الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مواصفات الدولة المطلوبة في العراق ج . 1

سعد سوسه

2020 / 8 / 1
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لكن المجتمع في العراق لم يعرف أين تكمن مصالحه الوطنية العراقية الصرفة أيام الإنكليز، لولا تشكيل مؤسسات عراقية وولادة كيان عراقي كان يأمل أن يكون تأسيسه قوياً !( 9 ) .
أولاً : الآمال والتطلعات الوطنية
الوطني في اللغة نسبة إلى الوطن أو اسم منسوب إلى الوطن، والوطنية مصدر يدل على شعور الفرد بالانتماء إلى الوطن، ويحيل على عاطفة حب الوطن والتعلق به والدفاع عنه والعمل في سبيل منعته وقوته واستقلاله وتقدمه، وعلى الحنين إليه. والوطن اسم يدل على مكان الإقامة. وذلك قبل أن تتطور دلالته إلى الرقعة الجغرافية التي تقوم عليها الدولة التي قوامها أرض وشعب وسلطة سياسية، وعلاقات جدلية بين هذه العناصر، بما هي عناصر جملة حية أو كلية عينية، وتتجلى هذه العلاقات بصورة خاصة في القانون العام أو النظام العام ونظام الحكم. ومن ثم فإن مفهومي الوطن والوطنية مفهومان حديثان لا تزال دلالة كل منهما مرتبطة بالدولة القطرية الحديثة ونزعة الانتماء إليها. وبمفهوم الدولة الوطنية الحديثة التي ترتسم معالمها في أفق تطور الدولة القطرية إلى "المستقبل الماضي"، أي إلى مستقبل هو ماضي الشعوب المتقدمة التي نستعير منها بعض العناصر البنيوية، كالتباين الطبقي والتصنيع والعلمانية والديمقراطية وغيرها، من جهة أخرى. وملتبسة من جهة ثالثة بمفهوم القومية، أي بشعور الأفراد بالانتماء إلى أمة، حتى لتكاد صفة الوطنية تعادل صفة القومية ( 10 ) .
لا شك أن محاولة فرض هذه النظم والمبادئ الغربية التي لا تتفق مع حالة العراق وأوضاعه الاجتماعية والفكرية، إلى جانب عزم الإنكليز على إبقاء العراق تحت سيطرتهم الفعلية المباشرة مدة طويلة، ثم السماح للإنكليز المقيمين في العراق بجلب زوجاتهم وأطفالهم للاستقرار فيه، لا شك أن ذلك كله كان له أثره المباشر في تقوية الحركة الوطنية في العراق واشتداد معارضة العراقيين للسياسة الاستعمارية للبريطانيين. والمطالبة بالاستقلال وقد ظهر هذا على شكل تنظيمات سياسية سرية نوعاً ما ظهرت في تبدل السياسية البريطانية وقيام حكم محلي بإيجاد حكومة مؤقتة. وكان من أهم التنظيمات:
1) جمعية النهضة الإسلامية في نجف
(لأجل إن تحقق هذه الجمعية أهدافها نشرت دعوتها بين القبائل المحيطة بالنجف وبين حملة السلاح من أهل النجف. وقد قررت الجمعية اغتيال حاكم نجف الكابتن مارشال كذريعة للقيام بثورة يمتد لهيبها إلى جهات مختلفة، وهكذا فقد قصد نفر من المسلحين برئاسة الحاج نجم البقال سراي الحكومة في فجر 19 آذار 1918 وقتلوا الحاكم البريطاني الكابتن مارشال وطبيبه وانتظر رجال الجمعية أن تستجيب القبائل لهذه الدعوة العملية ولكن الإنكليز كانوا قد اتخذوا للموقف أهبته فوصلت قواتهم في الوقت المناسب وحاصرت المدينة وقطعت الماء والمئونة عنها وصارت تقاتل الأهليين قتالاً مريراً حتى إذا مل الاهلون القتال تمكنت القوات البريطانية من دخول المدينة بعد حصارها حصارا قاسيا زهاء (40) يوما. وقد قامت القوات البريطانية في 30 أيار 1918 بشنق (11) رجلا من المتهمين باغتيال الكابتن مارشال ونفي (122) شخصا إلى الهند. وفرضت غرامة على المدينة قدرها(50) ألف روبية و(1000) بندقية. وهكذا نرى أن فشل ثورة نجف في تحقيق أهداف جمعية النهضة والتدابير القاسية التي لجأت سلطات الاحتلال ومهد الأمور لاندلاع ثورات أخرى بعد ومن قصير. (هادي عبد الأمير العكام: الحركة الوطنية ) تألفت هذه الجمعية السرية في نجف عام 1918 وهي جمعية ذات طابع ديني غير أن الاتجاه الوطني كان واضحاً فيها. فقد استهدفت إلى تخليص العراق من السيطرة الأجنبية وإثارة المسلمين عليها لضمان استقلال العراق. وكان أبرز أعضاء الجمعية العاملين الشيخ محمد جواد الجزائري والسيد محمد بحر العلوم والشيخ محمد علي الدمشقي وعباس الخليلي.
2) جمعية حرس الاستقلال: تألفت في بغداد في أواخر شباط عام 1919 من قبل جماعة من المثقفين برياسة محمد الصدر وعضوية علي البرزكان ومحمود رامز وجلال بابان ومحمد باقر الشبيبي ومحي الدين أفندي وشاكر أفندي وقد تضمن منهاجها على مواد، منها: استقلال العراق التام، وتأليف حكومة دستورية ملكية(لقد انتمى إلى الجمعية رجال الدين والشيوخ ذوو الاتجاهات الوطنية وأصبح هؤلاء يكونون القسم الأكبر من أعضائها. وقد ساهم في نشاط الجمعية ممثلو البرجوازية الوطنية والمثقفون البرجوازيون (التجار والمحامون والطلاب). وقد قامت جمعية حرس الاستقلال بنشاط واسع بين مختلف أوساط الموظفين مما جعلها تتمتع بمركز اقوي من جمعية العهد وذلك لأنها قطرية في تنظميها، وان قراراتها سريعة رفي أكثر القضايا، ولان لجنتها المركزية كانت بالعراق بعكس العهد الذي كان فرعا يتبع المركز العام في الشام ويأخذ قراراته وتعليماته منه. كما إن لإنضمام جمعية الشبيبة العربية السرية إلى حرس الاستقلال أثرا في تقوية مركزها من جهة، وفي توحيد مساعي الوطنين من جهة أخرى. وأنشـأت جمعية حرس الاستقلال فروعا في الكاظمية والحلة والنجف والشامية وبعقوبة وغيرها.
إن أهم أعمال الجمعية هي قيامها هي قيامها بإنشاء المدرسة الأهلية. وكان علي البزركان أحد أقطاب الجمعية قد اختير مديرا لها واتخذت هذه المدرسة مركزا لعقد اجتماعات الجمعية والمذاكرة في القضية العراقية. (عبد الأمير هادي العكام: الحركة الوطنية ) .
كما حدثت خلال فترة الاحتلال انتفاضات متعددة في مناطق مختلفة نم العراق وكانت ذات طابع محلي حيث إنها لم تعدد حدود المناطق التي نشبت فيها وكان للجمعيات السياسية اثر في توجيه بعضها. فقد انتفضت الكويان والعقر والعمادية وسامراء والحلة والشامية المنتفك ضد السلطات البريطانية وقتل عدد من الضباط من الضباط الإنكليز وجنودهم إلا أن السلطات الاستعمارية أخمدت الحركات الشعبية بعنف وشدة مستغلة انعزالها عن بعضها وخيانة بعض شيوخ القبائل في تلك المناطق. أما الانتفاضة التي حدثت في السليمانية فأنها تميزت بسعتها وأهميتها وكانت بزعامة الشيخ محمود أحد زعماء الأكراد في السليمانية الذي نصبه الإنكليز حاكماً فيها سنة 1918, وكان هذا قد وافق على قبول منصبه من أجل توحيد قبائل جنوب كردستان تحت سلطته. إلا أنه شعر بأن السلطات البريطانية واستعدادهم للثورة عليها فانتفض في أيار 1919، وسرعان ما شملت المنطقة الممتدة من السليمانية حتى ضواحي كركوك وحلبجة ورانية. وانضمت إلى الانتفاضة بعد ذلك وحدات من شرطة السليمانية واشتركت معها القبائل الكردية في إيران. وقد تمكن الشيخ محمود من الصمود في وجه القوات البريطانية حيناً, ولكن الإنكليز قضوا على انتفاضته وحكموا عليه بالإعدام ثم أبدلوا حكمه بالسجن المؤبد. وعفي عنه بعد ذلك. وعلى الرغم من إخفاق هذه الانتفاضة فأنها ـ كما يبدو ـ كانت ذات أثر كبير في تاريخ الحركة الكردية، فقد بدأ بالفعل التفكير بإنشاء دولة كردستان وذلك خلال جريان الحركة .
كما أن للحوادث التي جرت في دير الزور وتلعفر أهمية بالغة الخطورة في تطور النضال الوطني في العراق. ففي آب 1919 أعلنت القبائل في منطقة دير الزور عصيانها على السلطات المحتلة واستطاعت بمعاونة أهالي المدينة وبتأييد جمعية العهد العراقي بسورية وفرعها في الموصل تحرير دير الزور بقيادة رمضان الشلاش وأسر الحامية البريطانية فيها. وقد بدأت القبائل الثائرة تهاجم مراكز الإنكليز ما بين عنه ودير الزور على الفرات وتكريت وشرقاط على دجلة وتضخم عدد الثوار بانضمام أفراد العشائر من جهة وبعض العراقيين الذي جاءوا من بغداد والموصل وغيرهما من جهة أخرى. ولكن رمضان الشلاش الذي تزعم القوى الثائرة واحتل دير الزور اضطر في 13كانون الأول 1919 إلى البدء بمفاوضات مع ممثلي الإدارة البريطانية وتقدم إليهم بالتماس للحصول على المعونة المالية. وكانت وحدات الثوار في ميادين وأبو كمال قد تركت بدون تموين ولا قيادة فعلية كما أن قسماً من زعماء القبائل ووجهاء المدن الذين انضموا إلى الانتفاضة عند بدايتها كانوا قد بدأوا يتبرأون منها. وفي أثناء المفوضات بين رمضان الشلاش وحكومة فيصل السورية من جهة وبين القيادة البريطانية من جهة أخرى شوهت الانتفاضة وبدت بوجه عادي لا تتعدى أن تكون حادثا من حوادث الحدود بين العراق وسوريا. ونتيجة لتلك المساومات ضُمَّ دير الزور إلى الدولة العربية في سوريا ويلاحظ إن سبب تنازل المحتلين الإنكليز عن دير الزور هو رغبتهم في التخلص من المنطقة المضطربة التي أدت العمليات العسكرية فيها إلى تعقيد الوضع إلى حد بعيد في جميع أنحاء العراق .
وبعد إنشاء الدولة العراقية أصبح العراقيون، أما بقوة الاستمرار أو بحافز الحفاظ على المصالح الوطنية يدافعون بحماس وبأعداد متزايدة عن الكيان العراقي المستقل، وعن بقاء العراق دولة مستقلة منفصلة عن غيرها من البلدان العربية. وذلك لأن العراقيين كانوا يتخوفون من أن أي تغيير جذري في كيان العراق وتركيبه سوف يسفر عن تعديلات في حدوده الجغرافية، بيد أن هذا لا يعني أن دعاة الانفصال في العراق لم يكونوا يتحسسون بالروابط العربية المشتركة، وبالحضارة العربية المتوارثة، فكانوا حريصين على التعاون الوطيد مع سائر البلدان العربية، ولكن ليس على حساب استقلال العراق .
ثانياً : النزعات والأفكار القومية
لقد أسفرت ردود فعل العراقيين تجاه الاتحاديين الأتراك فكانوا أول من صاغ مصطلح (الأمة العربية) وقادوا العرب إلى تأسيس القومية العربية التي توهمت، ولم تزل، بأن العرب الذين يسكنون دولاً قطرية متنوعة إلى حد الاختلاف الجذري بإمكانهم التوحّد في يوم من الأيام في أمة عربية واحدة!
وقد ساهم العراقيون (كان في مقدمة العاملين في الحركة العربية ياسين الهاشمي ونوري سعيد وجعفر العسكري وجميل المدفعي وعلي جودت الأيوبي وغيرهم، ويكفي أن نشير إلى أن معظم أعضاء جمعية العهد، وهي الجمعية الوحيدة التي كانت عسكرية الطابع، كانوا من العراقيين الذين شكلوا القيادة العسكرية للثورة العربية مثل جعفر العسكري ونوري السعيد وجميل المدفعي ) ( 11 ) الذين وضعوا الأسس الأولى للدولة العراقية الحديثة، بشكل فاعل في الجمعيات العربية التي تشكلت في أواخر العهد العثماني، والتي طالبت بحصول العرب على حقوقهم المشروعة. خلال الحرب العالمية الأولى تحالف بعض العرب ـ وكان من بينهم عدد من العراقيين ـ مع الإنكليز متعهدين بمسـاندة ونصرة قوات الحلفاء مقابل تعهد دول الحلفاء بتنفيذ وعودها في حالة الانتصار على دول المحور . فقد وعدتهم دول الحلفاء وبريطانيـا بالتحديد بالحرية والاستقلال من ربقة الاحتلال العثماني البغيض الذي استمر عدة قرون . فساهم العراقيون وبالفعالية نفسها وربما أكثر في الثورة العربية الكبرى. فقد كان عدد من الضباط العراقيون وراء انتصار ثورة الشريف حسين بن علي القومية!
لقد كان المؤسسون الأوائل لدولة العراق الحديث والذين أصبحوا فيما بعد ذلك أبرز صناع القرار السياسي فيها حتى عام 1958، قد تشربوا بالمباديء القومية وقاتلوا في مواقع قيادية في جيش الثورة العربية، وقد انعكس ذلك الشعور القومي على سياسة الدولة العراقية أبان العهد الملكي (1921-1958) .
لكن الحركة القومية العربية في العراق لم تقدم الأطروحات الفكرية والسياسية حول الحداثة، والديمقراطية، والمجتمع المدني الحديث، بوصفها تعبيراً عن دفاع البرجوازية عن حريتها ومصالحها القومية، وسلاحين مهمين في صراع هذه الفئة ضد بقايا الإقطاعية والحياة العشائرية والبدوية، والاستبداد بصورة عامة، وركيزتين أساسيتين لبناء الدولة الحديثة القائمة على فكرتي الوحدة القومية ـ والعلمانية.
وستشهد الحركة القومية العربية انقساماً جديداً مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، والاحتلال البريطاني للعراق العام 1914، بسبب المواقف المتباينة لمختلف التيارات السياسية المكونة لهذه الحركة القومية، بشقيها العامل في داخل العراق نفسه، وخارجه، من المسألة الوطنية، وقضية الاستقلال، وردات فعلهم غير الموحدة. فهناك اتجاه من القوميين العرب ممثلاً بحزب العهد في بغداد، وطالب باشا النقيب في البصرة، وسليمان فيض، ونوري السعيد. وكان هؤلاء الزعماء المحليون محافظين وتقليدين، وينتمون إلى الطبقات التقليدية في المجتمع، فضلاً عن أنهم كانوا على استعداد للتعامل مع السلطات الاستعمارية البريطانية، بل أنهم كانوا أداة لتطبيق هذه السيطرة، ويتجسد موقعهم من المسألة الوطنية من خلال استعدادهم الدائم للتفاهم مع الاستعمار البريطاني، ذلك أنهم كانوا يطالبون باستقلال العراق، ولكن مع بقاء الحماية البريطانية، وهم بهذا الموقف كانوا يزاوجون بين خدمة مصالحهم الطبقية والمصلحة الوطنية، معتبرين أن طريق الاستقلال لا يمكن أن يكون إلا عبر التسوية السياسية لا عن طريق المواجهة المباشرة للمستعمر. ففي نظر أشراف (سادة) البصرة ـ ونظر ملاكي الأراضي فيها ككل ـ مثلَّ النظام البريطاني (سلامة وأمن الأملاك). والسيد طالب النقيب، الذي كان قد رفع في أيام الأتراك راية الحكم العربي الذاتي، صار يطلق صوته الآن تكراراً معبراً عن تأييده للانتداب البريطاني . كما دعا نوري السعيد إلى (خلق حكومة مدنية وطنية على الفور)، إلا أن ذلك يتم بالخضوع لـ (إشراف الاحتلال). وفضلاً عن ذلك، أكد نوري على أيمانه بـ (روح الزمالة مع الإنكليز)، وحرصه على (متابعة السير في طريق الولاء والتعاون مع الإنكليز). كما أنه أعرب عن عزمه (على وضع حّد لكافة النوايا التي تتجه إلى تجديد الارتباط بالأتراك). وكان هذا الاتجاه مطبوعاً بطابع غربي، وانضم إلى الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى، آملاً، بعد الحرب، أن يحقق الاستقلال السياسي للعراق، حيث كان للبريطانيين مصلحة في أن يخوض العرب الحرب ضد تركيا. وقد لعب هذا الاتجاه دوراً مهماً على صعيد إرساء نظام ملكي ذي شكل برلماني ديمقراطي في مرحلة السيطرة الاستعمارية غير المباشرة على العراق لاحقاً .
أما الاتجاه الثاني من القوميين العرب ذي الطابع الإسلامي الإصلاحي، فقد كان معادياً للاستعمار البريطاني، وقرر الانضمام إلى تركيا خلال الحرب العالمية الأولى. وكان هذا الاتجاه يطالب بالاستقلال التام للعراق غير المقّيد بأية تنازلات أو خضوع للاستعمار البريطاني .
ثالثاً : القرار البريطاني :
يرى أحد المفكرين(ايلي حريق) أن القوى الخارجية لعبت في الإجمال دوراً ثانوياً في نشأة الكيانات العربية المعاصرة. ولكنه يستثني منطقة الهلال الخصيب بالذات حيث يرى إن القوى الخارجية لعبت على العكس دوراً أساسياً في قيام الدولة المعاصرة انطلاقاً من إرث السلطنة العثمانية. فقد كان الساسة البريطانيون مشغولين في القرن التاسع عشر بتدهور الخلافة العثمانية، ومدى تأثير ذلك على نفوذهم، وعلى الميزان الدولي للقوى.
وقد ظلت الإدارة البريطانية منقسمة بين عامي (1918 و1920) بين تيارين، أحدهما يتطلع لحكم العراق بشكل مباشر مثلما هي الحال في الهند، وثانيهما يذهب مع تشكيل دولة عراقية مستقلة. ولعل ثورة العشرين أو الانتفاضة المسلحة لعشائر الفرات الأوسط وغرب الموصل والأكراد التي وقعت في حزيران (يونيو) 1920 وما رافقها من احتجاجات ومظاهرات في المدن قد دفع البريطانيين إلى تأييد استقلال العراق. كما كان هنالك جدل آخر حول نوع الحكم القادم في العراق، إذ كان اللورد كرزون (وزير الخارجية البريطاني) واضحاً فيما يخص الدول التي قد تنشأ. فقد قال عن العراق أنه يجب حكمه من خلال (واجهة عربية من خلال محمدي محلي، تساعده إدارة عربية قدر الإمكان وبإرشاد بريطاني) .
فيما كانت هنالك فئة من السياسيين، أمثال السيد عبد الرحمن الكيلاني، والسيد طالب النقيب، وعبد المجيد الشاوي، وتوفيق الخالدي، وحكمت سليمان، ومعروف الرصافي، وغير هؤلاء من الاتحاديين يسندهم جون فلبي مستشار وزارة الداخلية، ورؤايلي مستشار المعارف كانوا يدعون إلى النظام الجمهوري .
يجب القول أنه خلال العهد الملكي بكامله كان تعبير (القومية العربية) يتردد أحياناً كثيرة في الصحافة العراقية. لكن دراسة الظروف المحيطة باستعمال هذا المفهوم، لا تدفع بالضرورة للاستنتاج أن إلى ما عني بـه فيها إقامة وحدة عربية شاملة يذوب فيها الكيان العراقي الحديث. وواقع الحال أن تعبير (القومية) كان يشير إلى ما يمكن أن ندعوه اليوم (هوية)، كما في ردود الصحف البغدادية المؤيدة للحكومة على رجال الدين الداعين إلى مقاطعة الانتخابات عام 1923. فالعروبة هنا هي عدو (الأعجمية) التي تنافسها في تحديد هوية الكيان الحديث. المعطى بالأساس ثقافي ـ لغوي، وإذا أصبح سياسياً فللدلالة على لغة العراقيين وثقافتهم وتطلعاتهم المتميزة عن جيرانهم الفرس، وليس بالضرورة لميلهم الشديد إلى مشروع سياسي وحدوي لم يكن بالفعل مطروحاً سيما بعد فشل (الثورة العربية)، بصورة ملحة .
ذلك إن الشيعة، وهم أكثر سكان العراق، كانوا يعارضون الاندماج في دولة عربية كبرى لأنهم يصبحون آنذاك أقلية طائفية في وحدة سنية كبيرة. أما السّنة العرب في العراق، وهم أقلية، فإنهم يؤثرون الوحدة العربية، لأن من شأن الوحدة مع أقطار عربية أكثر سكانها من السنة قد تقوي مركزهم السياسي. على أن قسماً من السُنَّة في العراق يتخوفون من الاندماج في وحدة عربية كبرى لأنه قد يسفر عن انفصال الأقاليم الكردية الغنية بآبار النفط والمعادن الأخرى عن الدولة العراقية. وهكذا نرى أن انقسام المجتمع في العراق إلى فئات عرقية ودينية وطائفية مختلفة، كان يقف عقبةً كأداء في وجه إقامة دولة عراقية حديثة موحدة تنهض على أسس وطنية ( 12 ) .
إن المشكلة لا تكمن في الاعتراف بـ (الانتماء العربي) للعراق بل المشكلة في تحجيم هذه الهوية إلى (المعنى القومي والعرقي) الضيق والمتعصب المناقض والمنافي لمعنى (الهوية الوطنية) وبالتالي اختصار تاريخ وتكوين الشعب العراقي إلى تاريخ القبائل العربية التي نزحت إلى العراق و(أسلمت) سكان العراق الأصليين الناطقين بالسريانية. لقد تم تربية العراقي (العربي) على أنه منحدر بصورة لا تقبل الجدل من القبائل العربية التي نزحت بعد الفتح الإسلامي, وشعور العراقي العربي أنه غريب (سلالياً وبدنياً) عن تاريخ أسلافه صانعي حضارات الرافدين السامية. وهذه التربية القومية دفعت الجماعات العراقية المختلفة للبحث أيضاً عن تواريخ وأصول مختلفة خارج بلاد الرافدين: الكردي وجد تاريخه الميدي الإيراني ( 13 ) . التركماني وجد تاريخه التركي العثماني. السرياني لجأ إلى التاريخ الرافديني, ولكنه جعل نفسه غريباً تماماً عن تاريخ الرافدين العربي الإسلامي .
رابعاً : إنشاء الدولة الحديثة في العراق :
تنشأ الدولة (وتنشـأ الدولة على صورة من الصور الآتية:
الصورة الأولى: قد تنشـأ دولة من عناصر جديدة باستقرار مجموعة من السكان على سطح إقليم سواء كان غير مسكون، أو مسكوناً بقبائل همجية أو بشعب قليل أو ضعيف، وهذا نادر في الوقت الحاضر كنشـأة جمهورية ليبيا.
الصورة الثانية: قد تنشأ الدولة الجديدة من عناصر قديمة، نتيجة تفكك أو انحلال بعض الدول القائمة، وهذه هي الصور الغالبة في إنشاء الدول الحديثة .
الصورة الثالثة: قد تنشأ الدولة الجديدة عن طريق انضمام عدة دول بعضها إلى بعض أما في شكل دولة موحدة.
والدولة كما تنشـأ وتزدهر وتسـود قد تتدهور ثم تزول بفقدان أحد العناصر الأسـاسية اللازمة لوجودها كدولة، كالسكان والأقاليم أو الحكومة، وأن كان فناء الدولة يأتي في الغالب من انعدام اسـتقلالها بضمها طوعاً أو كرهاً إلى دولة أخرى ) وفقاً لقواعد القانون الدولي باكتمال العناصر المكونة لها من إقليم ورعايا وحكومة واعتراف بقية المجتمع الدولي بهذه الدولة الجديدة . يقول الباحث العراقي غسان العطية في بحثه عن (نشأة الدولة) في العراق، مقرراً الحقيقة التالية بحكم نتائج البحث على الرغم من كونه انطلق في دراسته من قناعات وطنية وقومية: لم يكن هناك حتى ذلك الحين مجتمع متماسك، طبيعي، بأي شكل من الأشكال، يمكن تشخيصه بأنه مجتمع عراقي،.... فالموصل تتطلع نحو تركيا، وبغداد نحو إيران، والبصرة جنوباً نحو الخليج العربي والهند. بل كان من المألوف تشخيص الأفراد بأن هذا بغدادي وهذا بصراوي وهذا مصلاوي (أو موصلي) بدلاً من عراقي، لأن كلمة عراقي ليس لها معنى محدد. إن مصطلح العراقي استعمل في أوائل القرن العشرين ... بينما استمرت الإشارة طويلاً للأفراد على أنهم أما رعايا عثمانيون أو أفراد من الطائفة الشيعية، أو من أبناء العشائر، أو حتى شيعي حضري، أو عشائري شيعي لأن الدين لم يكن كافياً لتوحيدهم. وباختصار فإن التقسيم السائد للبلاد إلى ثلاث ولايات، إنما يؤكد نمط الحياة المختلف للأقاليم الرئيسة للبلاد، كما يؤكد في النهاية حقيقة: (أن العراق بحدوده الحديثة لم يكن له قَطّ وحدة سياسية قائمة قبل القرن العشرين) ( 14 ) .
ففي أعقاب اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت غنائم الإمبراطورية العثمانية بين بريطانيا وفرنسا، جرى إنشاء العراق من ثلاث ولايات عثمانية وهي بغداد والبصرة والموصل . وقد لخص أحدهم هذا الوضع تلخيصاً رائعاً بقوله: " لقد كان العراق من صنع تشرشل الذي خطرت له فكرة جنونية وهي الجمع بين حقلي نفط متباعدين وهما كركوك والموصل وذلك بدمج ثلاث فئات من الناس وهي الأكراد والسنة والشيعة". وربما كانت هذه الولادة الصعبة غير المتوازنة هي التي جعلت من تاريخ العراق الحديث سلسلة متواصلة من أعمال العنف .
وقد تم عملياً إنشاء الدولة الجديدة بسرعة. ففي خريف 1920 وصل كوكس، مندوباً سامياً، إلى بغداد، وأعلن انه جاء العراق (لتشكيل حكومة وطنية بنظارة حكومة بريطانية) وبما أن الثورة كانت ما زالت قائمة حين وصوله فقد أضاف: (ولقد يصعب جداً على فخامته تنفيذ نوايا الحكومة البريطانية، ما دامت بعض أقسام العشائر والطوائف في العراق تعادي الحكومة).. وإنْ استطاع كوكس الكلام بهذه الطريقة فلأنه كان في بغداد من كان على استعداد للتعاون معه ( 15 ) ، ثم قام باختيار نقيب الأشراف في بغداد رئيساً لأول حكومة (ضمت في عضويتها كل من: السيد عبد الرحمن الكيلاني: رئيس الحكومة المؤقتة. والسيد طالب النقيب: وزير الداخلية. والسيد جعفر العسكري: وزير الدفاع. وساسون حسقيل: وزير المالية. والسيد مصطفى الآلوسي: وزير العدل. والسيد محمد مهدي آل بحر العلوم: وزير المعارف. والسيد محمد علي فاضل: وزير الأوقاف. والسيد عزت باشا الكركوكي: وزير الأشغال والمواصلات.
). ثم دخل مباشرة في عملية ذكية من الضغط، بإصداره بيانات فحواها انه يعود إلى العراقيين أن يختاروا نظامهم السياسي، وذلك من خلال (مؤتمر عام). ولكن عليهم أولاً انتخاب مندوبين عنهم لهذا المؤتمر العام، مما يعني دورة انتخابات. ولكن هذه الانتخابات غير ممكنة طالما الثورة مشتعلة، والنتيجة محاولة إبراز الثورة على الإنكليز كعقبة أمام تقرير العراقيين لمصيرهم. ثم قام البريطانيون بقمع محاولة الشيخ محمود الانفصال بلواء السليمانية لنفسه.
وقرر البريطانيون إرسال فيصل للعراق. فقام جعفر العسكري، وزير الدفاع في الحكومة العراقية الأولى بطلب انتدابه من أبيه ملك الحجاز، بينما أجاب فيصل الطلب بقبوله: "إذا كان أهل العراق يرغبون حضوري، فأنا مستعد للحضور". وقام البريطانيون بإبعاد السيد طالب النقيب إلى سيلان، بعد أن تبدت منه معارضة لاستقدام فيصل (وذلك لكونه عراقياً فيما فيصل هو من أهل الحجاز، هذا من جهة. ومن الجهة الأخرى، لطموحه بالمركز لنفسه، على الأرجح) .

المصادر
1 . علاء جاسم محمد الحربي: الدولة العراقية بين التوجه القومي وموالاة بريطانيا 1921-1958، بغداد، مجلة دراسات تاريخية، تصدر عن بيت الحكمة، العدد الرابع، السنة الثالثة (تشرين أول 2001)، ص4
2 . نزار توفيق سلطان الحسو: الصراع على السلطة في العراق الملكي، بغداد ، مكتبة الكندي، 1984، ص35
3 . لوتسكي: تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجمة: عفيفة البستاني،موسكو، دار التقدم، ب. ت.، ص 463
4 . عبد الأمير هادي العكام: الحركة الوطنية في العراق (1921-1933)، النجف، مطبعة الآداب، 1975، ص36
. 5 . كمال مظهر أحمد: دور الشعب الكردي في ثورة العشرين العراقية، بغداد، 1978، ص (47-76)
6 . عبد الرزاق الحسني: أحداث عاصرتها، مجموعة بحوث تاريخية لأحداث عاصرت بعضها وأسهمت في البعض الآخر فهي بمثابة مذكرات نادرة، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة،1992، ص 42
7 . سيار الجميل: انتحار دولة العراق المعاصر، مكاشفات تاريخ سريالي مسكوت عنه ودعوة للوعي عند العراقيين، صحيفة الزمان، العدد (1588) بتاريخ 25/8/2003
8 . مجيد خدوري: العراق الجمهوري، بيروت، الدار المتحدة للنشر،1974، ص 11
9 . سيار الجميل: المستقبل الجديد يتطلب فهم عناصر تكوين التاريخ، صحيفة الزمان، العدد (1745) بتاريخ 1/3/2004
10 . جاد الكريم الجباعي: إشكالية الوطني والقومي في الخطاب السياسي العربي، تحديث الأربعاء 14/5/2003، ، ص4
. 11 . علاء جاسم محمد الحربي: الدولة العراقية بين التوجه القومي وموالاة بريطانيا 1921-1958، بغداد، مجلة دراسات تاريخية، تصدر عن بيت الحكمة، العدد الرابع، السنة الثالثة (تشرين أول 2001، ص30
12 . مجيد خدوري: العراق الجمهوري، قم، انتشارات الشريف الرضي، 1997، ص (11-12)
13 . سليم مطر: الذات الجريحة، إشكالية الهوية في العراق والعالم العربي، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1997، ص 14
14 . غسان العطية: العراق، نشأة الدولة (1908-1921)، مصدر سابق، ص (33-37)
15 . عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، ط 7، (عشرة أجزاء)، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1988، ج1، ص10








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما الهدف وراء الضربة الإسرائيلية المحدودة في إيران؟|#عاجل


.. مصادر: إسرائيل أخطرت أميركا بالرد على إيران قبلها بثلاثة أيا




.. قبيل الضربة على إيران إسرائيل تستهدف كتيبة الرادارات بجنوب س


.. لماذا أعلنت قطر إعادة -تقييم- وساطتها بين إسرائيل وحماس؟




.. هل وصلت رسالة إسرائيل بأنها قادرة على استهداف الداخل الإيران