته حيث عاش في اشهر مناطق شارع الرشيد في بيت العائلة منطقة المربعة ، حيث يدرس ويتواصل وحيث مكان عمل والده وحياة عائلته وعلاقاته لتتكون لديه اكثر من شهادة ، وكأنها معايشة عجيبة تلقي بظلالها الأجتماعية والثقافية والتاريخية على رحلة الذاكرة التي اشتغل عليها المؤلف.." يعد شارع الرشيد مقر النخبة في العراق من سياسيين وكتاب وشعراء وادباء و مثقفين في مختلف الأختصاصات العلمية والأنسانية ، لما يحتويه من مقاهي وبيوتات ثقافية تستقطب الشرائح كلها ذات الأهتمامات المتنوعة، وتسهم في بلورة رأي عام وفاعل في الحياة السياسية والثقافية والأجتماعية للعراق ، عبر عقود من الزمن في مراحل تأسيسه وتطوره- ص5 "
ولأني اقدم قراءتي هذه بحب مركب للمدينة وللكتاب معا، فأنني لااعتبر الكتاب في طبعته الأولى الآ مقدمة لأشتغالات مستقبلية على الطبعات الجديدة واثرائها لما تعج به ذاكرة الكاتب من مجالات تفصيلية وكأنه يعيش مشاهدة فلم في سينما الزوراء التي درج على مشاهدة افلامها في طفولته وصباه ، حتى ليبدو الكتاب لي مثل توطئة لسردية نادرة للكاتب سعدون الجنابي ، يمكن ان تتحول يوما الى فلم او الى عمل فني وادبي متنوع . كما يمكن ان توظف عناصر المكان والمعلومات في الكثير من الكتابات والأعمال التي تتعلق بشخصيات عديدة مرت وعاشت بالمدينة مثل الجواهري والسيابو الرحالة والكاتبة ديم فريا ستارك وامين الريحاني واغاثا كرستي وزوجها سير ماكس مالون وام كلثوم وجبرا ابراهيم جبرا وعلي كمال والمؤرخ جواد علي وطه باقر واخرون كثرٌعاشوا واستلهموا من حياة المدينة ابداعهم ، حيث مر المؤلف على اسمائهم ومقاهيهم وتجاربهم في الرشيد الشارع العتيد ونبض حياة المدينة.
*
يوزع الكاتب سعدون الجنابي سرديته على ابواب خمسة، حيث يقسم الشارع وفق رؤيته الى مسارات خمس او الى بؤر حياة وتذكر وعيش وعلاقات والى بنى تشكل روح الشارع واجزائه وامكنته الممتدة من باب المعظم والميدان حتى الباب الشرقي في خمسة اقسام هي نبض حياة شارع عتيد و مدينة اسمها بغداد.
وبعد تمهيد غني بكل عناص السرد التاريخي والأجتماعي والفني والمعماري ، يورد في " الرمزية البغدادية للمكان" الى " ان البغاددة في محلاتهم الصغيرة شعب راق تسودهم روح الجيرة والتعاون والمحبة والوفاء.. يفرحون لفرحهم ويحزنون لكدرهم .. بغض النظر عن ديانتهم او طائفتهم.. ص15 بتصرف" كما يمر الكاتب على الطبيعة الكوزموبوليتانية الأنسانية المنفتحة على الأغراب والأجانب والزائرين حيث يبلور المجتمع البغدادي روح المدينة العولمي منذ وقت مبكر اذ كان يتآلف البغاددة مع بعض في الأتجاهات الثقافية والفنية والأجتماعية و في المظهر والملبس والهوايات والفنون والآداب مثلما يحصل في كل مكان وكل عصر في العالم. ويفرد المؤلف سعدون الجنابي ابوابا وفصولَ ليروي تناغم المجتمع البغدادي مع عصره في كل زمان بشكل طبع المدينة وشارع الرشيد كمرآة عاكسة بطابعها الحضاري المرن المنفتح المتقبل و المتحول تاريخيا نحو الحداثة والتغيير دونما عقد او فروق او مسميات.
انني اعتبر شهادة الكاتب و الكتاب لمدينة بغداد كمدينة عابرة للهويات ، وشارع الرشيد كنموذج لأنعكاسات حضارة المدينة ومجتمعها وتطلعاتها المستقبلية.
*
في الباب الأول يروي المؤلف اهمية الرشيد التي جعلته مقرا تتخذه السفارات والدوائر الحكومية والقاعات والنوادي والمطاعم والمدارس والمحلات والخدمات كعناصر للتكامل المكاني والأداري والخدمي للشارع وطبيعته ، كما في ص31
وفي الباب الثاني وصف للمهن والخانات والمحلات الشهيرة وتعريف بالممرات الفرعية وتسمياتها التي تأخذ اسماءها واهميتها الأجتماعية من المهن والهويات والساكنين والمستعملين ، حيث يشعر المرء بعاطفة المؤلف الباذخة وهو يمحض سكان شارع الرشيد عاطفته ورأفته واعتزازه في ذاكرة تشبه الغناء الحزين احيانا واحيانا تشبه البكاء على كنز قديم .
*
يواصل المؤلف رحلة الوصف الجغرافي والمكاني في البابين الثالث والرابع ليعرف بتفاصيل المكان وهو يأخذنا في مسيرة حية وبسيطة في السرد والوصف والتذكر. الرشيد في تقسيمات المؤلف هنا نبلغ معه جمالية المكان ، كمحلات قديمة واعمال ووظائف للشركات ومحلات البيع الشهيرة والمقاهي والمطاعم والمصورين والمكتبات التي تنفتح على احدث اصدارات العالم ومحلات الموسيقى بما في ذلك مكتبة اوروزدي باك ليشير المؤلف من طرف خفي الى ان الشارع العتيد انما هو انعكاس لهويته العالمية التي تعرض من خلالها احدث الصناعات والكتب والأسطوانات الموسيقية والأزياء في حضور اجتماعي بهي يمثل ثراء المجتمع البغدادي وثقافته .
ومع اني اعتبر الكتاب رحلة ممتعة وكاشفة لطبيعة المجتمع البغدادي كما مثله شارع الرشيد من حضارة وعمق وتجدد الا ان الباب الخامس انما يعزز روح المؤلف المدينية المتعايشة كما يعكس وجدانه وتعلقه بتقاليد وصفات واخلاقيات وروح المدينة - بغداد.
مرات كثيرة كنت احس ان صديقي المؤلف سعدون الجنابي انما يبكي وليس يتداعى او يتذكر شارع الرشيد. انه يحن الى ذلك العالم الحضاري النظيف عبر مجتمع وامكنة وعمارة وفنون وثقافة. بل انه يدين من طرف خفي حركة " ترييف" المدينة بطبائع وتقاليد ومنقولات من السلوكيات لاتتناغم مع المدينة ادت الى ضياع الشخصية الحضارية المدينة لللاد ومدنها تحت وطأة الهجرات التي خلقتها الكوارث والحروب والقرارات الفردية بأسم التنمية والتحولات والمنجزات الوهمية.
ولذلك نراه في الباب الخامس يحول شهادته الى نوستالجيا من الحنين والتعريف والأعتراف بالمجتمع الموزائيكي لبغداد ومرآته شارع الرشيد في تلك الفترة التي عاشتها طفولته وصباه وشبابه . وهو اذ يمر على الفنون والمراقص والأكلات والمسميات ، والكنائس والمعابد والمساجد ، يمر على مكونات المجتمع البغدادي من يهود ومسلمين ومسيحيين ومكونات مختلفة تأتلف جميعها في الأنتماء والحب والعاطفة وترتبط بالمكان كهوية وانتماء واقتراب عاطفي واجتماعي وثقافي وروحي .
وفي كل فصل او استدراك او تداعٍ اثناء السرد استبصر حنين سعدون الجنابي الى بغداد المدينية الحديثة في تحولاتها ، والى طبيعتها المرنة والى مجتمعها المتعدد المتعايش دونما صراعات او اختلافات او عقائد. واستطيع ان افسر ذلك ان ثقافة شارع الرشيد كقلب لمدينة عالمية منفتحة ، كان يضع العراق في مكانة متقدمة بين الدول النامية نحو التقدم والتحديث حيث كانت تشكل املا لأجيال من الشباب والشابات المتطلعين الى مجتمع حديث ومدينة وغد حضاري يجعل المجتمع البغدادي العراقي يعيش عصره ويتطورعبر مشاريع كثيرة كان مجلس الأعمار العراقي يمثلها بأبهى صور التطور والبناء والتحول الطموح.
انا اعتبر كتاب سعدون الجنابي "ذاكرة شارع الرشيد" دليل سياحة في ذاكرة المدينة وتفصيل سردي وروائي يمكن ان ينعكس على اعمال روائية وتلفزيونية وسينمائية ، كما يوفر ارضية تاريخية مرنة ليقرأ المرء تكثيفا لتاريخ العراق وشخصياته وجدلية البقاء فيه برغم كل ريح عاتية استهدفت المحو والتشويه والأزالة .
"ذاكرة شارع الرشيد" ، تأليف سعدون الجنابي رحلة في وجداناتنا التي تحن الى انتمائها المتجذر والى هويتها وثقافتها المتعددة المتعايشة ومجتمعها المفتوح على عصره وزمانه ، ولذلك ادعو المؤلف الى طبعات مزيدة ومنقحة من هذا الكتاب ليؤسس مكانته في مكتبات العالم ، وقد تمت اخيرا ارشفته في مكتبة الكونغرس ومكتبات اخرى ، ليصبح كتابا دراسيا في مكتبات الجامعات ، ودليلا مفتوحا لقراءة تاريخ مدينة بغداد وبنيتها الثقافية والأجتماعية من خلال كتاب " ذاكرة شارع الرشيد".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثلة رولا حمادة تتأثر بعد حديثها عن رحيل الممثل فادي ابرا


.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب




.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي