الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأسس النظرية لأهم قضايا المسألة القومية (2)

عبدالله تركماني

2020 / 8 / 5
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


2- الحداثة والعقلانية
ليس من نظرية للحداثة بل ثمة منطق وأيديولوجية للحداثة، ففي الغرب وُلدت بعد التحوّلات العميقة الاقتصادية والاجتماعية، وهي تتجلى في كل الميادين: دولة حديثة، تقنية حديثة، آداب وفنون حديثة، عادات وأفكار حديثة. ولا نستطيع تجاهل أثر التطور السريع للعلوم على مفهوم الحداثة، فـ " الحديث عن الإنتاجية القصوى وعالمية الانتشار وتسارع الأدوار واتساع المشاركة هو حديث يحمل معه قيماً أخرى للحياة، ونمطاً جديداً للحضارة " (1).
أما العقلانية فهي " الطرائق الجديدة التي يبتدعها الإنسان على صعيد الواقع أو النظرية لتحسين مردودية جهده ورفع فعاليته "، وهي ببساطة " القدرة على الترشيد في العمل والنظر الإنسانيين، وهي القدرة الناجمة عن تراكم الخبرة البشرية والحضارية "، وأنّ اقتصاد الجهد الذي هو المعنى الوحيد للعقلانية " يقوم على التنسيق والترتيب والتنفيذ وتنظيم المعطيات الموجودة في الواقع، بما في ذلك الواقع الإنساني والاجتماعي بحسب منطق يقلل من الهدر في الوقت والجهد "(2).
وبمعنى آخر، إنها البحث المستمر في المعايير التي تقاس بها صحة الاستراتيجيات التي تصوغها الجماعات أو تسعى إلى صياغتها من أجل إحراز التقدم ومسايرة التاريخ. إنها تؤمن بالاكتشاف التدريجي للحقيقة بواسطة العقل وحده، ومع هذه الحركة الفكرية انخرط المجتمع والدولة في طريق العقلنة.
ومن جهة أخرى، لابدَّ أن نلمس حقيقة الوجه المزدوج للحداثة الأوروبية، إذ إنّ حملة نابليون بونابرت على مصر والشام (1798-1801) نقلت معها الدعائم الثلاث التي قامت عليها الحداثة الأوروبية: القوة، والمنافسة، والمعرفة (التوسع الاستعماري، التنافس الأوروبي البريطاني- الفرنسي، الفكر التحديثي).
صحيح " أنّ المشروع النهضوي العربي لم يتبلور إلا مع حملة نابليون على مصر، وانطلاقاً منها، ولكن صحيح أيضاً أنّ علاقته بالحداثة الأوروبية بوصفها، في آن واحد، مشروعاً للتقدم وللهيمنة، ظلت محكومة منذ البداية، والى اليوم، بهذه الأبعاد الثلاثة ". لقد ساد فكر " الأنوار"، الذي أعلى من شأن العقل ومجّد القيم الإنسانية المثلى (إخاء، حرية، مساواة)، وجه الحداثة في أوروبا خلال القرن الثامن عشر. ولكنّ الوجه الآخر سرعان ما أخذ " يزاحم هذا الوجه التنويري داخل أوروبا نفسها، بل وفي أوساط الثورة الفرنسية ذاتها، التي كانت التعبير العملي لأيديولوجيا الأنوار، والتي امتزج مجراها بما يتناقض مع مبادئها... لقد بدا واضحاً منذ أواخر القرن الثامن عشر أنّ قيم الحداثة هذه تفقد، عند أهلها والمبشرين بها، صبغتها الإنسانية المطلقة عندما يتعلق الأمر بمجال آخر غير مجال الصراع مع القوى صاحبة الامتياز في الداخل ".
وإذا كانت حملة نابليون على مصر والشام قد كشفت للعرب عن حقيقة هذه الازدواجية (التنوير- الاستعمار)، فإنّ المشروع النهضوي العربي قد قُدّر له أن " يعيش في عصر انحسار الوجه التنويري وطغيان الوجه الآخر في الحداثة الأوروبية " (3).
وبتحليل مضمون الخطاب التحديثي العربي يتبين أنّ مقولة الحداثة قد اكتسبـت ثلاث دلالات متباينة، تختلف بحسب السياقات النظرية (4):
(1) - دلالة تقنية، تتلخص في مقتضى الأخذ بأسباب القوة التقنية، واستيراد العلوم الحديثة واستنباتها، وعياً بأنّ هذا المسلك هو الكفيل بتدارك الغرب المتطور، الذي لم يصل إلى موقعه الريادي المتقدم إلا بفضل هذا النهج العلمي التقني.
(2) - دلالة تاريخية، تماهي بين مفهوم الحداثة ومرجعيتها الغربية، باعتبار نشأته الأصلية في المجال الأوروبي، وارتباطه بمجموعة من العوامل النظرية والمجتمعية، أصبحت بالضرورة داخلة في تعيين معاييره ومقوّماته، ومن ثم فإنّ أي مشروع تحديثي لابدَّ أن يستلهم هذه الرؤية الغربية، التي تمسّكت بها المجتمعات التي سلكت المسلك التحديثي.
(3) - دلالة تصورية نظرية، تضبط مفهوم الحداثة في حقله الدلالي، الذي تعبّر عنه مقولات التقدم والتنوير، وقيم العقلانية.. وغيرها من المفاهيم المؤسِسة للفكر الحديث، مع تباين واضح في ضبط وتوظيف هذه المقولات والقيم، مما يعكسه اختلاف التيارات الفكرية والأيديولوجية العربية.
ومن هنا تبدو أهمية الاستعادة العقلانية النقدية لفكر النهضة العربية الحديثة، خاصة ما يتعلق منه بمعنى الدولة الحديثة والفرد والمجتمع، إضافة إلى أدواتها المفاهيمية (حقوق الإنسان، المواطنة، الأمة، المجتمع المدني، التعاقد الاجتماعي، الشرعية الدستورية القانونية، العقلانية، الديمقراطية، التنوي). وتبرز أهمية مثل هذه الاستعادة إذا علمنا أنّ الحداثة عندنا جاءت عبر نخب تأثرت بالأفكار الغربية الحديثة، ولم تحاول تكييفها مع واقع البنية المجتمعية العربية، بل حاولت فرضها مجتزئة على هذه البنية، عبر السيطرة على جهاز الدولة أو استغلاله. وقد ولّد هذا انفصاماً بين البنيتين الدولاتية والمجتمعية، لم نجده في الغرب.
ولعل العودة إلى مفاهيم " الوعي المطابق " يساعدنا في هذه الاستعادة العقلانية النقدية، فالمستوى التاريخي في إنتاج وعي مطابق للواقع " يومئ إلى أنّ الواقع العربي لم يحقق الثورة القومية الديمقراطية، فهي هدف لابدّ منه لتحقيق الاندماج القومي في وجه التكسّر الاجتماعي.. فالثورة الديمقراطية ضرورة داخلية تستدعيها " المواطنية " لتجاوز " الرعوية " و" الأموّية " لتجاوز " المللية "، حيث تحديث السياسة بالديمقراطية، وتحديث الثقافة بالعلمنة، من أجل صياغة وعي وطني حديث قادر على القبول بالتعدد والتنوع والمغايرة " (5).
1- د. شرف الدين، فهمية: (المشروع القومي العربي المعاصر ومفهوم الحداثة) - عن كتاب: العقلانية العربية والمشروع الحضاري، الطبعة الأولى - الرباط، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية -1992، ص 181.
2- د. غليون، برهان: (العقلانية ونقد العقل) - عن كتاب: العقلانية العربية والمشروع الحضاري، ط1 – المجلس القومي للثقافة العربية، الدار البيضاء 1992، ص 181.
3 – د. الجابري، محمد عابد: المشروع النهضوي العربي/ مراجعة نقدية، ط1 - بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية – كانون الأول/ديسمبر 1996، ص 20-21.
4- د. ولد أباه، السيد: (عوائق الفكر التحديثي العربي -1- العائق الإبستيمولوجي) - عن صحيفة " الشرق الأوسط "، لندن- 18 أغسطس/آب 1996.
5- د. عيد، عبد الزاق: ياسين الحافظ/نقد حداثة التأخر، ط1 – حلب، دار الصداقة 1996، ص 11.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قوات الاحتلال تقتحم بلدة شرقي نابلس وتحاصر أحياء في مدينة را


.. قيادي في حماس: الوساطة القطرية نجحت بالإفراج عن 115 أسير من




.. هل باتت الحرب المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله أقرب من أي وقت


.. حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان..إشعال ل




.. طلاب جامعة كولومبيا الأمريكية المؤيدون لغزة يواصلون الاعتصام