الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراة في رواية سنوات الغروب

الغربي عمران

2020 / 8 / 3
الادب والفن


سنوات الغروب.. فنتازيا الرعب.. لمتخيل نوازع النفس الحيوانية فينا!
مصطفى سليماني روائي مصري.. غزير الإنتاج.. صدرت له رواية جديدة.. عن دار غراب في القاهرة. أكثر من مائتين صفحة. وزعت إلى سبعة عناوين.. وهي: عاصي.. آية .. خليل.. وزير.. نهى .. نوح.. وداسم. تلك العناوين أسماء لشخصيات الرواية.. التي تتناوب على سرد الأحداث.. في إيقاع متوازن ومشوق.. حتى نهايتها.
المكان جزيرة تفصلها مياه عن بر شرقي وغربي.. ومع ذكر البر.. تنشط ذاكرة القارئ .. مستحضرا ما تعنيه الضفاف في الحضارة الفرعونية.. شرقي النيل للحياة.. والضفة الغربية للمدافن والآخرة.. وهنا تبدأ مخيلة المتلقي بالتفاعل مع جغرافية هذه الرواية وأحداثها.. وشخصياتها.. حيث تمتزج الأسطورة بالواقع المعاش.. وتتجاذب شخصيات مجتمع الرواية سطوة الإيمان بالكرامات.. وقدرة الأولياء على اجتراح المعجزات.
محور الرواية يدور حول هيمنة الغرائز البشرية.. بداية بما صنعه الولي "بحنة" العجوز التي نذرت نفسها لخدمته: "عمتي كانت تخدم الولي.. تكنس حجرته.. تعد طعامه من التمر والخبز المقدد.. وقليلا من الماء.. تدثره عندما يغفو.. هكذا نذرت عمتي حنة خدمة للولي ثلاثة ايام.. ألا تكلم أنسنا لما فعله معها". ويمكننا هنا أن نتخيل تلك العلاقة بين حنا والقائم على خدمة ضريح الولي.. وما يدور حول الأضرحة وتحت سقوفها. ولذلك يروج لكرامات لم تحدث من قبل المستفيدين من بث التخاريف .. فمثلا يحكي عاصي عن كرامات الولي الذي أعادها شابة في العشرين.. تلك الشابة أنجبت له صبية هام بعشقها من رآها. ولذلك نجد أن عاصي يقتل صالح بسبب حب إحدى شخصيات الرواية " آية". ولم تكن تلك الجريمة هي الوحيدة.. فقد تكرر القتل لأكثر من مرة فالأخ أيضا يقتل أخيه من أجل امرأة.. والأب يقتل ابنه حين يجد ابنه يعاشر زوجته.. ويقتل زوجته. وكأن القتل جزء أساسي من حياة ذلك المجتمع .. الذي تعشعش عادات وقيم تنتسب للدين في حياتهم.. ومعيشتهم وعلاقاتهم. ولذلك عمد الكاتب إلى أن يجعل الحدث غير متنامي.. ولا متصاعد.. أو متحولاً إلى أزمة.. بل أخذ بتكتيك مختلف.. يتمحور حول تشظى تلك الأحداث.. إلى مسارات من الدهشة والتشويق. تشعب سمتها التفرع الفنتازي . وكأننا في متاهة لا تنتهي: "شرعت في نزع ثيابها ببطء.. وتصدر تأوهات الشوق.. خرج داسم من ركنه المظلم.. امسى وجهه جمرة متوهجة.. ارتعدت .. اوصدت الباب.. بضربة يد واحدة قصم الباب الى نصفين.. حدق في الفتاة فتبولت في ثيابها.. في الصباح كانت مشنوقة الى جذع النخلة ". مشهد وكأننا أمام كائن له قدرات خارقة.. أو نصف الهة وقد بعث من حضارة الفراعنة. ليصوره الكاتب بقدرات لافتة.
يحلق الكاتب بقدرات فذة.. بين عوالم شخصياته.. "فعاصي" القاتل يهيم على وجهه بعد أن فقد بصرة باحثا عن آية.. وكأننا أما قيس وليلى وحكايتهما الخيالية.. والمفارقة أن إسراء شقيقة عاصي بدورها تهيم في حب خليل المنشغل بحب آية. ومن جهة نجد وزير هو الآخر يهيم حبا بآية.. دوامة .. تدور حولها شخصيات الرواية .. وفق عاطفة مبهمة.. تقارب السحر تتخلل ذلك النسيج الهش.. لتلقي بظلالها على حياة مجتمع يعيش بمعزل عن الحياة المعاصرة.. له ايقاعه الخاص به. ففيه تتصاعد الغيرة المجنونة وروح التنافس على السيطرة العاطفية والانتقام.. وذلك الإنتقام يتحول إلى شغل شاغل لجميع الشخصيات.. فعاصي ينتقم بقتل صالح.. حين يراه عقبه في طريق حبه لآية. وهكذا تحذو حذوة بقية شخصيات الرواية.. وكأن الحب سمته العنف .. فالجميع لا يجيدون إلا الانتقام.. والعلاقات الجنسية ممارسة يكتنفها العنف. "ماذا لو اختارت خليل أأقتله؟ سأتدبر الأمر لن أجن مثل أخي.. ربما تختارني.. كيف وأخي قتل صالح...".
رواية نسجها كاتبها بتخييل مدهش. حابكا أحداث وعلاقات متداخلة ومتقاطعة في حياة غريبة.. ولا تتصل بمجتمعات عصرنا الحديث.. في الوقت الذي يوحي بأن ذلك المجتمع يعيش في عصر قريب من عصرنا.. وليس موغل في القدم.. بل مجتمع له فضاءه المغلق.. وله همومه الخاصة.. مجتمع قريب من أيامنا كما توحي شجرة أسرة نوح.. التي تتكون من: نوح.. وزوجاته.. سمراء.. لاقيس.. وزير.. اسرى.. عاصي . المعتصم.. خليل.. صالح.. النهى. حنة.. آية الجمال. داسم .. الغريب. ونوح ذلك ليس نوح صاحب الطوفان كما يتبارد إلى الذهن.. ففي صفحة أخرى خط عتبة على لسان نوح "إلى أحفادي: أكتب إليكم على جدار الحياة.. أكتب إليكم وأنتم في رحم الغيب.. احذروا أخاكم.. فأنا لا أملك لكم شيئا.. ولم أترك لك سوى الصحف". وهذا الخطاب يقودنا للتساؤل: الكل عصر نوحه.. وفي كل عصر مجتمعاته المتناقضة.
ومع الإبحار في متن الرواية نجد أن الكاتب يرسم لوحاته السردية لمجتمع في جزيرة مقسمة بين أحفاد نوح وجبال تفصلهم عن خطر اعتداء وحوش كاسرة. تلك الجزيرة تتخللها وديان وأنهر وبحيرات.. وكأنها تمثل الأرض.. أو مقطع مصغر عنها. أو قطعة منها.. يعيش مجتمعها في خضم صراع عنيف لا ينتهي. "انا وحدي رأيته يأمرهم بنزع جلبابها.. يسكن النوم عندهم.. حتى أنفاس الصباح.. يخرجون اليه بثياب مبتلة بعرق العشق.. يرون البكر عارية.. ورمح مغروس في قلبها". ذلك المشهد يقودنا إلى الأضاحي التي تقدم للأنهر والغابات.. ومن العذارى.
لتتعدد عوامل الصراع.. فتارة على حكم الجزيرة.. وأخرى على خلاف في العقائد.. وثالثة على الذهب والنفوذ. "قبل الطوفان الاعظم كان لكل أمة كتاب تدافع عنه.. وتقتل من اجله.. وكثرت الحروب في الارض. وانقسمت كل امة الى امم.. تتقاتل من اجل نصرة نفسها". تلك الجمل تضعنا أمام ما يعتمل في أيامنا.. فالكل يقتل الكل رافعين نفس الشعارات الدينية.. شعارات الدفاع عن الله ودينه. وكأن الدين وقد تحول إلى معضلة.
أحداث لا يتوقعها عقل.. فكما ذكرنا عاصي يقتل صالح من أجل امرأة ووزير يقتل أخيه عاصي أيضا من أجل امرأة.. و"اسم" يقتل وزير... وهكذا سفك الدماء سمة لشخصيات هذا العمل.. وكذلك تلك العلاقات الحميمة التي تتم بسهولة وكأن ذلك المجتمع قطيع تسيره غرائزه الحيوانية: "عاشت معي.. بطنها تكبر يوما وراء يوم.. وجاءها المخاض في الشهر السابع.. جئت إلى الدنيا ابنه سبعة أشهر.. ماتت أمك في يوم سبوعك.. في حجرة الخزين حفرت لها قبرا فكرت أن أدفنك معها لكني اخاف الله...". ومقطع آخر "تخرج في الليل.. تغني للرجال.. فيذهبون لمعاشرتها.. تجرجرهم إلى قاع البحيرة.. لتطفوا جثث الرجال بعد سبع ليالي". مشهد يثير في أفق تفكير القارء لدوافع تلك الشخصية.. وكأنها كتل من الغرائز ليس إلا.
إلى أن تناجي آيه رافعة صوتها أمام الضريح "ايها الولي.. يامن جئت بالخير.. قتلت الغريب.. سجنت الساحر.. ارشدت الصيادين لرزقهم.. نجستنا من الذهب الملعون.. لمن تتركنا.. أنا قبس منك .. قبس يبهر الناظرين". تلك هي آية فتنة الجزيرة.. والتي كانت سبب في قتل بعضهم.. وعمى .. وضياع.
ولم ينحصر القتل بسبب التنافس على آية.. بل تجاوز لأن يزني الأخر بعروسة أخيه "العروس تحاول ازاحته.. يتمسك بها.. اركله من فوقها.. لكمات متتالية.. يحملني ويلقيني بعيدا عنه.. تحاول العروس الفرار.. يلحق بها ينكب فوقها.. استل السيف بضربة واحدة اقطع راسه...". تلك فقرة تصف لحظات اكتشاف وزير لعروسة تحت جسد أخيه.. لكن داسم يأتي بدوره ليقتص من وزير.. ويتم قتله أمام الجميع باسم انزال العدالة على فاسق.
ومن ذلك التخييل الذي يوهم المتلقي بأن مجتمع الرواية إنما أستله الكاتب من عصور غابرة.. لنكتشف بأن تلك الشخصيات تعيش بيننا في عصرنا الحاضر":فوق اعلى ناطحة سحاب بالعاصمة.. بعيدا عن كل ابنائي واحفادي.. بعيدا عن كل طلابي بالجامعة واصدقائي.. احتفل بيوم ميلادي.. في ركن قصي قاعد انا والليل...". حين نكتشف نوح بعد سرده لنا ما يعيشه.. نكتشف أن ما يعنيه الكاتب أن جميعنا جزء من مجتمع هذه الرواية.
بتلك الكلمات ينجلي الغموض.. وما كنا نظن بأن الرواية تدور حول نوح الأسطوري.. انما نوحها نوح معاصر نوح يعيش بيننا قد تكون أنت أو أنا أو هو.. وأن الرواية تناقش أفات عصرنا من حروب وفتن دينية.. وكأنه يبشر بطوفان جديد يخلص الأرض من شرور الإنسان وقد أستخدم الدين لسفك الدم ومفاسده.
لنقرأ هذه الرواية ونحن نعيش رعب كورونا.. هذا الفيروس الذي يفتك بالبشر.. فهل تنبأ الكاتب أيضا ما نعيشه.. وكأنه طوفان من نوع آخر "بل هم الاضعف.. دائما يتقاتلون باسم الدين.. باسم الوطن.. باسم الحرية.. الحرية التي يشنقونها على ابواب مدنهم.. يتشدقون بالحب وقلوبهم ممتلئة بالكراهية.. يتشدقون بالمساواة والعنصرية جذورها في قلوبهم.. انا اكثرهم قوة". فهل كوكبنا بحاجة إلى طوفان أشد من كورونا.. أو طاعون جديد. يخلصنا من نزعاتنا وغرائزنا التي تحولنا إلى قطعان دموية. إلى كائنات متسلطة وعنيفة.. لوثت كل مقدس في سبيل اشباع غرائزها الحيوانية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..


.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما




.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى