الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
من ذاكرة الطفولة .!
ميشيل زهرة
2020 / 8 / 3الادب والفن
كجلد شاة جاف ، قد التهمها ضبع ، كانت ضيعتنا مرمية على تخوم الصحراء ..و القحط يعضها بأنياب من جفاف انتشر في وجوه القاطنين و هاماتهم المنحنية الهزيلة ..بعض كلاب هزيلة تنتظر سقوط نعجة لا تقوى على الوقوف ، كي تلتهم ما تبقى فيها من حياة ، لتقوى الكلاب على البقاء ..و كلما تضاعفت سياط اللهب الحارق على أجساد البشر ، تتوهج الأرواح تعلقا بالوهم و قداسة السلف ، عله ينقذ الأحفاد من موت مؤكد . يوم ذاك ، كان الصبية يلبسون جلابيبهم الممزقة ، و يهتفون بقرار من الشيوخ : يا ام الغيث غيثينا ..شتي على زراعينا .!! ، يتقدمهم صبي حقنوا في ذاكرته ، مئات من أبيات الشعر الصوفي مجبرا ، كي يبارون به الصبية الآخرين ، من جيله ، كديوك الصراع ، في السهرات الشاحبة في الليالي المقمرة ، على الأسطح ، و يراقبون القمر البدر ، الذي يؤطر صورة الزعيم الخالد الطالع على أكتاف الوعي المحبط المستسلم لبعض قطع من خبز شعير ، مخلوطة ببعض طحين من أكياس كتب عليها : هدية من الشعب الأمريكي . أذكر : إن ذاك الصبي ، الذي أطفأ شمعتين من حياة ، قد حملته عمته الحسناء الشاحبة على كتفها ، و حمّلته مشعلا صغيرا ، و مشت في القطيع الهاتف : عبد الناصر يا جمال ، يا رئيس عروبتنا ..فيك حققنا الآمال ، أنت غاية وحدتنا .! بعد سنتين صار في حوزة الصغير أربع جوارب من صوف النعاج النافقة ، كانت تحاك له كل شتاء بلا مطر ..! عندئذ صار يركض مع القطيع بلا مشاعل نار ليهتف مع ذات القطيع : عبد الناصر يا قيقة ، يا صرماية عتيقة ..و الذاكرة تسجل كل نأمة في محيط الصبي . يومذاك ، لم يعرف الصبي إن الآلهة كأوتاد الخيمة ، عندما تُقتلع من أمكنتها تضعف ، و تصبح هزيلة في الروح . أذكر في تلك المرحلة أننا اقتلعنا الأوتاد ، و حملنا خيامنا ، على ظهور أتن هزيلة ، إلى أماكن بعيدة فيها خضرة وماء ، لننقذ ما تبقى من حياة في أوردة الكائنات ..! في مكاننا الجديد ، كان البط يبيض على شاطيء النهر ، و يفرّخ بسلام ..هناك سمنت أغنامنا و دوابنا ..و تورّد وجه أبي ، و صار يغني أغاني عشق لأنثى بعثت في وجه أمي الثانية الغضب . و لم يرتدع ..و الصبي تعلم العوم في الماء ، و فكر ، و قارن بين الجفاف ، و بين الشح ، و الوفرة ..فنسي ألفا وخمسمائة بيت من الشعر الصوفي الذي حقن بها قسرا ..! في ليلة قمراء جلسنا على السطح ، و كان القمر بدرا .و لم نر صورة الزعيم في القمر ..بحثنا عنها طويلا و لم نجدها . حتى الأب الغارق في وهمه القمري ، بحث عنها طويلا ، و اندهش من أنها غابت من الواعية التي كانت أيام القحط و الجفاف . فطلب من الصغير ، أن يلقي على مسمعه بعض قصائد من ذاكرته ..فحرنت الذاكرة و لم تستجب فقال لأبيه : نسيت يا أبي ..و لم يجبره الأب على إعادة الحفظ ..بل اكتفى أن يقول : ماذا لو طلب جدك منك أن يسمعها ..؟ سأقول له : نسيتها يا جدي ..و كفى .! هذا الاقتلاع لوتد الخيمة ، جعل الصبي ينسى الفروض التي تلقاها في الجفاف ، على ضفة نهر ينساب ماؤه رائقا ، و ينحني الصفصاف كزرافات رمت أعناقها لتشرب .و الفطر ، و بيوض الطيور تنتشر على الضفة ..و السمكات الصغيرات ، كان يلتقطها بسنارة صغيرة صنعها من دبوس كانت تضعه أمه الثانية في غطاء الرأس فانفلت الغطاء ، و بان الشعر ..هذا الوتد الذي اقتُلع مرة و أعيد دقه في أرض جديدة ، سوف يقتلع ثانية ، و ثالثة ..و كلما اقتلع تنفلت ذراع الاخطبوط المقدس عن روح الصبي الحالم بعوالم لم تطؤها قدم ابن امرأة من قبل ..فتهتك المقدس في روحه ، وخبأ إلهه الأخضر في قلبه ، ولم يعد إلى حيث كانت الكلاب تنتظر الشاة حتى تسقط كي تلتهمها ، لكي لا يسمح باغتصاب ذاكرته مرة ثانية.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي
.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل
.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج
.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما
.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا