الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


// لامنطق للحياة بتوقيت بغداد // الواقع في حيز الفنتازيا

رائد مهدي
(Raed Mahdi)

2020 / 8 / 3
الادب والفن


موضوع نقدي كتبته عن رواية (بتوقيت بغداد)
للأديبة الروائية العراقية منى الصراف .


كأي كاتبة على قيد العقل والفكر والضمير وتلك السمات من لوازم أدباء الواقع الذين تتلخص رسالتهم الكتابية عن هموم الواقع ومشاكله وحلولها وكل ماهو متصل بذلك الواقع باعتبار أن المطلب هنا أشمل ،وبحسب ذلك تكون أولويات أهمية تسليط الاضواء وإنارة ماهو ملتبس بالألم وتعويم ماهو مغمور من أوجاع المجتمع خاصته وعامته وإن كان غارقا وعالقا تحت فوبيا التعرض للموروث البالي واجتناب الخطوط الحمراء التي وضعها من وضعها بغية تأبيد حبس العقل البشري وسمل تطلعات الحرية من أعين المشككين والذين يشكلون الخطر الأعظم على من سلبوا الانسانية أمانها وجردوا المجتمعات من حرياتها وكبلوا عقول الشعوب بخرافات واوهام سالت لأجلها أنهار من الدماء لاسيما في شرقنا الذي تعشقه الاساطير منذ آلاف السنين ويعشقها دون هوادة، لذا من الطبيعي أن تجسد الكاتبة احداث رواية واقعية في حيز أدب الفنتازيا وكما تداخلت احداث الواقع لمجتمعها بمسوغات ومبررت وأدوات متعلقة بجذور الاسطورة والوهم واللامعقول فحري حين يتجسد الواقع بكتاب أن يعلق بحيز اللامألوف ويتداخل معه في نتاج أدبي حافل بقضية مجتمع تطرح الكاتبة فيه رؤيتها ووجهات نظرها من خلال ابطال الرواية وشخصياتها وتسهب في طرح المشاكل والحلول بحبكة يصعب تمييز مكان عقدتها تحديدا لأنه بكل فصل من فصول الرواية تجد العقدة والحل وتلتقي كل الفصول بعقدة جوهرية تتمثل باستلاب الوعي الذي تنجم عنه كل مشاكل الحياة في البلد والمجتمع الذي كتبت عنه الرواية فتتمثل العقدة في غربة الوطن وغربة الروح الى ان تنتهي احداث الرواية الى مصير مجهول الوجهة والهدف يستوعب كل الاحتمالات والفرضيات المألوفة واللامألوفة للذهن البشري ،لتنتهي الرواية مثلما بدأت لتبدو الحياة دائرة للبحث عن المعنى ويبدو من خلالها الموت ليس نهاية للأشياء بل البوصلة التي تعيد تصويب المسار ،ليعيد الكائنات الى مسار ابديتها الغير مألوف لكل فرضيات الذهن البشري مهما بلغت عظمة افتراضاته ومهما بلغ من التمنطق والغرور، ويتمثل الحل بتسلح المرء بالحرية ،فمالم يتسلح الانسان بالحرية سوف يكون مستعبدا للأوهام والخرافات ويعلق بفخ كل ماهو غير حقيقي ،ومالم يتصل الانسان بالحقيقة سيذبل وعيه ويجف ويعقم عن مواكبة لحظته الولادة للمعنى الذي يمضي كل ايامه لاهثا عنه في شيء ما.

تتشعب الاحداث في رواية بتوقيت بغداد لتتفرع الى احداث رئيسية واخرى ثانوية فكانت الاولى تشمل الإقصاء الناجم عن إختلاف فكري وعقائدي بين الصديقين( أحمد وعلي) والنظام السياسي الحاكم في بلدهما إبان تلك الحقبة من التاريخ مما اضطرهما للبحث عن ملجأ للنجاة من سطوة سلطة البطش فكانت الغربة هي الخيار الأسهل والوحيد لهما فيكون الاغتراب عن الوطن هو الحدث الرئيسي الأول بينما العودة لأحضان الوطن هو الحدث الرئيسي الثاني وبين الحدث الأولى والثاني تسرد الكاتبة احداث ومواضيع متنوعة منها ماهو متعلق بالوجود والنفس والجسد وبعض المفاهيم ووجهات نظر متنوعة.
ومابعد العودة للوطن يجد الجميع انفسهم في هجرة قهرية لم يكونوا مدركين لها ،يكتشفون انهم لم يصلوا بعد الى منزلهم ومحطتهم التي تنتظرهم وبالفعل لم ولن يصلوا الى اي محطة لأن الانطلاق في مسار الابدية سيكون مثلها ابديا بلا نهاية ، لأن الأبدية لاتنتهي بحال ،كذلك من يسير في مساراتها لن يبلغ النهاية وسيبقى على أمل وهم الوصول الى المستقر ليبقى الخيال نعم الخادم المطيع للمحرومين ويستعين آخرون بالوهم باعتباره فسحة كبيرة وباب غير موصود بوجه أحد أعيته حيرة الأسئلة وأضنته اختناقات النفس والجسد وأثقلته الرغبات والتطلعات الى ماهو افضل وأبلغ معنى واكثر انسجاما مع منطق الاذهان وليس الحياة ،لأن الحياة لامنطق لها ولا ترتيب، ونصيب كل فرد منها هو مقدار مايعيه من سعاداتها وتعاساتها ، حتى الموتى في نهاية الاحداث لم يكونوا يعلمون بموتهم، فقط اولئك الذين ماتوا لأكثر من مرة وفهموا ماهية الموت ، لتتكون فكرة لدى القارئ بأن كل مانعرفه عن الموت الآن هو مجرد أوهام ، ولن يستطيع ان يحدثنا احد عن الموت بأمانة ودقة متناهية سوى الموتى ، وحدهم الموتى من يمتلكون حق الحديث عن الموت لأنهم عاشوا فيه وخبروه ، أما تمشدق الاحياء بالحديث عن الموت فهو مجرد ثرثرة .
وتدور الاحداث الثانوية في الرواية عن وجهات نظر متنوعة عبر لسان ابطال الرواية وشخصياتها ،كان منها عن القدر وتلاعبه بحياة الانسان وعن القيامة، والحكمة،وعن الموت،وعن الأبدية،وتغيير القناعات والمعتقدات والافكار،وعن الاستجابة لتغيرات الاحوال ،عن حوارات العشاق،وعن التسلط، وعن الشجاعة، وعن العنف، والموروثات الثقافية والتراثية، واللهجة، وعن جوار المظلومين، وعن الأحلام ونسيانها،واسباب الاخفاق بالحياة،وعن تعلق العقل بإنعكاسات ايجابية،وعن شرب الخمر والوجدان،وعن الحانة، وأن الواقع هو المسرح الحقيقي،وعن جوهر الخمر وظاهرها،وعن خصائص علاجية للبيرة ، مع ان ذلك موضوع علمي تم اقحامه في عمل ادبي لضرورة استكمال فكرة الحوار، كما وتستعين بوجهات نظر تاريخية عن موضوع الخمر معزز بوجهات نظر من كتب دينية وابيات شعرية خطها شعراء خلدهم التاريخ بالاشادة بالخمر من امثال ابي محجن وابي نواس، كذلك تتوالى وجهات نظر عن الموسيقى والشعر والغناء،وعن افتعال الأزمة،وعن الحرية في الاحلام،وعن الجوع والحرمان، وعن التفاهة،وعن الأنوثة،عن الشعور بالوحدة ، وعن غربة الروح والجسد،عن الحب والزواج،عن الرغبة بالحياة،عن تبعات الحب والعشق،عن الدنيا،عن الله ،عن القهوة ،عن الهدف في الحياة،عن توالي الموت والحياة،عن الجنة، عن فوائد الموسيقى، وإن كانت وجهة نظر علمية وجدتها الكاتبة من ضروريات استكمال الموضوع، وعن قوة الحب،وعن الاختلاف بين العشاق، عن جرأة المرأة، عن فلسفة القبلة،عن النشوة الجنسية،عن الروتين،عن طريق الرب،عن الرعية وعن الرعاة،عن اهل الوطن،عن الوطن،عن الغباء،عن الصالحين، عن الزواج والاولاد،عن الصراع في البلاد، عن المعاناة، عن الهزيمة امام الموت والحياة، عن حديث النفس وعذابات التفكير، عن شيخ الدين، عن الشجاعة، عن مواجهة الجمال للقبح، عن الحضارة والانسان، عن الشيئ واللاشيء،عن الألم، عن الضوء والظل، عن القوة من رحم المعاناة ،عن تجريد البلاد من كفاءاتها،عن طبيعة السياسة، وعن الغلبة ، وعن الرسائل الفضولية لحديث مبطن بصوت مسموع، وعن تفنن اللصوص بجرائم السرقة،وعن الاجابات السريعة للأوغاد، عن الشيطان،وعن الشعب الشكائي البكائي،عن معاتبة الإله،عن التاريخ الذي يبرر جرائم الطغاة الدموية ويساند الظلمة،عن من يملك كتابة التاريخ،عن غياب روح النقد والخوف من الاعتراف بالأخطاء،عن اسباب كوارث اليوم، عن رغبة الارهابيين بالمجون في عالم آخر مقابل ازهاق الارواح البرئية بهذا العالم، عن فضاعة القتل وأن الزنى اقل شرا من القتل،عن السخرية،عن بيوت الله المزعومة، عن التوبيخ، عن الفقر، عن الخجل ، عن المنح، عن الخلاف،عن الصوم عن الطعام ،عن الروح، عن الايمان ،عن الايمان بحب الزوجة ، عن محبة الله، عن محبة الله من وجهة نظر الارهابيين، عن التنمر ، عن النشوة الفوقية، عن استخدام العقل بشكل افضل، عن الهجرة ، عن جنون الارهابيين، عن حافلة القدر التي يركبها الجميع دون وعي منهم حيث تجلس الاضداد والنقائض، الضحايا وجلاديهم في مركب واحد ، عن الكابوس، عن الفناء والخلود، عن مقدمات الحياة الأبدية،عن الخطيئة، عن الشيخوخة ، عن الخوف، عن فم المارد الجبار، عن الطمأنينة والسكون، عن الرفض العقلاني لمصير يجمع الجاني والمجني عليه بمكان واحد، عن الوان الموت، وتضع الأبدية في حيز حركة لانهائية مقرونة بالاسباب، وأن لاسبيل الى سلامة الجسد من الاخطار ومن كل انواع الاذى إلا باختفاءه التام عن هذا العالم وزواله من عالم الصورة ،وبناء على ذلك ويمكننا القول ان السلام اوالطمأنينة والسكينة مكانها الأصلي والأبدي في عالم يخلو من الصورة والشكل، وطالما الانسان متجسد في البدن فهو محكوم بالضيق وان الحل الأمثل لمشكلة وجود الانسان في الارض مرهون بمقدار تحكمه في وعيه فلا يكرسه للجسد، بل الى وعي تحرر من كل رغبة ليقود صاحبه الى السلام اللامتناهي الغير مرتبط بشكل او صورة .تلك كانت عناوين أهم الاحداث الرئيسة والفرعية في سرد الرواية .

التنوع في مشاهد الرواية
تبدأالرواية بمشهد للخوف والحيرة لشخصين يفران بجلدهما من بلاد محكومة بالخوف والرعب ،كذلك تنتهي الرواية بمشهد للخوف والرعب والحيرة، ومابين المشهدين تتنوع مشاهد للحنين الى الوطن ومشاهد للحب والعشق ومشاهد للعبث والترويح عن النفس ومشاهد غنية بحوارات فلسفية ووجهات نظر إنسانية مطعمة ببعض الآراء العلمية ، لقد سادت سمة البحث عن المعنى والتطلع لفهم يشبع فضول المرء للشعور بكينونته والمغزى من وجوده والإحساس الذي يربطه بالحياة بنحو يشعره بالسكينة والسلام فمرة يكون المعنى الاساسي للحياة هو التعلق بالوطن والتخلص من الشعور بالاغتراب وتارة اخرى يكون المبدأ والمعتقد والدين والموروث هو الرابط الاساسي لشعور المرء بمعنى الحياة وأخرى يكون معنى الحياة في الحب وتارة اخرى في الحكمة والفهم السليم المقترن بالذكاء وفي جانب آخر يكون معنى الحياة بالانسحاب العقلي من آلامها ومنغصاتها عبر شرب الخمر وإطفاء جذوة كل حديث منطقي يشعر الانسان بمكامن اوجاعه ويضاعف من تركيزه على الألم والمشاكل، واحيانا اخرى يكون معنى الحياة هو الوعي الكلي بالحياة والذي يتحقق في المشهد الاخير في الرواية حين لايعي احد بموته الجسماني ويكتشفون ان الحياة الحقيقية لاشكل لها ولا جسد وعلى الفور يستنتج القارئ المتأمل للمشهد بأن آدم حين عصى الله واكل من ثمار الشجرة المسمومة قد مات فيه الاحساس بكلية الحال وصار مجرد جزء وصار مجرد جسدا، منحصر شعوره في جسده، ليقضي سني عمره يخدم في سجن الوعي الجزئي، ويوم اطلاق سراحه من هذا الجسد ينل حرية الوعي والاحساس بكلية الوجود ويبحر في المعنى اللانهائي من أبدية لايربطنا معها معنى مقرونا بحال من احوال عالم المادة والطاقة لأن المادة والطاقة هي عوالم محكومة للأسباب والمسببات بينما الأبدية هي الحرية من السبب ومن المسبب بل هي الوجود الغيرمألوف او هي الحياة الحقيقية والجديرة بالتعظيم والتبجيل، وتذهب كاتبة الرواية الى ان ألألم والمنغصات والمشاكل هي جزء حتمي من حياة المرء في هذا العالم وان السكينة التامة والسلام الشامل لن تكون للمرء الا بحالتين الاولى فناء هذا الجسد واختفاءه بقبر عن آلام الحياة ومنغصاتها والثانية في بلوغ المرء مرحلة من الوعي الكلي بالحياة والانسحاب من الوعي الجزئي المتمثل بالتركيز على الجسد وتطلباته وكأنها تخاطب عقولنا بأن مفتاح الخلاص الانساني من محنة الوعي المجزء تبدأ بالحرية وفك القيود عن الذهن وإطلاق العنان للإحساس وللخيال بالتحليق خارج مألوفات الحقائق التي يطوف حولها الناس ويخشون التجرء على فك الارتباط معها بالشك للحظة ، وترتئي الكاتبة ان الموت هو الحقيقة وإن كان من وجهة نظري الشخصية أن الموت هو البوصلة التي تشير الى جهة الحقيقة وطالما كنا عالقين في فخاخ الرغبات التي هي من لوازم عالم الجسد العالم الجزئي المنسلخ عن العالم الكلي الذي كان آدم هو الذات الواعية به والملتذة بجنة الشعور بالكينونة اللامتناهية ، نعم نحن جميعا من آدم وكلنا واحد وإن كنا مجزئين في الأجساد ، وحين نموت تعود ذات آدم الإنسانية واحدة واعية بكل الوجود متحررة من تبعات الخطيئة التي كان ثمنها تشتت الوعي وانفجاره بقنبلة التفكير المنطقي والتي تتشابه الى حد كبير مع قنبلة ذلك الارهابي التي تفجرت في حافلة الركاب لتنقلهم الى بداية مرحلة جديدة جامعة للأحياء والموتى في مشهد واحد وعالم واحد لتدعم فكرة اننا جميعا متحدون بالوعي بل نحن في حقيقتنا آدم مجزء وفي التاريخ مايدعم هذه الفكرة بمافعله المسيح على الصليب حين صالح الانسان مع الله عبر جسده الذي قدمه قربان ليحاكي العقول بأن الجسد هو المانع من حضور الانسان في وعي الله الكلي والذي من خلاله يعي كل شيء، الحقيقة بنوعيها المطلقة و المجزأة كالتي اختارها آدم فمال وعيه الى جزء الجسد وانبثق احساسه بهذا العالم ومضى الى لوازمه وكذا ابناءه وذريته وصارت أبلغ طموحاته هو التحرر من هذا الوهم من خلال البحث عن التواصل مع الله والتحرر من الذات الجزئية الى الذات الكلية. في هذه الرواية يجد القارئ الكثير مما يحرض على الحرية بكل ألوانها وأطيافها فتبدأ الرواية بالبحث عن الحرية وتنتهي الرواية برحلة متحررة من أي وجهة وتوقيت ، الحرية هي أن لاتصطدم كي لاتتجزء وتتبعثر ، إن الغبار الكوني الذي صاروا اليه ركاب تلك الحافلة ماهو الا بعثرة جديدة الى وجهات لا اسم لها ولا زمن لتتشكل بملء حريتها كيف تريد واين تريد وحيث ماتجد المستقر الذي يستحق وبمجرد ان يتشكل الانسان من جديد يعود المرء الى اللغط والاحاديث المتشابكة ، لأنه كما قلنا سابقا ان كل شكل ماهو الا انفصال محدود وانسلاخ بائس مقيد الابعاد.

وعطفا على الحوار في الرواية نجده أيضا قد تشعب الى حوارات المرء مع ذاته وحوارات بين الآخرين ، وغالبا ماكان (أحمد) يشعر بالاستياء من محاورة ذاته ،خاصة حين لاتحمل تلك الحوارات حلول مقنعة ولا تفضي الى نتيجة مرضية.
وتتشعب الحوارات بين اشخاص الرواية فمنها احاديث الاصدقاء وحوارات العشاق واحاديث السكارى واحاديث افراد العائلة وآخرها حديث الحافلة الذي كان الى ثلاث محاور حوار الزوجين وحوار الارهابي مع راكبي الحافلة وحوار ركاب الحافلة مع بعضهم فيتمحور حوار الزوجين عن الهجرة من اجل رفاهية العيش وحياة افضل بينما يتمحور حديث الارهابي عن الموت من اجل حياة افضل ورفاهية جسد في عالم الآخرة بينما ركاب الحافلة لامحور محدد لحديثهم هم فقط يستجيبون للصوت العالي لينصتوا له ، وكانت هناك بعض المفاجئات في حوار بطل الرواية (أحمد) مع صديقه (علي) فكان المتوقع منهما وهما على مرمى حجر من حدود البلاد التي هربا اليها طلبا للنجاة أن يتحاورا عن شؤونهما واحتياجاتهما وخطة حياتهما بعد عبور الحدود ووطء اقدامهم لأرض جديدة وعن ماذا سيفعلون هناك في بادئ الايام ، بينما كان حوارهما عن مايلاقيه المرء في حياته ان كان مقدرا عليه ومفروض عليه ولاخيار له في مواجهة ذلك ام الانسان مخير وليس بمسير ، حقيقة كان هذا الحديث يكشف لنا ان (أحمد وعلي) ربما تحدثوا سابقا عن هذه الامور واللوازم وقد يكونا غير مكترثين اصلا لتلك التفاصيل المستقبلية لكن الجانب النفسي في جو الحدث كان له أولوية الضوء لذا سلطت الكاتب الضوء على هذه النقطة من المشهد بالتحديد لتؤكد إن احدى عذابات الانسان الكبرى هو عدم فهمه لما يحصل معه ومااصعبه من شعور حين يكتشف المرء أنه لايختلف عن أي قشة تأخذها مياه النهر طولا وعرضا ، طافية بغير ارادتها على السطح ،تقضي حياتها دون ان تبلغ الاعماق لعدم قابليتها على ذلك وبسبب كثافة جسدها الذي يطفو على الحقيقة ،ليدعم بذلك فكرة مفادها ان كل شكل ماهو سوى انفصال عن الحقيقة التي لاشكل لها ولا ابعاد، لابداية لها ولانهاية ، وبينما يميل بطل الرواية الى قدرية احداث حياة الانسان يميل صاحبه وكل من هو يفكر على شاكلته ممن يداخله الخوف من عبثية وجوده تجده يتعلق بأي وهم او اي معتقد او خرافة او اسطورة تنتشله من ذلك الخوف وتشعره بأنه شيء هام في عالم الوجود وتدفع عنه الشعور بتفاهة وجوده الذي معظم البشر أحسوا به يوما مما يضطرهم للجوء الى اي فكرة تنتشلهم من ذلك الشعور القاتل بتفاهة وجودهم بين حقيقة لايمكنهم التعامل معها سوى بافتراضات واستنتاجات عن حقيقة لا متناهية يفرضها ذهن محدود ويستنتجها ذهن محدود ،وكفى بذلك بؤس، ومن مهازل القدر ان يحدثك صاحب عقل محدود عن حقيقة لامحدودة ، وأي جواب يمكن أن يكون هو الصواب وأيها مخطئ، نحن البشر نهرب من احساسنا بعبثية وجودنا الى اي شيء يمكنه ان ينتشلنا من ذلك الاحساس وإن كان وهما او تفاهات سطرها الانسان البدائي لحقبة غائرة في قلب الدهور. وبحسب مايبدو للقارئ أن الحوار يلبي حاجة الكثيرين ممن راودتهم مثل تلك الافكار والتساؤلات ، كذلك الحوار كان به سجالات عن الرجل والمرأة وعن الذكر والانثى وعن الحبيب والحبيبة ففي اكثر من موضع تصادفنا ال هو.... و هي ... ووجهات نظر كأنها استعراض للمبارزة في الآراء ووجهات النظر من دون ان تنحاز الكاتبة لجهة فهي فقط ترصد وجهات النظر ، واحيانا اخرى تطرح التساؤلات وتجيب عليها من خلال الحوارات بطريقة رصدية هي تظهر الآراء المتعارضة احيانا وحتى المتناقضة ، هي تتعمد عدم انحيازها او ترجيحها لرأي لأنها لو فعلت ذلك سوف يشكك القارئ بمصداقية المشهد الروائي ويحرمه من معايشة الحدث بكل كيانه وملء احساسه،ومعلوم أن المصداقية مقرونة بالحياد .وأما عن حوارات الخمر ففيها وجهة نظر قد يعتبرها البعض ردود فلسفية لكنها تلامس وجه الصواب باحتمالية كبيرة فيفترض قارئ تلك الحوارات أن الشعور بنشوة الوجود هو مطلب مشروع باعتباره طبيعة الانسان الاصلية والتي سقط عنها بهذا الجسد وانفصل عنها وصارت نشوته في جسده بعد ان كانت نشوته هو احساسه بوجوده لذا فالخمر تكون هنا بمثابة نشوة تفصل الانسان عن آلامه في عالم الجزء عالم الانفصال عالم الوهم ، لأنه بمجرد انفصل الانسان عن الله طوقته الخطيئة بجسد الانفصال وصار طافيا على الحقيقة وما رمس الاجساد في القبور إلا صورة رمزية الى رجوع الانسان الى عالم اللاشكل عالم الحقيقة، وأما الخمر فيكون سبيلا يجعل الانسان أقرب للاحساس بحقيقته التي ينتمي اليها وسقط عنها وأما وعيه بهذا العالم الجزئي فهو الوهم بعينه والتخبط في ذاته وصميمه، ومع انها وجهة نظر مطروحة الا انها لاتخلو من الصواب.

والى شخصيات الرواية بدء (بأحمد) بطل الرواية والذي كان يجهل مايريد تحديدا فبالوقت الذي يغادر بلاد الرعب ويصل بلاد النجاة يجد جسده بمكان وقلبه ومشاعره في اخرى ، وفي الوقت الذي يشعر به بالعشق تجاه فتاة شامية يجد قلبه مأخوذا بعشق أحضان الام والرجوع اليها فكانت شخصية أحمد تبدو معذبة بمشاعر متعددة الوجهات لاسبيل للمضي نحو واحدة منها دون احداث جرح نفسي بالغ الأثر على مشاعره وحتى لحظاته الاخيرة التي يبدو فيها اقرب مايكون الى اهله وفي قلب وطنه تراه يتفحص هاتفه متابعا لاخبار امرأة من خارج وطنه منساق بالحنين والاشتياق الى معرفة اخبارها ان (احمد) كان يعاني الصراع والانقسام على صعيد مشاعره ورغباته وجسده والنتيجة الطبيعية لكل هذا ان تقوده تلك التضادات للمصير الذي صار اليه في نهاية الرواية.
وأما شخصية (علي) فكان لها حضور في بداية الرواية وآخر في نهايتها ، أما في الاول فكان يطلب حياة كريمة قبل الممات ، وأما في الثاني فكان حاضرا مع ركاب الحافلة بحثا عن وجهة لحياة كريمة بعد الممات ولم يجد مطلبه لا قبل الموت ولا بعده ، وبذلك يجسد اصحاب الطموحات المستحيلة والتي قد يخسر صاحبها حياته وتضيع منه فرصة الوجود من اجل طموحات مستحيلة لاسبيل لتحقيقها من امثال اصلاح العالم او نشر العدل في كل العالم او المساواة والحرية لأبناء الجنس البشري ومن امثال هذه المطالب المشروعة على الصعيد النظري والممنوعة من التطبيق العملي بل من المحال تطبيقها لكنها قد تبدو مصيدة لتسخير الناس واستغلال طاقاتهم بل وحتى التضحية بحياتهم لأجل تلك المطالب المشروعة عقليا ومنطقية والممنوعة بل والمستحيلة التطبيق عمليا ، وبذلك يكون (علي) هو احد الضحايا لذلك الفخ الفكري الذي تستفيد منه ثلة من القادة ويذهب اتباعهم وقودا بنفس راضية وقلب ممتلئ بالحماسة.
الشخصية الثالثة كانت لشاب شامي اسمه (سعيد) يغلب على شخصيته الاستسلام للواقع فكان عاجزا عن مواجهة افراد عائلته الذين منعوه من الزواج بالفتاة التي يحب ، وكان ضعيفا امام حبيبته لأنه لم يدافع عن حبه ، وكان عاجزا عن احتمال ضغط الواقع الذي يذكره بنقائصه فيفر الى الحانة ليشرب الخمر لينسى همومه لكونه ضعيفا تجاه نفسه ولايطيق الوعي بها فهو مهزوم امام الكل ويبدو انه تجسيد للشاب ضعيف الشخصية المسلوب الارادة والخاضع لكل املاءات الطرف القوي، هو يريد ان يمضي ايامه كيفما كانت و تكون.
ونتناول بعض الشخصيات الانثوية في الرواية بدء بشخصية (ليال) التي كانت تبدو مهووسة بالحب وتكون غير متزنة احيانا في تعبيرها عن الحب لحبيبها (احمد) فتطلب من حبيبها مطلب يجعله واصفا اياها بالجنون بينما هي من دواعي سعادتها ان تبدو له مجنونة في حبه ، ويبدو لي بقدر ماتفتقر الذات للإحساس بالحب يكون حجم وشكل استجابتها عند المرور بأجواءه والخوض في اختباره ، ففي ( ليال) استعداد هائل للشعور بالحب ، وحيز انوثة بالغ العطاء، ان (ليال) انثى خصبة القلب تعطيها القليل من الحب وتعطيك جبالا من الحب ، هي نموذج لامرأة حين تحب فهي سخية بلا حدود وحين تصطدم في الحب او ينالها الخذلان فهي تبدو أجن من كل المجانين ، فهي تعيش للحب ومن دونه تبدو لها الحياة مجرد عبث .
والى شخصية (أم احمد) تبدو لنا انسانة بسيطة الفكرة تعيش حياتها بتفكير ساذج وتحمي نفسها من الانهيار عبر معتقدات وتتقوى بالاحلام والرؤى فهي جزء من ايجابيات حياتها ، هي كأي امرأة عادية آمالها بحدود لم شمل ابناءها وان تسعد بوجودهم قربها ، هي تجسد الانسانة البسيطة والعادية جدا فهي لاتمتلك اي حصيلة ذكاء او طموح عال ، وافضل مالديها هو تحصينها لنفسها بالعقائد والحالة الايجابية الناجمة عن الشعور بالامل الذي هي تنتظره وتصبو اليه.
وأما شخصية (والد أحمد) فكانت تجسيد لتلكم الشخصية المتزمتة والتي تفتقر لأي مرونة تجاه مبادئها ،بل كان والد أحمد يجعل مبادئه اولى به من ولده الذي كان يكسب بطرق لا مشروعة بينما هو قطع علاقته به من اجل المبدء والعقيدة التي يتشبث بها ، ان (والد أحمد) كان عبدا للمبادئ مثلما كان ولده (أخو احمد) عبدا لرغباته وطموحاته ، هما يجسدان صراع المبادئ مع الرغبات والطموحات ، وهذا الأمر له صورة على ارض الواقع لم يخلو جيل منها.
والى شخصية (حبيبة سعيد) التي تجسد شخصية تلك المرأة التي لاتميل الى الاصرار على بلوغ امانيها واحلامها ، فبمجرد تخلى عنها سعيد لم تبد اي رد سوى انها مضت الى وجهتها وانتهى الامر ، لعلها كانت من تلكن النسوة القلائل التي تمتلك زمام التحكم بعواطفها وادارة دفة مشاعرها نحو الواقع الذي يستعبد الجميع لظروفه ويحكمهم بمتغيراته ، ولربما هي انموذج للمرأة التي تتكيف مع الواقع فهي كمن يصعد على الموج ليصل دون ان يصده فيكسره ويضربه ضربة تفقده صوابه ووجهته ، وفي هذا النوع من الاستجابة ذكاء داعم للبقاء ، فمسايرة الامر الواقع لاتتم بالصبر وحده بل ينبغي ان يتسلح المرء بالمرونة التي تجعل منه عائم بالصبر فلا يغرق بالصدمة بل يرتقي عليها حتى تتلاشى ويكمل المشوار.
والى شخصية (الزوجين في الحافلة) كانا بوجهتين متناقضتين في الرأي لكن الزوج في نهاية المطاف يستجيب لوحهات نظر زوجته عن الهجرة من اجل حياة افضل وليجسد شخصية الرجل المنقاد من قبل زوجته والخاضع لوجهات نظرها وإن كانت مخالفة لهواه ، هو الذكر الذي لايقوى على الصمود امام انثاه ، هو يعلن استعداده للتخلي عن كل ايمان وإعلانه للايمان بها ، انه يقر بعبوديته للأنوثة وأنها هي وحدها من تستحق الايمان ولوازمه من عبوديات وتضحيات ، وفي هذا الصدد هو يجسد حقيقة الرجل الشرقي الذي يبدو على الاغلب لاهثا خلف الانثى ومستعد للتخلي عن كل ايمان وعقيدة من اجل الفوز بلذة من جسدها ونشوة تشعره بذكوريته ، وهذا (الزوج )يبدو انه شجاع الرأي لأنه يجسد الانسان الواضح والامين مع انثاه فهو يعلن مايشعره تجاهها دون لف او دوران وهو غير محكوم لكبرياء الرجل الشرقي الذي يرى بالتغزل بالزوجة تكبيرا لرأسها كما يقال في الوسط الشعبي فكان الذي بداخله عين الذي على لسانه وذلك يحتاج لشجاعة وجرأة فمن يساير زوجته إلا الحكيم ومن يستسلم اليها بالحب إلا الشجاع.
واما (زوجة ذلك الرجل) فهي وان كانت تبدو اقل ذكاء من زوجها لكنها كانت اذكى منه باصطياد كل مايساند وجهة نظرها من اجل الفوز بتحقيق رغبتها بالهجرة ، هي تجسيد لإصرار المرأة على ماتريد وإن كان مجانبا للمنطق ، لعلها كانت عنيدة لكن عنادها لم يخلو من اللطف، وبحسب لوازم الغايات تكون الوجهات والخيارات .
والى شخصية (الارهابي) التي كانت تبدو شخصية حافلة بالجنون والمجون والرغبات اللامتزنة والتوجهات الانحطاطية والمبررات اللاأخلاقية ، ومع ان احدى راكبات الحافلة تعطي حلا مبسطا لبلوغ الارهابي الى غاية مجونه إلا انه يصر على بلوغ المجون عبر طريق اللاعقل واللامنطق هو يصر على ان القتل والانتحار هو الباب الى لذائذ الجسد ، بينما تعجز كل الادلة العقلية والمنطقية عن ثنيه عن اقدامه لقتل الناس بدم بارد من اجل نشوة جنسية يرومها في عالم اخر ، إن الجريمة المروعة التي ارتكبها الارهابي هي متسقة تماما مع اللاعقل واللامنطق للقدر الذي يسمح لأمثال هذا الكائن اللاعقلاني واللامنطقي ان ينهي حياة الناس من اجل اوهام وخرافات وتفاهات لتكون الحياة العصرية لهؤلاء الناس و الغالية ثمنا لتفاهات العقل البدائي الفج واساطيره البلهاء، وبذلك الموقف البشع يتجسد انتصار الخرافات على العقل والمنطق في عصرنا وسيادتها وهنا تكون كاتبة الرواية قد وضعت يدها على جرح عميق نازف في الشرق منذ عقود ، ومااصعب الحياة للعقلاء في مجتمع لايؤمن بحكم العقل ولا يخضع لسلطة العلم.
عبر شخصيات الرواية تناولت الكاتبة المشاكل والحلول لتمنح القارئ فرصة ذهبية لمطالعة وجهات النظر ونقيضاتها بكل حرية ، واحتراما منها لحرية ميول القارئ هي تترك المساحة مفتوحة لطبيعة تفاعل القارئ مع احداث الرواية ففي حديث تلك الشخصيات ماهو لاعقلاني كما في حوار (الارهابي) لمجتمع الحافلة وهناك تصرفات لاعقلانية كالتي تصدرها (ليال) حين تعشق (أحمد) وهناك رحلة متجردة من العقل والمنطق كالتي يمضي اليها (ركاب الحافلة) الى وجهة غير معلومة وهي تشابه الى حد كبير رحلة حياة معظم الناس فهي تبدو رحلة الى غير عنوان والى زمن غير معلوم .

والى جانب الموضوع والمغزى في الرواية نجد الجميع لاهثون وراء الحل بكل قوتهم وبكل مابوسعهم ويمكننا تبسيط الفكرة بأن الجميع وقعوا بوهم البحث عن الحل لأن الحلول التي كانت متاحة لهم ان هي الا تجزئة للمشكلة وتشتيت لها ولا ينفع تكسير الثلج للخلاص منه طالما الاناء محكم ولاسبيل للإفلات من حدوده، لقد تغرب (احمد) عن وطنه الذي كان يمثل له المشكلة وذهب الى بلاد اخرى باعتبارها الحل المتاح له ،لكن سرعان مااستحالت المشكلة المادية المتمثلة بقتل الجسد او عذاباته من قبل السلطات الجائرة في بلاده الى مشكلة نفسية تعذب قلبه بعواطف الحنين الى اسرته ومحيطه الذي غادره مرغما ، وكذلك حين يحاول (احمد )الهروب من الوعي الذي يمثل له مشكلة عويصة لكونه معذب بمشاعر لا طاقة له على احتمالها فيلجأ للحانة باعتبارها الحل الأسهل فرارا من عذابات الوعي بالواقع، لكن سرعان مايجد نفسه عالقا في تبعات كأمثال تأثير الخمر على عمله او توريطه ودفعه لعلاقات قد تضيف الى قلبه عبء اخر من مشاعر التعلق والاحتياج الى علاقة طويلة الامد مع (ليال) وماترتب على تلك العلاقة من منغصات حملها معه الى وطنه حين عاد ورغم انفصاله عن( ليال) جسديا لكن الانفصال النفسي لم يتحقق وظل يعاني لهفة انتظار اي رسالة منها لتروي ظمأ قلبه المتعلق بها ، هنا المشكلة ايضا تحولت من حيز الجسد الى حيز النفس ، ايضا بالنسبة لشخصية (سعيد) الذي ظن انه بتخليه عن حبيبته والاذعان للواقع الذي فرض عليه التخلي عنها والذي كان هو الحل الوحيد والمتاح لمواجهة رفض الاهل لحبيبته لكن الامر لم يكن سوى تحويل للألم من ألم الارتباط في الجسد والزواج المنهي عنه من قبل الاهل الى الألم النفسي الهائل الذي يدفعه لاحتقار ذاته لتخليه عن حبيبته ، والحال ذاته بالنسبة (للارهابي) الذي كان يعاني عذابات الكبت الجنسي والتي كانت تمثل له المشكلة ولكنه وقع في فخ آخر من العذاب وهو يلاقي تهمة الجنون واحتقار ارواح سكان الحافلة له واستهجانهم لعمله وقد تحول حلمه بالفوز بنكاح الحور العين بعد تفجير نفسه مباشرة الى تأنيب وتوبيخ ارواح الضحايا له ويكون بفعلته تلك قد تحول من عذابات كبت الجسد الى عذاب الاحتقار الروحي ، اي ان الحل الذي لجأ اليه كان هو بحد ذاته مشكلة من نوع آخر ، والحال منطبق على (علي) صديق احمد الذي لجأ الى المغامرة بالهجرة كحل للرعب المتربص به في بلاده لتصيبه رصاصة في رأسه ولتحول رحلته من رحلة جسد الى رحلة روح بكامل وعيه لأن وعيه كان حاضرا في الوعي الجمعي لسكان الحافلة التي تقل الاحياء والموتى في وقت واحد بل بتوقيت واحد اطلقت عليه كاتبة الرواية توقيت بغداد ذلك التوقيت الذي يحمل كل المتناقضات والمتضادات والنزاعات والاتفاقات ويتمازج فيه القبح بالجمال ويتداخل به العقل والجنون ، البناء والهدم وكل اعاجيب الحياة تجتمع بتوقيت بغداد التي تحكمها عقول الموتى بأجساد الاحياء ففي توقيت بغداد يحدث أن يتقدس الميت اكثر من الحي بل ان الحي في خدمة الميت وقد يسال دم الملايين لأجل شخص ميت منذ قرون ان توقيت بغداد الحقيقي حافل بالالم وحين يحيله الكاتب الى رواية لابد ان تحمل كل هذه المتناقضات والتضادات والعجائب التي لن تجدها قد اجتمعت في زمن ومكان سوى بتوقيت بغداد هذه رؤيتي ووجهة نظري التي احتملها لاختيار هذا العنوان لهذه الرواية وقد تحتمل الصواب ضمنيا او كليا.
نعود للمغزى من الرواية التي تبدو للقارئ مجموعة كبيرة من المشاكل يحاول العالقين بفخاخها طلب النجاة والحلول السريعة والقريبة ونعود لمثال (الزوجين داخل الحافلة)والذين بعد جدال طويل بينهما واذعان الزوج لرغبة زوجته ورغم عدم اقتناعه تماما بالحل لكون بقاءهما في الوطن يعد مشكلة ومع قرارهما بالهجرة الى خارج الوطن لكن سرعان ماتبدد حلمهما بالوصول الى وطن جديد واستحال عذابهما الجسدي في وطنهما الى عذاب روحي لأنهما ادركا انهما خسرا اجسادهما وانهما ماضيان الى حيث لايعلمان وكان الحل لمشكلتهما الجسدية مشكلة من نوع آخر ، والى داخل الحافلة التي كانت تقل (قط وكلب) في آن واحد والتي فشل السائق بالتخلص من ازعاجهما له طيل حياته في الجسد فكانت ساعة خلاصه من هذه التناقضات المادية هي عينها ساعة دخوله الى تناقض جديد يتمثل بأحساسه الواعي بالحياة حتى بعد الموت والذي في حقيقته هو الوعي الفردي المتحرر من الجسد والذي يلتحق بالوعي الجمعي للبشرية كلها، وعي آدم وحواء ، النفس الواحدة التي خلق الله منها كل الانفس او لنقل تجزأت منها كل الانفس والتي تبدو في عالم الشكل متعددة، لكنها في عالم الوجود واحدة، إن المتتبع لموضوع رواية بتوقيت بغداد يمكنه أستنتاج ان كل الحلول التي يطلبها البشر لمشاكلهم إن هي إلا عملية تحويل ونقل لمشاكلهم من حيز الى آخر وأن مشكلة الجميع الحقيقية كانت هي تصديقهم بوجودهم الشكلاني والتمادي بالاهتمام لمتطلبات ذلك الوجود ولوازمه بينما كان الحل الناجح والوحيد لكل تلك المشاكل هو الحرية والانعتاق وفك الروابط مع كل مايكبل الوعي من اوهام وقيود ومعتقدات ثقيلة وموروثات خانقة وطموحات لاتفضي الى نتيجة مرضية ومشبعة ، إن الموت الذي اصاب اجساد الجميع بتفجير الحافلة كان يمكن ان يستفيد منه الركاب لكن اسرهم للوعي بالماديات قبل لحظة فناء اجسادهم لازمهم بعد فناءها ، ومالم ينل المرء حريته قبل الموت فلن ينتفع بها بعده ، وهذا ماحدث بالضبط مع راكبي الحافلة والذين ماتوا عبيدا وبقوا بوعي العبيد بعد موتهم ، وهذا مايجري في واقعنا الان فقد مات العبيد في بلادنا منذ قرون لكن وعي العبودية حي في اجساد هذا الجيل الذي يقاتل بعضه بعضا وينازع البعض الاخر اصرارا منهم لاستكمال المضي على طريق افكار العبودية ومجانبة كلما يقود الى التحرر والانعتاق من حيز المشكلة الحقيقية المتمثل باستعباد الوعي الانساني واختزاله في حيز الشكل بحيث تجعل منه يتصور ان بعد الموت عالم شكلاني ايضا الى حيز الحل الحقيقي والمتمثل بالحرية الشاملة والانسجام مع عالم الوجود الحقيقي والذي لاشكل له ولا صورة ، ومن يعلق بالشكل فهو متجسد فيه لامحالة ومالموت الذي يشمئز منه معظم البشر سوى المرحلة الاولى من التحرر من عالم الشكل الوهمي الى عالم الحقيقة الذي لاصورة له ، لذا فالموت يعد فرصة وحضنا للراحة شريطة ان لايحمل الانسان معه وعيه بنفسه ، لأن وعي المرء بنفسه هو بحد ذاته مشكلة ولاسبيل للخلاص من ذلك الوعي الا بزوال الصورة والذي ينجم عنه زوال الرغبة والضابط الوحيد لتلك المتلازمات في هذه النشأة هو حرية التحكم بهذا الترتيب لا ان يعيش المرء محكوما ومستعبدا لوعيه بذاته ولوازمها في عالم الشكل.
إن الحلول التي قدمتها كاتبة الرواية كانت في عالم لم نبلغه بعد او لنقل ان الحل لمشاكل الجميع بتوقيت بغداد كان يكمن في عالم آخر تتنبأ عنه الكاتبة بوحي الابداع الذي لايترك المشكلة من دون حل ولو في عالم افتراضي او حتى خيالي ، لقد تخلص الجميع من اجسادهم وتحرروا من اوجاع الحياة لكن وعيهم بأنفسهم عاد لينغصهم في قلق المصير ويثير بداخلهم عدم الارتياح لأنهم لايعلمون وجهتهم ومستقرهم، إن اعذب عذابات الوعي الانساني هو اعتقاله ودفعه بكل قوة لتقصي مالايمكنه الوصول اليه بسبب فارق السرعة والتوقيت، فمهما تكن سرعة الحافلة فهي لاتجاري سرعة الاحداث، فللحافلة للزمن وللاحداث زمن، وازمنة لانهائية متداخلة مع بعضها على شاكلة توقيت بغداد الذي تجتمع به وتتداخل به كل التناقضات ويمتزج به المنطق واللامنطق والعقل واللاعقل والماضي والحاضر في آن واحد .

العراق / 2 آب 2020








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أشرف زكي: أشرف عبد الغفور كان من رموز الفن في مصر والعالم ا


.. المخرج خالد جلال: الفنان أشرف عبد الغفور كان واحدا من أفضل ا




.. شريف منير يروج لشخصيته في فيلم السرب قبل عرضه 1 مايو


.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح




.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار