الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مجموعة الشاعر اللبناني بول شاوول -حديقة الأمس-: كما لو كانت الكتابة هي الحديقة

المثنى الشيخ عطية
شاعر وروائي

(Almothanna Alchekh Atiah)

2020 / 8 / 2
الادب والفن


كما لو كان رائد الفضاء التاسع في برنامج " /one strange rockصخرةٌ واحدةٌ غريبة"، الذي يرصد الأرض وتناغمِ مكوناتها، حركةً وموتاً وحياةً، من خلال أعين ثمانية روّاد فضاء، يطوفون كما الحجاج حول الأرض الكروية ـــ يرصد الشاعر اللبناني بول شاوول، ولكنْ من الأرض أو من فضاء الشعر المتدفق ينابيع من الأرض، في مجموعته الجديدة "حديقةُ الأمس" حديقةَ ذكرياته، ورؤاه، وفلسفته عن تناغم كائنات الطبيعة، ضمن حيّز الحديقة الأرضية التي يعرف مثلَها كلّ قارئ، ولا يعرف كذلك ماذا يجري في نسغ حديقته من حركةٍ وموتٍ وحياة، إن لم يَعِش السكون في التأمّل الذي تحرّض عليه حديقةٌ مثل حديقة بول شاوول ، من أجْل عيش متعة الغور في ما يحيط بنا ويتعايش معنا، وتمتزج ذراته عند موته وموتنا بذراتنا، ومن أجل الخروج بخلاصة معرفتنا التي نبعت من تأمّلنا، مثلما، وبغير ما، ربما، خرج شاعر حديقة الأمس بما ختم به مجموعته في قصيدة "خروج":
"هذه الحجارة التي تلمع في العتمة
هذه الكلمات التي تخرج ولا تعود
هذه الخضرة الغامقة في الورق
هذا الورد المضطرب
هذه اليد التي لا تعرف من إشاراتها
سوى ما يلمع في العتمة
سوى ما يخرج ولا يعود.".
وكما لو كان مصوراً من "ناشيونال جيوغرافيك"، يهيئ بول شاوول حواسّه الست ويوزّعها في جميع خلايا الحديقة، لتتناغم كاميرات الحواس في التقاط ما ظهر وما يوشك أن يظهر وما لم يظهر، وتثير بهذا خلاصة الخروج بأن "ما يخرج لا يعود": في الصباح والظهيرة، في الليل وظلمته العميقة، في الفجر وضيائه النديّ، على رؤوس أشجار السرو كما على العشب، على غبارِ وفي رفّة جناح الفراشة التي "ترتب الحديقة كل صباح وتغادرها كمن تسلل إلى الهواء خلسةً"، في الهواء الذي يتحرّك بهيام العاشق و"يهزّ السروة برفق ليملأ الحديقة بأسرارها الليلية"، في صوت الحسّون الذي يقود أوركسترا حياة الحديقة قبل أن يتذكر أنه داخل قفصه في النهاية، وفي الألوان التي يتشارك الشاعر بريشة الفنان التشكيلي، وميزان المخرج المسرحي، مع الهواء، والفراشة، وعصفور الدوري، والحسون، والشجر، والورود، والشمس، والقمر، وما تتنوع وتتفرد به الكائنات في رشّ الحديقة بهذه الألوان، وفي كلّ همسةِ حياةٍ، كما في الموت الذي يرافق الكائنات غباراً كان كائناتٍ.
وكما لو أنه يريد تجميدَ لحظة جمال ما يخرج رغم يقينه بلا جدوى ذلك ـــ لكنها مهمّة الفن على أية حال في تعامله مع فكرة الخلود ـــ يجمّع بول شاوول ما تلتقطه حواسّه من جمالِ تَفَجّر الحياة وسريان أنفاسها في كائناتها، وذبولها في الحديقة، كأمثلةٍ: هواؤها الذي يحمل عطر الحياة وغبار الموت، أشجارها العالية، السروة والصنوبرة والكينا والزنزلخت، ورودها التي يتربع فيها الياسمين على العرش ليوزع الأدوار، وتضوع فيها وردة الفتنة بالشبق "كامرأة تنتظر الصباح/ لتفتح ساقيها/ وصدرَها/ وأنفاسَها/ وتفوحَ من/ كل جسدها"، مع كائنات الحديقة الأخرى التي لا تخلو منها حتى البزّاقة، وتفاصيل إحساس الشاعر بكل هذه الحيوات.
ويرتّب شاوول ما جمّع واختزل منه الكثير وفق فلسفته عن خلاصة الشّعر على الأغلب، في قفصٍ مفتوح الباب أو بنيةِ ظاهرةِ ينتظم فيها أحد عشر فصلاً أو قصيدةً متفاوتة الطول تحت عناوين: (حديقة بلا أبواب، الصباح يكرّر جمله على الحديقة، مقامات الهواء، الألوان، الفراشة ترتّب الحديقة، أدوار الياسمين، الليركي وسط الحديقة، الأصوات الشاحبة، الحسون مايسترو الحديقة العالية، الجبال، الخروج). ويتفرّع عن هذه الفصول أو الأغصان الرئيسة في شجرةٍ ثرّةٍ باسقةٍ، واحدٌ وثمانون عنواناً، وعددٌ كبير من الأرقام اللاتينية، تتوالد كقصائد فرعيّة لهذه القصائد الأم. وكما لا يفعل الشعراء عادةً في مجموعاتهم التي تتجاوز المائة صفحةٍ بقليل، وتتنوّع مواضيعُها وإن انتظمت ضمن وحدة عامة، يتدفّق بول شاوول بعدد مائتي صفحة من الشعر الخالص، يلتزم فيها بموضوع واحد هو "الحديقة"، التي يمكن اعتبارها قصيدةً واحدةً وإن تميّزت قصائدها الفصول وفروعها بامتلاك نسيجها كقصائد مستقلّة.
وكما لو أن الظلال التي تتحرك على أجنحة الهواء؛ والروائح التي تطلقها أزهار الحديقة في ضوع توقها للتواصل والتداخل والتفاعل؛ والألوان التي ينشرها أبيض الياسمين بموشور عطره؛ والأصوات الطليقة التواقة للحياة وإن من داخل قفص الحسّون؛ وحركة الكائنات المتفاعلة المتصاهرة المتمايتة المتحايية في بعضها... كما لو أن ما يتفجر وما يذوي من حياةٍ قد تداخل مع أحاسيس الشاعر وهي تعاني جمال ما تلتقط، يخرجُ أسلوب تجلّي الكلمات وانسيابها وتموّجها وتدفّقها وطيرانها وإيقاع أصواتها، في حديقةِ أو قصيدةِ نثر بول شاوول؛ متناغماً في التركيب والإيقاع والتفاعل الانصهاري العميق مع موضوعه. ويعيش القارئ هذا التناغم بين حديقة الشاعر وكتابته موشّحاً بسحر الغموض في قصيدة نثر ما بعد الحداثة التي يتواشج فيها السّرد القصصي مع اللقطة الفنية التشكيلية، مع المسرحة حيث يحرّك الشاعر كائنات حديقته من نباتات وطيور وحشرات ومكونات كونية وبشر كما لو على خشبة مسرح، في تراكيب متداخلة سلسة أخاذة للجملة الشعرية، يتمازج فيها الواقع العميق، والمتخيل، والحلم الذي يبرق وتتدفق صوره بينابيع الكتابة الآلية السوريالية، لتكون الكتابة هي الحديقة والحديقةُ الكتابةَ، حيث:
"فجأة. الغموض. فجأة ينتقل الغموض من فكرة إلى فكرة )يا لتهافته(. ومن إصبع إلى إصبع )يا لفجاجته( من القميص إلى الشَّعر. تماماً بالخفة السرّية نفسها التي ينتقل فيها من السروة الثاوية إلى الوردة المخذولة فإلى أوراقٍ تمازجت وفروعها وفوحها لتؤلف نوعاً غامضاً من الكائنات. ثم ينتقل الغموض من رؤوس الأعشاب إلى أطراف القدمين تسيران ببطء القدمين البطيئتين من غموض إلى غموض )ربّما من موت إلى آخر(."، وحيث: "المجهول يحرس كل شيء. المجهول الذي يحرس بعصاه كل وردة اعتصمت في لونها. أو كل شجرة تُمسك أوراقها بأطراف خوفها. الغموض الخلاب. يحرسه المجهول الخلاب بعصاه العمياء. حتى الأنف والشَّعر والقميص ووجه الواقف أحياناً بلا سبب وسط الحديقة. في عتمة الليل.".
وكما لو أن الحديقة تحتاج لكي تكون حديقةً إلى كل مكوناتها، بما فيها إحساس الشاعر وكتابته، ينسج بول شاوول بدلاً من القصيدة روايةً شعرية عن الحياة الواحدة بين الكائنات وتمازج الحياة والموت وموت الزمن. وتتداخل هذه الرواية مع معرض للفن التشكيلي، يعرف فيه الشاعر كيف يفشي أسرار تمازج أحرف الأصفر والأزرق والأحمر، ويلوّن فيه الهواء وعطر الوردة وصوت الحسّون وحركة أوراق الشجر وخجل الوردة، توقَ الحواس وشغفها لعيش الجمال. ويتداخل هذا المعرض مع مسرحية أطفال، ومسرحية كبار، تحضرُ فيها شخصيات الهواء والفراشة والياسمينة والغاردينيا والتينة والزيتونة وعصفور الدوري الذي يبعثر الزمن في الحديقة بعبث منقاره، وشخصيات عديدة تكمل المشاهد. وتتداخل المسرحيات بموسيقى أوركسترالية يقود عازفيها الحسّون الذي ينسى في غمرة بث الموسيقى في قلوب الكائنات أنه في قفص. وتتداخل الموسيقى مع فيلم آفاتاري، تأخذ الجبال فيه دور سقف الحديقة الذي يدور بالأرواح، ويتداخل هذا مع دوران مركبة فضاء، مع وميض كاميرات مصوري دواخل الطبيعة، مع يد فلاحٍ تتأمّل البرعم الذي بزغ فجأةً، مع دهشةِ طفل يكتشف لتوّه متعة العد على الأصابع، مع الحسرةِ دون ألمٍ حيث الحكمة تعلّمنا أنّ علينا الرضا بمرور الجمال الذي يحمل حياتنا، وعيشه اللحظي دون محاولة احتجازه عمّن يأتي بعدنا.
وكما لو من دون أبواب، يدخُل بول شاوول ويُدخلنا معه حديقته. يمحو صور الظاهر من أعيننا لتتجلّى صور الباطن. يسحب نفْسَه ويسحبُنا معه، من منفانا ومنفى حديقته العالي إلى الحضور وسط الجمال، ولكنْ، يا لمصير الإنسان ويا للحسرة ويا للأسى، إذ يقف الغياب في النهاية مكان الأبواب.

بول شاوول: "حديقة الأمس"
دار النهضة العربية، بيروت، لبنان 2019
200 صفحة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شبيه عادل ا?مام يظهر فى عزاء الفنانة شيرين سيف النصر


.. وصول نقيب الفنانين أشرف زكي لأداء واجب العزاء في الراحلة شير




.. عزاء الفنانة شيرين سيف النصر تجهيزات واستعدادات استقبال نجوم


.. تفاعلكم : الفنان محمد عبده يطمئن جمهوره على صحته ويتألق مع س




.. المخرج التونسي عبد الحميد بوشناق يكشف عن أسباب اعتماده على ق